اختار الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، دولة تونس، مهد الثورة العربية الجديدة، ليعلن بصريح العبارة أن الربيع العربي لم ينتهِ، كما لو أن العنوان أعد أصلاً لرواية، تنتظر حلاً سحرياً لمشاقّ الحوض الأبيض المتوسط.
التخييل هنا لا محل له من التاريخ، هي قراءة فرنسية لمجريات التقلبات الإقليمية، من زاوية تبعات تكريس الديمقراطية.
الملاحظات التي تسترت عليها قراءة رئيس فرنسا الشاب لا شك أنها نبهت عديدين من متتبعي الوضع السياسي في المغرب إلى ما يقوله عادة من رأوا فيه هبةً من العناية التاريخية، الذين كانوا يردّدون، كلما توترت العلاقة بينهم وبين صناع القرار في المغرب، إن الربيع العربي ما زال يتجول. ومن أولى الاستنتاجات أنه يمكن أن يعود، أو تقوده نزهته التاريخية إلى الحديقة الخلفية للشارع العربي، حيث تنبت الثورات.
إيمانويل ماكرون، وهو يقدم هذه القراءة، ربطها بجدول أعمال الديمقراطية التونسية، ودعا بوضوح إلى ضرورة وواجب إنجاح انتقالها الديمقراطي، لكي تبقى مثالاً يُحتذى. وهو هنا يدعو تونس إلى تدبير الربيع العربي، من خلال تدبير نموذجها، والحرص على استمرار جدول أعمال النقلة التاريخية بمواصلة الانتقال.
ولعل الأفيد في مقاربة عقل فرنسي في قلب دولتها، والذي يرث، من ضمن ما يرث، عن علاقة بلاده مع محيطها المتوسطي، تاريخ علاقة جد متراكبة مع تونس، تتجاوز علاقة المستعمر السابق مع مستعمرته السابقة. جديد العلاقة التي نحن بصددها أن لانتقال تونس الديمقراطي، أو في لبه بالذات، مفهوماً محدداً للدولة ومدنيتها، حتى لا نقول علمانيتها. ويتجلى ذلك من خلال:
أولاً، ثورة ثقافية عميقة، وهو بهذا يعطي للربيع التونسي، أو العربي في شقه التونسي، حمولة ثقافية تتجاوز الصراع على السلطة، أو انتزاعها من نموذج سابق في تدبير إكراهات التطور مع زين العابدين بن علي أساساً.
ثانياً، حرية المعتقد والمساواة بين الرجل والمرأة، وهو بحد ذاته تميز كبير، طبع تجربة تونس في تدبير استعصاء حضاري، ما زال يشكل ركناً أساسياً في الاستبداد الشرقي، ويُخْضع أي عملية تنويرية إلى مربع الفقه التقليدي.
ثالثاً، بناء دولة مدنية يثبت خطأ النظرة التي تقيم تناقضاً جوهرياً، إن لم نقل بنيوياً بين الديمقراطية والإسلام.
هي الصيغة الأخرى لما سبق الكتابة عنه في «العربي الجديد» (12 /9 /2017)، إذ تمت الإشارة إلى التوليفة في بلاد الراحل الحبيب بورقيبة بالقول إن البلاد الوحيدة التي تجاوزت السقف، المرسوم للمرأة، ما بين إكراهات التقليد ومحدودية التنوير هي تونس، والتي كرّست ثقافة ونموذجاً جد متقدم في القضية النسائية، حيث حافظت المرأة التونسية على مكتسباتٍ قويةٍ، ورثتها عن الحقبة البورقيبية، وهي حقبة إرادوية تطوعية، كان الموقف الثقافي فيها عند الرئيس المحرّر سابقاً عن كل مواقف التوازنات المجتمعية.
وعلى الرغم من القوة الهائلة للمحافظين التونسيين، حركة النهضة أو غيرها، فإن هذا الوضع الاعتباري لم يتزعزع، بل انتقلت تونس، مع الرئيس الباجي قايد السبسي، إلى مرتبةٍ أعلى، عندما أكد في خطاب، بمناسبة العيد الوطني للمرأة، على ضرورة إجراء مراجعاتٍ قانونية، تساوي بين الرجل والمرأة في الميراث، وأن يسمح لها بالزواج من غير المسلم. وأيدت الدعوة دار الإفتاء في تونس، ما أثار ردود فعل غير مستحبة، غير أن المساندة التي حصلت من الفقه الرسمي جعلت الأمر أقلّ حدة، وانصب النقاش على بُعْدِها السياسي في الظرف التونسي الحالي. وكان لافتاً أن القوة الرئيسية في التيار المحافظ لم تحول القضية إلى صراع، بل اكتفت بالمتابعة، لإدراكها ربما أن المجتمع التونسي لم يعاند هذا التوجه.
ومن المثير أن المجتمع الذي تجد فيه القوة المحافظة، حركة النهضة ومحيطها، ميزان قوة حقيقياً، تكتفي بإدارة الصراع، خوفاً من عودة النظام السابق أكثر من خوفها من «تجاوز» المحاذير العقدية. وهو تفكير من صميم الحداثة السياسية للنخبة الإسلامية التي تدرك أن الصراع هو، في العمق، بين حداثةٍ بدون مضامين ديمقراطية وحداثة ذات مضامين شاملة، تتأسس على ديمقراطيةٍ واسعة، أي حداثة لا تلغي الديمقراطية والتعبيرات الحرة في المجتمع. وهو ما يقودنا إلى بند آخر، دعا إليه ماكرون بصراحة قوية، تحت يافطة المسؤولية التاريخية، مسؤولية هائلة تقع على كاهل تونس، لأن العالم العربي، المغرب العربي، وكل شواطئ البحر المتوسط تصبو إليكم، وهي بحاجةٍ لأن تراكم تحققون النجاح.
فرنسا، هي نفسها التي تعيد قراءة تونس، إذ كانت في السابق إلى جانب تونس الحداثة، في عهد بن علي، وهو أول تصويب تاريخي يحدث، بعد أن كانت الديمقراطية، وهي مفارقة عربية محضة، نقيض الحداثة. وبمعنى آخر، يرفع النظام التحديث، بوصفه مشروعاً نهضوياً، ثقافياً، كما في شقه المادي، في وجه الديمقراطيين الذين يريدون الاحتكام إلى الديمقراطية والسيادة الشعبية، كما في وجه الإسلاميين الذين يريدون السلطة نفسها بأدوات حديثة، لا يعترفون بها في أصل الحكاية.
يعيد ماكرون ترتيب شبكة القراءة، بما يجعل النموذج التونسي قابلاً للتصدير، من بوابة الربيع العربي، كما أنه يقدم، باعتبار بلده مندوبة تاريخياً، لتحديد قيم عديدة للحداثة السياسية في المنطقة، مربع التحرك لأنظمتها، إلى جانب دول أخرى، قد تكون لها قراءة مغايرة اليوم، لاسيما واشنطن.
لا يمكن أن تغيب عنا مصر ولا سورية، في هذه الخريطة الربيعية، كما أنه توجُّهٌ، يجعل باقي الدول في المغرب الكبير، والتي عرفت ربيعها الخاص، أدنى من النموذج التونسي.