بقلم .ديفيد إغناتيوس
جريدة الشرق الاوسط
الثلاثـاء 07 رمضـان 1434 هـ 16 يوليوز 2013
يسترجع هشام ملحم، وهو صحافي لبناني بارز، زيارة مؤثرة إلى جامع قرطبة الأعظم في جنوب إسبانيا في مايو (أيار) الماضي. ومع انهمار الدموع من عينيه يجد نفسه يتساءل كيف انزلقت عبقرية العالم الإسلامي التي تعود لألف عام مضى في العصور الحديثة إلى هذه الحالة من الفوضى والقمع.
كتب ملحم لاحقا عمودا لصحيفة «النهار» التي تصدر يوميا في بيروت يصف فيه زيارته إلى منطقة الأندلس. جاء فيه: «نعم، تطوف وكأنك… في حلم»، لامسا أعمدة المسجد والرفات الآخر العظيم لأثر إسلامي، «اتسمت بثقة عالية بالنفس والشجاعة والانفتاح والتسامح وحب الفكر والفلسفة والفنون والعمارة الجميلة… والسعادة على الأرض».
ما الذي حل بهذه الثقافة الرفيعة؟ لقد حير ذلك السؤال عن العظمة المفقودة العرب على مدى قرون، وظهر جليا للعيان بشكل مؤلم الأسبوع المنصرم، مع اندفاع مصر نحو لحظة جديدة من إراقة الدماء والاضطراب السياسي.
يتوق المصريون إلى عظمة ماضٍ أثمر عن الأهرامات ومعابد الفراعنة الرائعة، وجعل الجامع الأزهر في القاهرة لاحقا حامي حمى المذهب الإسلامي السني. ما وجده المصريون في الوقت الحاضر هو ثورة ظلت، على مدى العامين الماضيين، تلتهم أبناءها، الليبراليين العلمانيين والإخوان المسلمين بالمثل على حد سواء.
لدى حديثي عن هذه الكارثة الناشئة في مصر مع صديقي ملحم، رأيت أنه كان محقا في تركيزه على انفتاح وتسامح ملوك الأندلس. كان هذا التعقيد هو الذي جعل قرطبة تشتهر بكونها «زينة الدنيا وجوهرة العالم». لم يكن المسلمون فقط هم من تقدموا في الأندلس في القرن التاسع، بل اليهود والمسيحيون بالمثل.
يقارن ملحم هذا التسامح الذي ساد في القرن التاسع بـ«السرطان الطائفي» المستشري في وقتنا الحاضر والذي يلتهم سوريا والعراق وعددا كبيرا من الدول العربية الأخرى. كتب في جريدة «النهار»: «كم يبدو إسلاميو الشرق الأوسط اليوم بوعيهم المذهبي الضيق بعيدين عن المنابع الإنسانية التي جعلتهم في ظل الإسلام الحضارة الثانية بعد الرومان. تعطي العالم لغة جديدة للفكر والفن والتجارة وفق رؤية جامعة يفترض أن تكون مبنية على العقل والعدل».
وصفت ماريا روزا مينوكال روح قرطبة التعددية في كتابها «زينة العالم: كيف صنع المسلمون واليهود والمسيحيون ثقافة التسامح في إسبانيا في العصور الوسطى». وتناولت كيف أن الحكام المسلمين العرب في هذه الفترة روجوا لحرية الفكر التي، إلى جانب دورها في إنتاج فن عظيم وبدء ظهور الرياضيات والعلوم الحديثة، سمحت أيضا لديانات أخرى بالازدهار.
إن روح التسامح هذه – التي تعتبر عاملا أساسيا في بلوغ الثقافة الإسلامية أوجها – هي تحديدا ما يبدو أن كثيرا من الدول العربية يفتقر إليه اليوم. الثقافة السياسية مفتتة. والساسة من جميع التيارات تعوزهم الثقة التي تكفل التوصل إلى تسوية والاعتدال. إن السياسة لعبة صفرية، وكل شيء عبارة عن قتال حتى الموت، سواء داخل القاهرة أو دمشق أو طرابلس أو بغداد.
تسلط الأحداث الأخيرة في مصر الضوء على المشكلة: إن لم يكن الاستبداد باسم الإسلام من قبل جماعة الإخوان المسلمين، فإنها تنزلق إلى أيدي الجيش. يبدو أنه لا يوجد حل وسط.
يمكنك أن تلمح بدايات حركة لبناء ثقافة سياسية إسلامية تقوم على التسامح من شأنها أن تدعم المجتمعات الديمقراطية الحديثة. لقد عكف آصف بيات، الأستاذ إيراني المولد بجامعة إلينوي في أوروبانا شامبين، خلال العقد الماضي على الكتابة عما سماه اتجاهات «ما بعد الإسلاموية». وعرض رأيه بقوة في كتاب حول الإسلام صدر في عام 2007.
يؤيد مصطفى أكيول، كاتب الأعمدة والأكاديمي التركي، الانفتاح والتسامح في كتابه الصادر عام 2011 بعنوان: «إسلام من دون متطرفين: قضية مسلم من أجل الحرية». يشرح في كتابه قائلا: «لقد أصبحت على قناعة بأن أحد المتطلبات الأساسية لعالم إسلامي معاصر تتمثل في تبني الحرية – حرية الأفراد والمجتمعات، المسلمين وغير المسلمين، المؤمنين وغيرهم، النساء والرجال، الأفكار والآراء، الأسواق ورواد الأعمال».
أوضح صديق مسلم لبناني في رسالة بريد إلكتروني بعث بها مؤخرا أن الفكرة الموجهة لهذه الحركة ما بعد الإسلاموية هي أن «إقحام الإسلام في الحياة اليومية والسياسة قد أثبت خطورته الجسيمة على الدين… وبهدف إنقاذ الإسلام، يتعين عليك رفعه مجددا إلى مكانة عليا وحمايته من البشرية التي تسعى لتحقيق مصالحها تحت اسمه».
إن تأييد قيمتي التسامح والاعتدال في وقت يقتل فيه المصريون والسوريون بعضهم بعضا قد يبدو حماقة، ولكنه يرتكز إلى حقيقة عملية. لإعادة اكتشاف العصر الذهبي الذي تجسده «الأندلس»، يتعين على العالم الإسلامي العربي استعادة الروح الجمعية التي سادت قرطبة وغرناطة. وإلا، فلن يمكن ترميم الثقافة السياسية المفتتة.