هكذا يتم ما يجب أن يتم.
يبقى لنا أن نحين هذه البطولة بتحيين سندها الإنساني:
(1) البلاد التي تصالحت مع ماضيها لم تستكمل المصالحة.. مع الجثمان الموجود خارج التراب الذي نبتت فيه البطولة…
وعندما تتلكأ بلاد ما في المصالحة مع بطولتها، يكون الماضي جدول أعمال راهني باستمرار..
قد يدخل البطل التاريخ
نعم…
قد يدخل القصيدة
قد يدخل مزار الأبدية مرفوقا بالصديقين والشهداء،
قد يجلس في محفل الأنبياء، يشاهد وإياهم شريط الحياة الدنيا بتفاصيله،
بالأبيض والأسود تارة
وبالألوان تارات عديدة..
لكن إذا لم يعد الجثمان إلى تربته في اجدير يظل هناك نقص كبير في الحاضر.
(2) كل أطوار حياته…
ومعاركه…
وكل ظلاله في أروقة الشعوب الناهضة نحو حريتها..
هي وقائع حية تتماثل للخيال، اليوم!
ومما يزيد من غرابة الحاضر، الجاف والملموس، هو أن الراية نفسها التي اجتمعت لإسقاطها جيوش أكبر دولتين استعماريتين في النصف الأول من القرن العشرين، تقدم اليوم ضمن محجوزات الاتهام في قضية أهل الريف..
هنا تحول آخر: يصبح القضاء منصة التاريخ الجديدة، وتحول السياسة مجد البطولة إلى صك اتهام، لا يهم مدى مصداقيته أو لا مصداقيته، المهم هو هذا التحول الذي يجرد الأسطورة من مادتها التاريخية ويرمي بها في أروقة المحكمة..
هكذا يقوم الدليل أن المصالحة عندما لا تستكمل تتحول إلى حاضر مقلق وربما قابل للانفجار في أية لحظة..
(3) وللذكرى هذه السنة نكهة تاريخها الخاص..هذا التحوير الذي يجعل جزءا من البطولة، عندما يعود إلى الحاضر، يصبح تهمة!
هل كان الخطابي يتوقع مثلا أن يقف القاضي المغربي ذات يوم ليسأل متهما في حراك الريف: هل أنت مغربي؟
لا أعتقد أن هناك قوة في الخيال يمكنها أن تتوقع هذا السؤال، على هامش ملف اجتماعي عادي ..
المثير للاستفهام هو أن الدولة يمكنها أن تستخلص من المعضلة الريفية، عندما يخرج الناس إلى الشارع دفاعا عن حظهم من الحاضر والوطن، تستخلص قرارات قوية ومن عمق الفعل السياسي الدستوري، الذي يعطى للمسؤولية قسطها من المحاسبة، لكن يبقى في الضفة الأخرى ميزان العدالة الذي يقاضي الناس على الوقائع نفسها بميزان…. الغرابة!
بلغة أخرى: يقيل الملك كل من أهمل الريف في فعله السياسي، لكن المتابعة القضائية تعيد الذين كانوا سببا في هذا الفعل النبيل ….إلى القفص !
في براعة الخيال، يمكن أن نجد معادلة ما لهذا التناقض: قد يكون أن المغرب المعاصر ما زال مترددا في المصالحة الشاملة، التي تدرج كل الأقدار الوطنية في قدر واحد، وتصهر كل الذاكرات في ذاكرة مشتركة، وتحرر التاريخ من تهويل السياسة وتأويلها..
لعل تسييس الذاكرات من الأزمات التي تنهك الحاضر بكل الالتباسات والتوجسات..هكذا يجد الماضي المجيد نفسه عرضة للاتهام، إذا ما هو عاد إلى حاضر قلق ومتشعب التساؤلات، ويحدث أن تضحي السياسة بكل أمجادها إذا هي استسلمت لمخاوف لا مبررة.
(4) الدولة المغربية، في طورها اليوم إلى أن تتحول إلى أداة لعقلنة التاريخ، وعليها أن تكون في الوقت نفسه حارسة الذاكرة الوطنية المجيدة، حتى لا تتم “خوصصة”التاريخ المشترك لهذا السبب أو ذاك، وتحرص على أن يظل مشتركا متعاليا، وحريصة على أن يكون جامعا وإسمنتا للوحدة الوطنية.. هي التي يجب أن تحرر الذاكرة من أثقال الالتباس والتوجسات.. ومن هنا مهمتها في أن تسحب المصالحة على كل الماضي..
وذكرى بن عبد الكريم الخطابي ليست ذكرى الريف، وإن كان هو “أولمب” البطولة..بل هي ذكرى وطنية!
(5) ما لم تلتقطه حاسات العدالة، هو أن الاعتزاز بمجد ما لا يمكن أن يتحول إلى بند في صك الاتهام!
كما أنه لا يمكن أن يحرر السياسيون الحاليون، من داخل الحراك أو من خارجه، الرمز من بعده الوطني الشامل، الموحد، صانع التماسك ضمن منظومة العزة!
في قراءة الرحلة الشعبية الموحدة لا يمكن أن نغفل مسار الخطابي وثورته، كأفق مغاربي:
هل يعرف الجميع أن البطل بن عبد الكريم استقر في القاهرة، العروبية بامتياز لأنها انحازت إلى امتداده التحرري..ولأنها كانت مهبط الحركات التحررية،
ونحن معنيون بها، لأنه كان مع شلة العز، إلى جانب الزعيم علال الفاسي في قاهرة المغرب الكبير، الذي كان مغربا عربيا وقتها !
(6) مازلت أشعر بالاعتزاز الكبير، وتسري في، بعد قرابة ثلاثين سنة، كهرباء الفخر بشبيبة الاتحاد وفروعه في تلك الفترة، عندما احتفلنا، في نشاط حزبي، وبدعوة مفتوحة، بالذكرى الفضية لرحيل القائد الكبير.. في فبراير 1988، ضربت سلطات الإقليم الحصار على مقر الحزب بشارع الخطابي، وبدأت تطلب من الوافدين، الغزيرين جدا، بطاقات التعريف الوطنية، من باب الثني والتخويف المبطن..مكبرات الصوت التي نصبناها في النوافذ أزعجت بدورها من أراد نشاطا شبه مغلق في مقر الحزب، غير أنها تحولت إلى منصة بذاتها، من أجل أن نتحدث إلى المتجمهرين من الحضور في الشارع العام…
كان حدثا بامتياز
وكانت لحظة مشوبة بالفخر والتوجسات سيكون لها ما بعدها بالنسبة لتلك الشلة المناضلة، التي سرعان ما ستوضع في فوهة التسديد باعتقالات متكررة… هذا التملك النضالي ليس جديدا إذن، والجديد هو أن يوصل أصحابه إلى القضاء، كما لو أننا لم نعقد المصالحة الوطنية الشاملة!