عندما نتأمل في تعقد الحياة والثقافة، نجد أن فيهما جوانب غامضة تثير الكثير من الأسئلة، ما يفيد أن الحياة في جوهرها سؤال، وأن طرح السؤال ملازم لحضورنا في العالم.
وتكمن خصوصية الإنسان وقيمته وفعاليته في ما يطرحه من أسئلة أكثر مما تتمثل في ما يقدمه من أجوبة. إلا أنَّ الثقافة العربية السائدة لا تقوم فقط على الأجوبة الجاهزة المطلقة وعلى الركون إلى اليقينيات كما لو كانت مسلمات وبديهيات لا تستدعي بذل أدنى جُهد للتحقق منها، فأحرى التشكيك فيها، بل ترفض هذه الثقافة أيضا الأسئلة وتكرهها، مع أن أهمية الأسئلة تتجلى في ما تتضمنه من تشغيل للعقل والفكر بشكل عميق وبخلفية نقدية محررة من الطاعة العمياء، وكذا في كونها تتتطلع إلى سبر أغوار الأشياء وتطمح إلى ارتياد آفاق جديدة.
وتفرض الحياة على الإنسان أن يطرح أسئلة على الذات والهوية والآخر والاختلاف والماضي والحاضر والمستقبل.. والسؤال استنطاق للأشياء ومحاولة للنفاذ إلى أعماق الآخر وأفكاره وكيفية اشتغاله ذهنيا. والسؤال شك ينم عن رغبة في اكتشاف الحقيقة…
إن الهوية، ليست جاهزة، بل تتشكل وتُبنى على الدوام، وبذلك فهي مستقبل نسير نحوه وليس ماض نأتي منه باعتبارها مُنْتَجاً كاملا ونهائيا لا يقبل أي إضافة أو تعديل أو إغناء، كما أنها لا تٌورّٓث كما يرث الإنسان منزلا أو أي شيء آخر من أقاربه، بل هي ترحال دائم وليست إقامة في مكان واحد، هي ذهاب متواصل نحو الآخر وعودة إلى الذات ينتج عنهما أخذ وعطاء متبادلين، فتغتني الذات بإيجابيات الآخر وتجاربه وتغنيه بإيجابياتها وخبراتها… هذا هو جوهر مفهوم الهوية.
غير أن الإنسان في مجتمعاتنا لا يعرف ذاته نفسها، فأحرى أن ينفتح على الآخر، لأن ثقافتنا التقليدية تحول دون التحفيز على هذه المعرفة بما تقتضيه من طرح أسئلة لمعرفة الذات والآخر معا. فقد جعل إرثنا الثقافي العلاقةَ بالآخر موضوع شك وارتياب دائمين سواء من قِبلِنا أو من لدن محيطنا، بل ربما جعلته أيضا موضع رفض وعداء، مع أنه لا وجود لهوية جاهزة وكاملة؛ لأن الإنسان يبتكر هويته عبر بنائه المستمر لذاته ومعرفته وقيَّمِه، وخلقه لإبداعاته، وتطويره لإنتاجاته..
يقول أبوحيان التوحيدي ما فحواه إنَّ الصديق هو آخرُكَ (أنتَ) أو هو أنتَ (وقد أصبحتَ) آخرَ. وبصرف النظر عن ضرورة وضع القولة في سياقها الفكري لفهمها فهما جيدا، يبدو أنها تلامس مفهوم الهوية والحريّة والانفتاح وقبول الاختلاف والتعدُّد. فعلاقة الحب بين المرأة والرجل هي خلق لهوية مشتركة بينهما يندمجان فيها. كما أن العلاقة بالآخر هي بحث عن بناء هوية مشتركة بين الذات والآخر. فالذات لا تكتمل إلا بالآخر، كما أن السفر نحو الذات لا يتم إلا عبر الآخر. وهذا ما يجعل الآخر المختلف عنا أقرب إلى ذاتنا ا؛فهوليس مجردإنسان نحاوره، وإنما هو جزء من بنية الذات.
لا تستطيع “الأنا” معرفة نفسها إلا بوجود الآخر ومن خلاله. ولكي يفهم الشرق ذاته، على نحو أفضل، يلزمه بذل مجهود فكري ليفهم الغرب. كما ليس بإمكان الغرب أيضا أن يعرف ذاته إلا إذا فهم الشرق. فالهوية الثقافية شبيهة بالحب، إنها حوار بين الأنا والآخر واندماج بينهما. فليس الآخر ضرورة للحوار فحسب، وإنما هو عنصر مكون للأنا؛ فهو يساعدنا في معرفة ذاتنا، بنحو أفضل، كما يُمَكِّنُ فكرنا من ارتياد آفاق أخرى ويغني حضورنا في العالم بالإطلاع على تجارب الأمم الأخرى والاستفادة منها بالاستلهام أو الاقتباس أو حتى التبني..
نحن لا نملك القدرة على طرح الأسئلة على الذات والتراث، لأن ذلك مٌحٓرّٓم علينا ثقافيا، لكون ثقاتنا ترفض أن تكون مجرد موضوع تساؤل، فأحرى أن تقبل أن يطالها النقد والشك. وهذا ما يفسر أننا لا نستطيع أن نطرح أسئلة جذرية على أسس ثقافتنا التقليدية ومسلماتها…. وكل ما نفعله هو شرح يقينياتها ومسلماتها وبديهياتها، ما جعل بعض مفكرينا يسقطون في ممارسة تفقه جديد في ثوب حديث يعيد إنتاج القديم ويكرسه (أدونيس) ،ولا يطرح أي أسئلة على النظام المعرفي للثقافة العربية…
يقتضي منا ما سبق أن نتحرر من انتمائنا الثقافي الاجتماعي المغلق بأقفال الثقافة السلفية التي تعوق تطورنا. كما يلزم أن نثابر دوما على خلق هويتنا وإعادة خلقها باستمرار عبر الإبداع الفني والإنتاج الفكري المستمرين.
إضافة إلى ذلك، يبدو لي أنه يوجد بداخلي، أنا نفسي، عدوا لي، ما يفيد أن العدو لا يكون دائما خارجيا فقط، بل قد يكون قابعا في الذات ورابضا في أعماقها، وتلك هي حالتنا مع عدونا، لأنه من صنع ثقافتنا ومجتمعاتنا، ما يجعل من الصعب جدا مواجهته، لأنه يحتل لا شعورنا ووعينا ويطبق عليهما. كما أنه يمتلك آليات فعالة للدفاع عن نفسه، وصد مقاومتنا له وكسر شوكتنا لأنه متغلغل في تفكيرنا وعقولنا ووجداننا. لذلك، فهو يعوق ويشل فكرنا وعفويتنا وحريتنا، لأنه يهددنا عبر تكفيرنا…