لا وجود لمجتمع – أي لاجتماع إنساني منظم- قبل الدولة إلا في وعي أنثروبولوجي لا يعتني إلا بالوجود الاجتماعي المعيش، ونُظُمه الذاتية، بمعزل عن انتظامه داخل روابط عامة جامعة كانت الدولة أعلى أشكال التعبير عنها في تاريخ الجماعات الإنسانية. وكنا، وما نزال، نعتقد أنه لو قُيض لمجتمع إنساني منظم أن يوجد في التاريخ، قبل الدولة، لما كانت ثمة حاجة إلى قيام الدولة. والأطروحة هذه، كما نعلم، هي التي سقطت فيها النظرية المادية التاريخية في رؤيتها إلى تاريخ المجتمعات الإنسانية، وخاصة إلى مجتمعين افترضت أنهما في غُنية – تلقائية أو إرادية – عن الدولة: المجتمع المشاعي البدائي والمجتمع الشيوعي! وقد لا يضارع الماركسية في نفي الحاجة إلى الدولة، أو في بيان استغناء المجتمع عنها، سوى العولمة: هذه التي تأتي، اليوم، بمعاول الهدم على كيان الدولة الوطنية بزعم زوال الحاجة إليها في نظام كوني جديد عابر للحدود والقوميات والأوطان!

لا نأتي بدعة بهذا القول، وإنما نردد يقينية فكرية رسخت في أعمال كبار فلاسفة السياسة، في التاريخ الإنساني، منذ أرسطو إلى هيجل، مروراً بابن خلدون، وماكيافيلي، وتوماس هوبس، وباروخ سبينوزا، وجون لوك، وجان جاك روسو… إلخ؛ فلقد شدد هؤلاء جميعاً على ضرورة الدولة للاجتماع الإنساني، وعلى أن هذا لا قوام له من غير دولة. ويؤدينا ذلك إلى التشديد على حقائق ثلاث مترابطة: أن الدولة صناعة إنسانية ومُنتج بشري صرف لا دخل في قيامه، أو لوجوده، لأي تعليم ديني ما من نوع ذلك الذي يتحدث عنه المُماهون بينها وبين الدين؛ وأن الضرورة والحاجة هما ما دفعتا إلى إقامة الناس الدولة في صلب اجتماعهم، ثم إن الدولة هذه نشأت بمقتضى اتفاق وتوافق تنازل الناس بموجبهما عن الكثير مما كان في حكم المُلك الذاتي من أجل إقامة هذا الكيان الجامع.

فأما في المسألة الأولى فإن التجربة التاريخية الإنسانية تثبت أن الدولة كيان اجتماعي وسياسي من صنع البشر، اهتدوا إلى إقامته من أجل تنظيم الاجتماع الإنساني. والدولة، بهذا المعنى، صيرورة موضوعية لذلك الاجتماع الذي يسلك سبيله، حكماً، إلى حماية وجوده من طريق تنظيم ذلك الوجود، وكف ما من شأنه أن يهدد بقاءه. وهو ما يعني أن الدولة للمجتمع بمنزلة الروح للمادة؛ إذ لا سبيل لديه إلى الكينونة والبقاء من غير دولة. على أن في الإنسان نفسه، بما هو إنسان، ميل طبيعي إلى الاتحاد مع بني جنسه والعيش داخل الجماعة؛ فهو، بتعريف أرسطو، «حيوان سياسي»، أو هو «مدني بالطبع؛ أي لا بد له من الاجتماع» في تعريف ابن خلدون.

وأما في المسألة الثانية، وهي مكينةُ الصلة بالأولى، فإن الدينامية الحياتية والبشرية التي صنعت الدولة، أو قادت الناس إلى اصطناعها، هي الحاجة والضرورة، وفي قلبها الحاجة إلى البقاء.

وتبقى المسألة الثالثة هي الأهم في عوامل تكوين الدولة. وهي لا تنتمي إلى جملة العوامل التحتية أو التأسيسية الدافعة إلى ذلك التكوين، على مثال العاملين السابقين، بل تنتمي إلى ما يمكن تسميتُه بالعامل التقريري الحاسم الذي لا يكون للدولة قيام أو إمكانُ وجود من دونه؛ إنه عامل التوافق المؤسس للمجتمع السياسي. وبيانُ ذلك أن الدولة نشأت باتفاق بين القسم الأغلب من الناس، في جماعة إنسانية ما، قضى (أي الاتفاق) بتنازل الأفراد عما كان في عداد حقوقهم الشخصية الطبيعية، لقاء تكوين حق عام مشترك يدافع عنه المجتمع برمته من خلال الدولة، بما هي تعبير عن كيانيته وعن رابطته الجماعية. إن الانتقال من الحق الطبيعي – غير المأمون- إلى الحق المدني المأمون، الذي يسلم به المجتمعُ برمته، هو بالذات الانتقال من المجتمع الطبيعي إلى المجتمع السياسي (الدولة). على أن الاتفاق المؤسس للدولة يفرض مشاركةً للمواطنين جميعاً في إدارة شؤون الدولة: مباشرةً أو عبر وكلائهم الذين يفوضونهم تمثيل مصالحهم وإرادتهم. وهذه المشاركة ليست أكثر من ترجمة لمبدأ حاكم للدولة، مفادُه أن الشعب هو مصدر السلطة وصاحب السيادة.

 

 

الاثنين 29 يناير 2018./ 12 جمادى الاولى 1439.هج

 

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …