هناك طريقتان لقهر واستعباد أمة: الأولى هي بحد السيف، والأخرى تتم بإغراق الدول المستهدفة بالديون. هكذا كان وصف «جون بيركنز» أحد القتلة الاقتصاديين، داخل كتابه «اعترافات قاتل اقتصادي»، الذى يُعد مذكرات شخصية للمؤلف، وقد كشف عن طبيعة وظيفته كقاتل اقتصادي، ولخَّص الأسلوب الجديد للإمبريالية الأمريكية في السيطرة على شعوب العالم الثالث. يقول «بيركنز»: نحن القتلة الاقتصاديين نحدد بلدًا لديه موارد تثير لعاب شركاتنا مثل النفط، وبعد ذلك نرتب قرضًا ضخمًا لهذا البلد من البنك الدولي أو أي من المنظمات الحليفة، لكن المال لا يذهب فعلًا لهذا البلد بل يذهب إلى شركاتنا الكبرى لبناء مشاريع البنية التحتية في ذلك البلد، التي تعود بالنفع على قلة من الأغنياء فى ذلك البلد، بالإضافة إلى شركاتنا. ولكنها فى الواقع تترك البلد محمَّلًا بعبء دين ضخم من المستحيل سداده.
ويستطرد بيركنز: هذا جزء من الخطة، إنهم لا يستطيعون سداده، ولذلك في مرحلة ما، نعود نحن القتلة الاقتصاديين إليهم قائلين: اسمعوا، أنتم مدينون لنا بالكثير من المال ولا يمكنكم دفع ديونكم. حسنًا قوموا ببيع ثروتكم الطبيعية(النفط او الفوسفاط مثلا) الخاص بكم بسعر رخيص لشركاتنا . اسمحوا لنا ببناء قاعدة عسكرية في بلدكم أو أرسلوا قوات لدعمنا في مكان ما من العالم أو صوِّتوا معنا فى تصويت الأمم المتحدة المقبل. وهذا كله ينمو ويتطور كالفطريات، وهي الطريقة الاعتيادية لعمل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، يترك البلد حاملا عبء الدين، وهو دين ضخم من المستحيل سداده، وبعد ذلك نعرض إعادة تمويل الدين ودفع المزيد من الفائدة، ويتطلب هذا مقابل ما يطلق عليه المشروطية أو الحكام الصالحين، وهو ما يعنى في الأساس أنه يتوجب عليهم بيع مواردهم بما في ذلك العديد من خدماتهم الاجتماعية وشركات المرافق وأحيانًا نظمهم المدرسية، نظم عقوباتهم ونظم تأمينهم إلى الشركات الأجنبية.
ذكر «بيركنز» العديد من الدول التي تمت ممارسة هذه السياسة ضدها حيث يقول: إيران سنة1953 لقد ظهرت طلائع القاتل الاقتصادي تحديدا في بدايات الخمسينيات، إثر فوز «محمد مصدق» بشكل ديمقراطي في الانتخابات ليكون رئيسًا لوزراء إيران. يومها نادى مصدق بضرورة تمتع الشعب الإيراني بموارد نفطه، وضرورة قيام الشركات النفطية الأمريكية بتسديد قيمة النفط الإيراني بأسعار أعلى غير المتفق عليها، مما أصاب تلك الشركات النفطية بالرعب في حينها، وتردد في أذهان الحكومة الأمريكية فكرة استخدام القوة المسلحة ضد إيران. إلا أنهم قرروا أخيرًا إرسال عميل لوكالة المخابرات الأمريكية «كيرميت روزفلت» مزودًا بعدة ملايين من الدولارات لخلق فوضى في الشارع الإيراني لإسقاط نظام مصدق وتنصيب الشاه محمد رضا بهلوي إمبراطورًا مستبدًا على إيران.
وفى كواتيمالا 1954 بدأ «جاكوبو أربينز» بعد انتخابه رئيسًا بتنفيذ سياساته الإصلاحية بنقل حقوق ملكية الأراضي لأبناء الشعب. وهو أمر أزعج شركة الفاكهة المتحدة كثيرًا، فقامت هذه الشركة باستئجار شركة علاقات عامة أمريكية كبرى أخذت على عاتقها مهمة إطلاق حملة ضخمة في أمريكا، سعت لإقناع الشعب وصحافته والكونجرس بأن الرئيس الكواتيمالي هو لعبة بيد الاتحاد السوفياتي، وإذا سُمح له بالبقاء فى الحكم هناك فسيكون للاتحاد السوفياتي موطئ قدم فى نصف الكرة الأرضية. نتج عن تلك الحملة إرسال الطائرات والجنود وعملاء المخابرات الأمريكية هناك وتم خلعه بالفعل.
أما في الإكوادور 1981 فقد فاز«جيم رولدوس»، فوزًا ساحقًا في أول انتخابات ديمقراطية حقيقية هناك بعدما رفع شعار تحرير موارد الإكوادور وجعلها في خدمة شعبه، والتأكد من أن أرباح النفط ستذهب لمساعدة أبناء شعبها. إلا أن ذلك لم يعجب واشنطن، إذ تم إرسال «جون بيركنز» إلى هناك لاستمالة الرئيس الجديد وإفساده وجعله يدرك أنه بإمكانه أن يصبح غنيًا جدًا إذا ما لعب وفق اللعبة الأمريكية، مصحوبًا بتهديد له بأنه إن لم يوافق فمصيره الرحيل. إلا أن الرئيس الإكوادوري رفض الإصغاء لهم واستمر على سياسة الإصلاح، فتم اغتياله بحادث سقوط طائرة! ويستطرد بيركنز: لقد دُفـِعـَت تلك الدولة دفعًا إلى الإفلاس، وارتفع حد الفقر هناك خلال ثلاثة عقود من 50% إلى70%، كما ارتفع دينها من 240 مليون دولار إلى 16 مليار دولار. فيما غدت الإكوادور اليوم تخصص 50% من ميزانيتها لسداد ديونها. وأصبح الحل الوحيد أمامها لشراء ديونها قيامها ببيع غاباتها إلى شركات البترول الأمريكية.
وفي بانما 1981 حاول جون بيركنز -كما يقول- رشوة الرئيس البنمي عمر توريخوس، الذي رفض ذلك بشدة مصرحا بأن كل ما يطلبه لبلده أن يعامل معاملة منصفة، وأن تسدد أمريكا فاتورة الخراب الذى ألحقته ببانما، وأن تعود قناة بانما لسيطرة أبنائها.
أدرك عمر توريخوس بأن مصيره سيكون كمصير رئيس الإكوادور، وبالفعل قُتل توريخوس بعد شهرين من اغتيال رولدوس بحادث سقوط طائرة مدبرة نفذها «الضباع» كما أسماهم جون بيركنز في إشارة منه إلى عملاء المخابرات المركزية الأمريكية !
ومن بيركنز إلى الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي مرت بها اليونان بعد إعلان إفلاسها لعدم قدرتها على تسديد ديونها الخارجية. لنستعيد تصريح السفير اليونانى بالقاهرة «كريس لازاريس» في 18 أكتوبر 2013 : إن حزمة الإنقاذ الأولى التي قدمها برنامج صندوق النقد الدولي لبلاده كانت فاشلة، وباعتراف الصندوق نفسه، وذلك لأن تشخيص الأزمة من البداية كان خاطئًا، مضيفًا أن الموافقة على تلك الشروط هي أحد الأخطاء التى وقعت فى إدارة أزمة اليونان.
إذن أخطأ الصندوق واعترف، كما أخطأت أمريكا في غزوها لأفغانستان والعراق ثم اعترفت، وأخطأت فى تقديراتها لثورات الربيع العربي ثم اعترفت. ويبقى السؤال قائمًا الآن: هل همس قاتل اقتصادي جديد في أذن احدهم لترتيب قرض للمغرب من صندوق النقد الدولي ؟ ولماذا تأخرت الحكومة في تحرير سعر الدرهم ؟ والسؤال الأهم: من أين ستسد الحكومة الفجوة التمويلية اللازمة لتنفيذ برنامج الصندوق القتل الدولي؟ هل يفهم القارئ اين اين تذهب الثروة؟.