من قلب أمانوز التي أنجبت العديد من المقاومين الكبار ، إلى الدار البيضاء حيث كان من الرعيل الأول الذي التحق بالحركة الوطنية وأحد مؤسسي وقادة حركة المقاومة المسلحة إلى شمال المغرب حيث كان من الذين سهروا على إنشاء جيش التحرير وإطلاق شرارته النضالية ·· إلى معتقلات الإستقلال ثم المنفى بالجزائر وبعدها إسبانيا قبل أن يتم اختطافه من طرف مخابرات فرانكو وتسليمه إلى المغرب ·· عبر كل هذه المحطات ، كان محمد آجار الملقب بـ «اسعيد بونعيلات» في الصفوف الأولى دفاعا عن حرية وكرامة المغرب ورمزا شامخا لحركة التحرير الشعبية، وللإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية الذي كان من بين مؤسسيه ، رمز يقف أمامه كل المناضلين ، في مختلف أقطار المغرب العربي، إجلالا واحتراما لإخلاصه الشديد لمبادئه ونكران للذات قل نظيره ·
أجمع كل الذين رافقوه خلال هذه المحطات ، وكل الذين كتبوا عن هذه المراحل من تاريخ المغرب ، أن «اسعيد بونعيلات» كان واحدا من الأبطال الكبار الذين يحق لكل المغاربة أن يفتخروا بهم · وقد أكد ذلك غير ما مرة ، منذ إلتحاقه المبكر بصفوف الحركة الوطنية، ثم بالقيادة المركزية لحركة المقاومة المسلحة رفقة الشهيد محمد الزرقطوني ومحمد منصور وسليمان العرايشي وعبد الله الصنهاجي وغيرهم· هذا المناضل الكبير، أو الرجل الخفي الذي دوخ مخابرات الإستعمار ، وكان يبيت في العراء رفقة الشهيد الزرقطوني، عندما أصبح ملاحقا ، كان نصيبه من مغرب الإستقلال ثلاثة أحكام بالإعدام · وعندما أطلق سراحه سنة 1972 ، خصص له المغاربة استقبالا منقطع النظير ، من سجن القنيطرة إلى الرباط مرورا بسلا · وقد ظل طيلة هذه السنوات وفيا لأفكاره ومبادئه، يراقب عن كثب تطورات الأوضاع ، إلى أن أقنعناه بفتح صدره ، وكشف أسرار عديدة تخص مراحل هامة من تاريخ المغرب ، كان أحد صناعها الكبار ·
قصة لقب « بونعيلات»
س– السي اسعيد، قبل أن نتناول ظروف النشأة وانتقالك إلى الدار البيضاء ومن تمة إلتحاقك بحركة المقاومة وجيش التحرير، أريد أن أسألك عن أصل هذا الإسم الذي التصق بك وأصبح الإسم الذي يناديك به الجميع إلى يومنا هذا، أو بعبارة أخرى كيف أصبحت اسعيد بونعيلات؟
ج– إسمي الحقيقي هو «محمد آجار»، عندما تكونت خلايا المقاومة ضد الإستعمار الفرنسي، فرضت علينا ظروف السرية ، أن نطلق على بعضنا البعض أسماء مستعارة أو حركية ، حفاظا على هويات المقاومين وقيادة المنظمة· أذكر أننا استعملنا أسماء عديدة، وكذلك الأرقام ، حيث كان لكل واحد منا رقم يستدل عليه به، لا يعرفه إلا من هو مخول بذلك · أما كيف أصبحت بونعيلات فتلك قصة أخرى ، ففي الواقع لم أختر أنا هذا الإسم بل جاء صدفة وعلى مرحلتين· الأولى مع نشوء حركة المقاومة في الدار البيضاء · في تلك الأثناء كنت أتردد على صاحب دكان بقالة اسمه بلعيد ، سيتعرض لاحقا للإختطاف والقتل، وكان عبد الله الصنهاجي يعرف أني أتردد على ذلك الدكان و كان كلما يريد إبلاغي بأمر ما يسأل عني هناك · في تلك الأثناء كنت أنتعل صندلا «نعالة» به خيوط كثيرة متشابكة، وكان عبد لله الصنهاجي كلما يصل إلى الدكان ، يباشر بلعيد قائلا: ألم تر اليوم «بونعيلات» وهكذا ومع مرور الوقت أصبح الجميع يناديني بهذا اللقب· بعذ ذلك وعندما أصبحت ملاحقا من طرف قوات الإستعمار انتقلت إلى المنطقة الخليفية وبالضبط إلى مدينة تطوان، وهناك إخترت لنفسي إسما حركيا هو «اسعيد»، بعدها أصبحت معروفا ب» اسعيد بونعيلات» إلى يومنا هذا ·
س– لنعد الآن إلى البداية · أين ولدت، متى قدمت إلى الدار البيضاء؟
ج– ازددت بأمانوز ناحية تافراوت دوار إزردي· في تلك الأثناء ، ونظرا للظروف التي كانت سائدة لم تكن من عادة الناس تسجيل تواريخ إزدياد أبنائهم ، خصوصا في المناطق الريفية · لذلك لا أستطيع أن أحدد السنة التي رأيت فيها النور ، لكن عموما كان ذلك في العشرينات من القرن الماضي· عندما بلغت العاشرة انتقلت صحبة والدي إلى الدار البيضاء، وبالضبط إلى «درب كلوطي»، حيت فتح أبي دكانا لبيع «الشفنج»· لم نمكث هناك طويلا حيث انتقلنا بعدها إلى «درب غلف» · هناك اكترى والدي دكانا آخر وخصصه أيضا لبيع «الشفنج» وما زلت أتذكر أن الدكان كان قرب واد بوسكورة الذي لم يعد له أثر الآن· كنا نقضي سحابة النهار في إعداد «الشفنج» وبيعه للزبائن الذين كانوا يقبلون عليه كثيرا، كما هو الشأن الآن· وفي الليل وبعد يوم طويل من العمل الشاق كنا نخلد إلى النوم في نفس الدكان، الذي كان مقر عمل ومأوى لنا ، كما أتذكر أننا كنا بالإضافة إلى «الشفنج» نبيع ماء الشرب · كانت عربات البغال والحمير تأتي بالماء العذب داخل براميل كبيرة من أولاد حدو إلى أحياء المدينة ، وكان بعض الباعة ، ومن ضمنهم والدي ، يشترون كمية منه لبيعها إلى الزبائن في «المقارج».
س-كم قضيت في درب غلف؟
ج– لم يدم مقامنا طويلا في هذا الحي، فبعد مدة عاد والدي إلى « البلاد» أما أنا فقد انتقلت للعمل رفقة عمي الذي كان يملك دكانا لبيع السجائر في «درب بنجدية»·
س– وهل كنت تقيم معه أيضا؟
ج– كنا بعد انقضاء وقت العمل ننام في الدكان كذلك· لا بد أن أوضح أنه في تلك المرحلة كان جميع الأمازيغ الذين كانوا يملكون دكاكين للبقالة وغيرها في الدار البيضاء، كانوا ينامون داخلها ، هكذا كانت الأوضاع آنذاك· وسأظل معه إلى أن بلغت سن السابعة عشر، حيث قام عمي بكراء محل آخر لبيع السجائر في زنقة ستراسبورغ، وقد استأجر الرخصة من أحد المحاربين القدامى حيث كانت السلطات الفرنسية تخصهم برخص بيع السجائر ، ويقومون بعدها بكرائها لمن يرغبون في مزاولة هذه الحرفة · هكذا أصبحت مسؤولا عن هذا المشروع الصغير وكما سبق أن أوضحت ففي تلك الفترة كنت أعمل وأسكن في نفس الدكان· بعد ذلك اشتقت إلى «البلاد» ورؤية الأهل والأحباب ، خصوصا أنه مرت مدة طويلة دون أن أراهم، فذهبت هناك وقضيت بضعة الأيام رفقتهم قبل العودة إلى البيضاء·
س– ماذا فعلت بعد ذلك؟
ج– بعد العودة إلى الدارالبيضاء ، وكان قد أصبح معي مبلغ من المال ادخرته خلال السنوات الماضية ، قررت أن أوسع نطاق عملي بإيجاد مورد آخر للعيش ومشروع خاص بي، وهكذا بعد التفكير والتمحيص قررت أن أشتري «كارو» لنقل البضائع والخضروات وغيرها · وبعد البحث والتشاور وجدت بغيتي لدى شخص فرنسي كان يشتغل آنذاك في شركة الكهرباء ، وما زلت أتذكر أنني اشتريت منه «الكارو» بمبلغ 65 ألف فرنك ! أي 13 ألف ريال · الشخص الذي اشتريت منه الكارو ، كان له صهر يشتغل في البحرية الفرنسية لاماران، وقد اتفقت مع هذا الأخير على أن أقوم بنقل الخضروات والمؤونة من مارشي كريو إلى لاماران · ولم تمر سوى مدة قصيرة حثى أصبح عدد الكاروات الذي يقومون بهذه العملية ، حوالي 30 · كنت أنا من توسط في ذلك وكنت أحصل على عمولتي من هذه العملية، كنا نكتري الكارو بمبلغ 6 آلاف ريال في الشهر·
الالتحاق بصفوف حزب الاستقلال
س– كيف كانت الأجواء السياسية بالمغرب آنذاك؟
ج– كانت الأوضاع متشنجة، وكان طغيان السلطات الفرنسية يتزايد خصوصا مع أجواء الحرب العالمية التي وصل صداها إلى المغرب كما ذكرت، وكذلك الأزمة الإقتصادية ، وقد بدأ منذ ذلك الوقت بعض التململ في أوساط الجماهير، التي كانت تنتظر تحركا ما لتعبر عن رفضها لإستمرار وجود المستعمر·
س– وأنت، ماذا كنت تنتظر؟
ج– كنت أشعر أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر، وخلال لقاءاتي مع العديد من الأصدقاء والوطنيين كنت أشعر أن هناك إحساسا كامنا بضرورة التحرك ، في ظل هذه الأجواء جاءت وثيقة الإستقلال والأحداث التي تمخضت عنها والتي ستؤكد أن المغاربة مستعدون للنضال من أجل الإستقلال·
ومتى انتميت إلى حزب الإستقلال؟
قبل ذلك، أريد أن أشير إلى أنه بعد أن اقتنيت « الكارو» وأصبح لدي مدخول خاص من العمل، وجمعت ما يكفي لكي أكون عائلة ، ذهبت إلى «البلاد» حيث تزوجت، وبعد مدة وجيزة استقدمت زوجتي وانتقلنا للعيش في دار تقع بـ «درب الكبير» إشتريتها هناك· وهكذا عندما التحقت رسميا بالحزب كنت متزوجا وأسكن في درب الكبير·
س– وما هي الظروف التي رافقت انتماءك إلى حزب الإستقلال، ومن كان وراء استقطابك للحزب؟
ج– الذي استقطبني إلى الحزب هو السي بناصر حركات، وكان مع الفقيه برادة.
س– هل يمت بصلة إلى المقاوم الحسين برادة؟
ج– لا ، مجرد تشابه في الإسم
س– وأين كنتم تعقدون اجتماعاتكم الأولى؟
ج– كانت أولى الإجتماعات التي عقدناها، كما أذكر، في بنجدية، في ورشة للنجارة كان يملكها وطني يدعى بنموسى· في تلك الورشة أقسمنا على العمل بإخلاص وتفان من أجل استقلال المغرب وعزته وكرامته· لا بد أن أوضح هنا أن الإنطلاقة الأولى لبناء خلايا الحزب ، وككل عمل جديد كانت من لا شئ · كل ما هنالك بضعة وطنيين، أعلنوا استعدادهم للتضحية من أجل البلاد، وشمروا على سواعدهم من أجل تعزيز صفوف الحزب ونشر أفكاره· لقد كانت فترة حاسمة في تاريخ بلادنا، لكن البداية كانت من لاشئ، لكننا كنا مقتنعين أن الشعور الوطني لدى المغاربة فياض، ولا ينتظر سوى من يطلق الشرارة الأولى·
س– كانت الشرارة الأولى هي وثيقة الإستقلال؟
ج– بالفعل، وبمناسبة صدورها سننظم مظاهرة تأييد لما جاء فيها· أذكر أننا في تلك الأثناء بدأنا نعقد إجتماعات في المدينة القديمة ، وبدأت صفوف الوطنيين تتعزز بانخراطات جديدة· عقدنا إجتماعا موسعا في المدينة القديمة بمنزل أحد الوطنيين وكان آنذاك يعمل حارسا بالقنصلية الإسبانية·
س– من هو هذا الوطني؟
ج– للأسف لم أعد أذكر إسمه · لكني أذكر أن عدد الذين حضروا الإجتماع كان 35 مناضلا· خلال هذا الإجتماع اتفقنا على تنظيم مظاهرة تنطلق من جامع «الشلوح» في السماط بالمدينة القديمة ، ولا يزال هذا المسجد موجودا لحد الآن ويحمل نفس التسمية· وكذلك كان ، حضرنا إلى المسجد وبعد أداء الصلاة ، خرجنا في المظاهرة· لم تكن مظاهرة حاشدة، لكنها أتت أكلها حيث أثارت انتباه المواطنين والقوات الإستعمارية ، التي أخذت على حين غرة·
س- وكيف كان شعوركم مع نجاحكم في تنظيم المظاهرة؟
ج- أدركنا أن بوادر الأمل موجودة ، وكذلك شعرنا بضرورة بذل المزيد من الجهود لإيصال صوت الحزب إلى جميع المناطق · ولم يمر سوى وقت قصير حتى بدأت خلايا الحزب تتكاثر ، عقدنا عدة إجتماعات في درب الكبير وكاريان بن امسيك وغيره من الأحياء الشعبية في الدار البيضاء · في تلك الأثناء أصبحت مكلفا بالتنظيم الحزبي في «كاريان بن امسيك» وكنت انتقل هناك كل أحد لعقد إجتماعات مع المناضلين والملتحقين الجدد بصفوف الحزب، وكنت كلما دعت الضرورة أطلب من أحد الأطر المسؤولة وطنيا مرافقتي إلى الإجتماع لتأطير المناضلين وشرح مواقف وتوجهات الحزب، وأذكر أن من بين المسؤولين الذي حضروا معي تلك الإجتماعات السي عبد الرحمن اليوسفي، السي بوشتى الجامعي، السي بناصر حركات، الفقيه برادة وغيرهم·
س– وكيف كانت المردودية على الصعيد التنظيمي بعد هذه الإجتماعات المتعددة؟
ج– كانت أكثر من مشجعة· مثلا في بن امسيك تمكنا من تكوين 25 جماعة، ونفس الشئ يسري على باقي المناطق حسب ما كنت أتوصل به من معلومات من طرف المناضلين·
س– الذين عايشوا تلك المرحلة تحدثوا عن الدور الفاعل الذي كانت تقوم به لجنة التزيين ، هل كنت من بين أعضائها؟
ج– نعم كنت عضوا بها · ما قامت به لجنة التزيين من أعمال لا يمكن الحديث عنها بعجالة · لقد كان لها دور مركزي في خضم التفاعلات التي كانت آنذاك · كانت مهمة لجنة التزيين تتجلى في الإعداد للمناسبات الوطنية أو زيارة المغفور له محمد الخامس ، حيث كنا نعمل على جلب صور الملك وتزيين الشوارع والأمكنة بها، لم يكن هذا الأمر سهلا، فالسلطات الإستعمارية لم تكن تنظر بعين الرضا لوجود صور محمد الخامس تملأ فضاءات المدينة، بل إنها كانت تقف ضد هذا العمل، ولذلك كنا نراوغ ونموه حتى لا تكتشف ذلك إلا في آخر لحظة، وعندما كنا نعلم بأن الملك سيزور الدار البيضاء، كنا نشتغل طوال الليل بعيدا عن أعين القوات الإستعمارية وعملائها، وما أن يحل النهار حتى تصبح شوارع المدينة مزينة بالصور والأعلام ، وكنا نفعل ذلك ونصر باستماتة على إنجاح هذه المهمة، لأنها كانت تحمل في طياتها رسالة إلى المستعمر، وهي أن الشعب يقف مع الملك ضد الإحتلال، كما أنها كانت تلعب دورا تعبويا في صفوف الشعب، الذي بدأ يدرك مدى قوة الحركة الوطنية وتنظيمها ، فيلتحق بصفوفها أعضاء جدد وهكذا دواليك· وخلال الزيارة التي قام بها محمد الخامس إلى طنجة سيظهر بالملموس القوة الضاربة للجنة التزيين التي إنتقلت إلى طنجة للإعداد لإستقبال الملك، وهي زيارة تحدث عنها الكثيرون لما كانت لها من أهمية على مختلف الأصعدة آنذاك·
سلاحنا الأساسي كان هو الإيمان
س– قبل أن ننتقل إلى بداية عمليات المقاومة، أريد أن أعود بك إلى الوراء، أي منذ أن فاتحك عبد السلام بناني، أنت ومحمد منصور في شأن الالتحاق بالمقاومة المسلحة، لماذا اختاركما أنتما بالضبط ، أو بمعنى آخر كيف كانت تتم عملية الاستقطاب دون إثارة الشكوك؟
ج– كانت هناك مقاييس محددة، يجب أن تتوفر في أي مرشح للانضمام إلى خلايا المقاومة· فالأمر هنا كان مختلفا عن طريقة الاستقطاب إلى الحزب، وهي عملية كانت في العموم أكثر سلاسة · بالنسبة للمقاومة المسلحة، كان يجب أن تتوفر في المرشح عدة مقاييس، فمن جهة كان يجب أن يكون متشبعا بروح الحركة الوطنية، ولذلك فأغلب الذين شكلوا خلايا المقاومة كانوا أعضاء في الحزب، كما كان من الأفضل أن يكونوا غير معروفين لدى السلطات الاستعمارية، ولا يحتلون مناصب قيادية داخل الحزب لأن هؤلاء كانوا ملاحقين بشكل يومي وبالتالي فالتحاقهم بالمقاومة كان سيشكل خطرا عليها· بالإضافة إلى كل هذا كان عامل الثقة والإخلاص والصداقات المتينة له دور مهم· لذلك عندما اتجه إلينا المرحوم عبد السلام بناني، اتجه إلينا أنا ومحمد منصور، لأننا بالإضافة إلى كل ما ذكرته كنا، ولا نزال، صديقين حميمين ، نتقاسم نفس المبادئ والأفكار، وأي خطوة نقدم عليها تأتي بعد التشاور، ثم نتخذ القرار سوية ، بمعنى أننا كنا نضع مصيرنا في كفة واحدة·
س– تحدث عن بعض العمليات العفوية التي قام بها بعض الفدائيين، وكيف قررتم تنظيم خلايا المقاومة بحيث أصبحت محصنة وعصية على الاكتشاف · بعد ذلك بدأتم تنفيذ العمليات ضد المستعمر، كيف انطلقت تلك العمليات، وبأي سلاح وبأية موارد مادية؟
ج– المقاومة المسلحة انطلقت في البداية من لا شئ· لم تكن لدى خلايا المقاومة موارد مالية بهذا المعنى، أعضاؤها كانوا متطوعين، يقدمون ما لديهم من أموالهم الخاصة، يتنقلون في الغالب عبر دراجاتهم الهوائية أو النارية، ولم تتوفر للمقاومة سيارة إلا بعد مدة ، أما عن الأسلحة، فكل ما كان لدينا في البداية، مسدس من نوع طومسون، ذو طلقة واحدة· بعدها تمكن منصور من الحصول على مسدس «رحى» ذي خمس رصاصات، وعندما اشتد عود المقاومة، بدأ البحث بجدية عن السلاح، وفي هذا الإطار، تم اللجوء إلى جميع الوسائل للحصول على السلاح، وكان أهم مورد هو السلاح الذي تمكن الإخوان من تهريبه من الشمال، أما عن الأموال اللازمة، فكما قلت كان كل واحد منا يقدم ما استطاع ، وعندما تقوت المقاومة، وأعادت ضرباتها المدوية الثقة لدى الشعب ، بدأ العديد من الموسرين يقدمون تبرعات حتى نستطيع مواصلة المسير·
س– إذن انطلقتم بمسدس واحد وبدون إمكانيات مادية تقريبا، كيف استطعتم في ظل هذه الأوضاع أن تبنوا تنظيمات المقاومة وتؤثروا بقوة على الأوضاع العامة بالبلاد؟
ج– بالفعل هذا السؤال طرح مرارا، خصوصا في الفترة التي أعقبت الحصول على الاستقلال· أي كيف تمكن هؤلاء الشباب من تفجير حركة المقاومة المسلحة من لاشئ، لتصبح حركة الفداء ، رقما أساسيا في المعادلة السياسية· الجواب بسيط، كان معنا أهم من السلاح والخبرة والمال، كان معنا الإيمان· وهذه مسألة أساسية ، بل بدونها لم نكن لنتمكن من تحقيق الأهداف التي رسمناها في البداية· الإيمان بأننا ندافع عن قضية عادلة ، فبلادنا كانت تحت الإحتلال، والمستعمر وأذنابه وعملاؤه يعيثون في البلاد فسادا ويرهبون المواطنين، ويستولون على خيرات المغرب ويستغلون كل ما وقعت عليه أياديهم في حين يعاني الشعب من الفقر والقهر ، كنا مؤمنين بأن اللجوء إلى القوة لطرد المستعمر أصبح ضرورة ملحة لأن المستعمر رفض كل الحلول السلمية، وسجن قادة الحركة الوطنية ، وفي الأخير ارتكب جريمة شنعاء بالتطاول على السلطة الشرعية في البلاد بنفي محمد الخامس ، إزاء كل هذه الجرائم لم يعد لنا خيار آخر ، وكما قلت كنا ندافع عن قضية عادلة · وكنا مؤمنين بذلك ، هذا كان هو سلاحنا الأول والأساسي ، الذي مكننا من المضي قدما في سبيل الدفاع عن استقلال وكرامة بلادنا·
س– في معرض جوابك تحدث عن الخبرة، وكنت أنوي أن أسألك عن هذه النقطة ، كيف تمكنتم من استعمال السلاح ؟
ج– كنا نجري التداريب في مناطق خارج الدار البيضاء، بعيدا عن أعين المستعمر والمتلصصين، من بينها واد النفيفيخ وفضالة· لا تنسى أننا كنا في مقتبل العمر وكان تنظيم رحلات إلى مناطق خارج المدينة أمرا عادىا، فإذا رآنا أحد أو علم بذلك، سيقول بأن هؤلاء شباب ذاهبون للاستجمام واللهو، في حين كنا نستغل هذه الخرجات للإعداد لإطلاق المقاومة المسلحة· بالنسبة للسلاح نسيت أن أضيف أنه بالإضافة إلى المسدسات التي تمكنا في ما بعد من الحصول عليها وكذلك الرصاص، استطعنا بفضل خبرة ومعرفة بعض المقاومين، صنع قنابل محلية، واستطعنا أن نصنع في البداية حوالي 25 قنبلة· وسيكون للقنابل دور هام في تنفيذ أهم العمليات، التي ستهز أركان الاستعمار وستصيبه بالذهول، وعلى الخصوص قنبلة القطار وقنبلة السوق المركزي «المارشي سنطرال»· عموما كان التدريب على السلاح أمرا سهلا واستطعنا في وقت وجيز امتلاك المهارات اللازمة، كما تدربنا على كيفية تنفيذ العمليات وحفظ الأسرار وعدم إثارة الانتباه· ورغم ذلك عندما بدأنا في العمل واجهتنا عدة صعاب، لأن هناك فرقا بين النظرية والتطبيق، كما أن الرأي العام لم يكن في البداية مستعدا لهذا التحول·
س– ماذا تقصد بذلك؟
ج– أقصد أننا في بداية العمليات سنصطدم برأي عام لم يتعود على عمليات مسلحة تنفذ في الشوارع وفي واضحة النهار، وقد شكل ذلك في البداية صدمة للجميع ، أي أن هذا التحول من المواجهة السلمية، من إضرابات ومظاهرات مطالبة بالاستقلال، إلى عمليات اغتيال وتفجير كان مفاجئا للجماهير، وبالتالي لم نجد في البداية ذلك السند الكفيل بحماية المقاومة، لكن لن يمر وقت طويل حتى أصبح الشعب هو الدرع الواقي للمقاومين ·
انطلاق العمليات المسلحة
س– إذن العمليات الأولى كانت محفوفة بالمخاطر، بالكاد تتوفرون على بضعة مسدسات وقنابل والرأي العام غير مستعد لقبول فكرة المقاومة، ومع ذلك قررتم الانطلاقة، ما هي العمليات الأولى التي كنت مشاركا في تقريرها أو تنفيذها؟
ج– لعملية الأولى التي قررنا القيام بها، جاءت بعد حوالي ثلاثة أسابيع من نفي محمد الخامس، مباشرة بعد العملية البطولية التي قام بها الشهيد البطل علال بنعبد الله ضد صنيعة الاستعمار، الدمية ابن عرفة، وكنا قد قررنا تصفية أحد عملاء الاستعمار وهو مفتش شرطة يدعى المسكيني، كان حقودا على الوطنيين وكثيرا ما ألحق الأذى بالحركة، فكان من الضروري أن تتم تصفيته، وذلك من جهة للتخلص من إحدى أدوات القمع التي يستعملها المستعمر ضدنا، وثانيا لتوجيه رسالة وضربة قوية للمستعمر·
س– هل كانت هذه العملية قبل أو بعد تصفية مفتش الشرطة «بنيس»؟
ج– انت قبلها ببضعة أيام، الفرق بينهما هو أن محاولة تصفية المسكيني فشلت، حيث لن تتم تصفيته إلا بعد أشهر من المحاولة، في حين أن العملية التي استهدفت «بنيس» كانت ناجحة·
س– اهي تفاصيل العملية الأولى ومن نفذها؟
ج-ريد أن أوضح في البداية أنه لا بالنسبة للعملية الأولى ضد «المسكيني» أو الثانية ضد «بنيس» كانا بقرار جماعي من مجموعتنا التي أصبحت تتولى قيادة المقاومة المسلحة، فسواء بالنسبة لتعيين «الهدف» أو التوقيت أو المنفذين، كنا نقرر ذلك جماعة، وبالتالي فكلتا العمليتين والعمليات التي تلتها جاءت ضمن نفس السياق الذي شرحته·
بالنسبة للعملية الأولى والتي استهدفت مفتش الشرطة «المسكيني» تكلف بتنفيذها كل من محمد منصور، لحسن سرحان والمذكوري، وقد وزع الثلاثة الأدوار بينهم كالتالي، تكلف منصور والمذكوري بالتغطية، في حين تولى سرحان مهمة اطلاق النار على الخائن «المسكيني»· كان سرحان يركب دراجة، وقد أطلق رصاصتين على مفتش الشرطة، لكنه ظل على قيد الحياة· مباشرة بعد اطلاق النار، فر سرحان بسرعة على متن دراجته الهوائية، كما اختفى كل من منصور والمذكوري، لكن بعض الذين كانوا شهود عيان على العملية أعطوا للمحققين أوصاف سرحان بعد أن تعرفوا عليه فجرى البحث عنه واعتقل في ظرف أيام معدودة·
س– ماذا كان تقييمكم لهذه العملية، التي لم تحقق هدفها، أي تصفية مفتش الشرطة المسكيني؟
ج– عقدنا اجتماعا مباشرة بعد ذلك، مازلت أذكر أن موقفي كان إبانها هو أننا يجب أن نكثف من العمليات وفي توقيت متقارب·
بمعنى أن العملية الأولى ضد «المسكيني» شكلت بالنسبة إليكم درسا لابد من الاستفادة منه بالنسبة للعمليات الأخرى·
بالفعل، وقد قلت ذلك للشهيد السي محمد الزرقطوني، في الاجتماع الذي أشرت إليه، وقد ناقشنا الموضوع بتمعن، واتضح لنا في الأخير أن القيام بعمليات متفرقة، لن تؤتي أكلها، إذ أنها لن تكون عمليات موجهة للاستعمار وأدواته القمعية، كما أنها لن تحقق الهدف الآخر المنشود وهي إثارة انتباه الرأي العام و·خلق تعاطف شعبي مع الفدائيين· فكما أشرت، ففي العملية الأولى كان هناك بعض المواطنين الذين تعرفوا على لحسن سرحان منفذ العملية وأعطوا أوصافه للشرطة، لقد استوعبنا بأن ما حدث كان من أخطاء البداية، والشعب لم يكن ضد الفدائيين، كل ما هناك أنه فوجئ بهذه العمليات وجرأتها، كما أن حركة الفداء كانت تخطو خطواتها الأولى، وستتأكد تحليلاتنا فيما بعد عندما أصبح من السهل على الفدائيين بعد تنفيذ عملياتهم الذوبان في أوساط الشعب الذي أصبح الذرع الواقي والحامي للحركة·
س– ماذا قررتم إذن في هذا الاجتماع؟
ج– في هذا الاجتماع تم الاتفاق على تنفيذ عملية تصفية الخائن «بنيس» بالمدينة القديمة، وبالفعل نفذت بعد أيام قليلة وكانت عملية ناجحة·
س– من الذي نفذها؟
ج– لا أتذكر بالضبط الذي قام بإطلاق النار على مفتش الشرطة الخائن، لكن الذي خطط لها وتكلف بالسهر عليها هو الشهيد السي محمد الزرقطوني، كان هو المسؤول عن العملية من البداية إلى النهاية، وقد نفذت العملية بنجاح حيث تم اغتيال الخائن، وكانت ضربة موجعة للمستعمر والخونة والمتعاملين معه، ولأنها جاءت بعد أقل من شهر من نفي محمد الخامس، فقد كان لها وقع كبير على مختلف الأصعدة، ومنحت هذه العملية الثقة لحركة المقاومة المسلحة، وكانت أول عملية ناجحة تنفذ بواسطة مسدس·
س– هل تتذكر هذا المسدس؟
ج– كان المسدس الذي ذكرته في السابق، مسدس طومسون من طلقة واحدة، وهذا يؤكد ما سبق وأشرت إليه، إذ أن بداية عمليات حركة المقاومة كانت بأسلحة قليلة، كل من يكلف بتنفيذ عملية تمنحه المسدس والرصاص اللازم، وبعد أن ينفذها يعيد السلاح، ليستعمل في عملية أخرى، السلاح الفعال لم يتوفر لنا إلا بعد مدة من انطلاق العمليات الفدائية·
السي اسعيد أريد أن أعود لعملية المسكيني لتوضح لي الظروف المحيطة بها، فقبل أن نبدأ هذا الحوار المطول، وفي معرض اطلاعي على عدد من المؤلفات التي خصصت لهذه المرحلة، هناك من ذكر بأن محاولة تصفية مفتش الشرطة الخائن «المسكيني» تمت قبل التحاقكم بالخلية الأولى التي كانت تضم الشهيد الزرقطوني والمؤسسين الأوائل، وأن خليتكم التي كانت تتكون منك أنت ومن محمد منصور ولحسن سرحان وعبد السلام بناني، نفذت هذه العملية بانفصال كامل عن الجماعة التأسيسية·
كلا، هذا غير صحيح، عندما تم تنفيذ العملية التي استهدفت «المسكيني» كنا قد التحقنا بخلية الشهيد الزرقطوني، وقد تمت كما ذكرت قبل أيام قليلة من تصفية الخائن «بنيس»·
نفس الكتابات ذكرت أنك أنت ومحمد منصور وعبد السلام بناني، كنتم تشكلون خلية فدائية موازية لخلية الزرقطوني أو تنظيم منفصل عن التنظيم الأم، وأنه عندما عرفت المجموعة المؤسسة بأمركم طلبت من عبد السلام بناني التحاقكم بالمجموعة·
الذي حصل أن الشهيد محمد الزرقطوني والتهامي نعمان والعرايشي وغيرهم من المؤسسين الأوائل، طلبوا من عبد السلام بناني اقتراح أعضاء جدد ليلتحقوا بالحركة، وهكذا اتصل بي وبصديقي محمد منصور وأخبرنا بوجود خلية للمقاومة المسلحة، وقد حصل ذلك لأننا كنا خلال نشاطنا داخل حزب الاستقلال وبفضل علاقتنا الوطيدة قد اقتنعنا بضرورة حمل السلاح دفاعا عن استقلال المغرب وكرامته، كان كل واحد منا قد اقتنع واتخذ قراره، وكنا نبحث عن الوسيلة والكيفية التي سنقوم من خلالها بتصريف أو تفعيل القرار الذي أصبح جاهزا، وجاء ذلك عن طريق المرحوم عبد السلام بناني، وقد كان المرحوم من الوطنيين المعروفين لدى أجهزة الأمن الاستعمارية عكسنا نحن، لذلك قمنا بإخفائه بعيدا عن أعين المستعمر وأذنابه حتى لايتعرض للاعتقال، وبدأنا نحن نتحمل مسؤوليتنا في إطار الكفاح المسلح لضرب الاستعمار في العمق، ردا على الجرائم التي قام بها وإقدامه على نفي محمد الخامس، وبالفعل مالبثنا أن «دخلنا للمعقول» وبدأنا نضرب بقوة في إطار عمليات مدوية سيكون لها صدى كبير على جميع الأصعدة، وستلفت الانتباه داخل وخارج المغرب، وأصبحت المقاومة عاملا ومؤثرا في الساحة·
س– تحدث لنا عن المحاولة التي قمت بها لتفجير قناة البترول التي كانت تربط بين النواصر وبن اجرير·
ج– قمت بهذه المحاولة رفقة محمد منصور ومقاوم آخر·
س-هل تذكر من كان ذلك المقاوم؟
ج– للأسف لم أعد أذكر اسمه، على كل حال، قررنا أن نقوم بتخريب قناة البترول وكانت تربط بين النواصر وبن اجرير، ركبنا السيارة، وكنت أنا من يتولى سياقتها وتوجهنا عبر الطريق الرابطة بين الدارالبيضاء وسطات، وفي المنطقة المحددة، وجدنا الحراسة مشددة وبوغتنا بقوات الدرك قبل الشروع في التنفيذ، فقررنا الانسحاب وعقدنا العزم على العودة في وقت آخر لتنفيذ العملية، لكننا وبعد التطورات اللاحقة صرفنا النظر عنها·
س– متى كان ذلك بالضبط؟
ج– لم أعد أذكر، لكني أعتقد أنها كانت في الأشهر الأولى لبدء عمليات المقاومة المسلحة، لقد قمنا بعدد من العمليات والمحاولات «شحال قدني مانعاود» هناك العديد من العمليات لم يذكرها أحد، لأن الاهتمام انصب فقط على العمليات الكبرى والمدوية، وفي الحقيقة فالعمليات التي نفذتها المقاومة أو قامت بمحاولات لتنفيذها بدون أن تنجح، عمليات عديدة ويصعب حصرها، نظرا للمدة الزمنية التي تفصلنا عنها، كما أن العدد الكبير لخلايا المقاومة التي رأت النور، والضربات التي وجهت للقيادة، كل ذلك يجعل من الصعب تذكر كل المهام التي قمنا بها، كما أريد أن أشدد على أن ادعاء شخص واحد، مهما كانت مسؤوليته في قيادة المنظمة السرية أو حركة المقاومة المسلحة، بأنه ملم بكل تفاصيل تلك المرحلة، ادعاء بعيد عن الصحة، لقد قام كل واحد منا بأداء الدور المنوط به، حسب مقدرته، ويكفيه شرف ما قام به في سبيل الوطن، أما القول بأن شخصا ما أو فلان هو الذي قام بكل شيء، فذلك غير صحيح، والأفضل أن يتحدث كل واحد عما قام به أو عرفه عن قرب، وبذلك يمكن تجميع شتات ذاكرة المقاومة· وشخصيا لا أريد أن أذكر إلا الأشياء التي قمت بها وأعرفها، أما غير ذلك فلا أجد سببا يدعوني لقول العكس·
تفجير قطار الدارالبيضاء – الجزائر
س– أجمعت كل الكتابات المتعاقبة بحركة المقاومة المسلحة والمذكرات التي نشرها مقاومون عايشوا تلك الفترة عن قرب أن عملية تفجير قطار الدار البيضاء -الجزائر، شكلت نقطة تحول في مسار حركة الفداء ، نظرا للدقة التي تمت بها ، سواء من حيث التخطيط أو إختيار الهدف أو التنفيذ· بصفتك أحد الذين خططوا لهذه العملية ونفذوها، كيف تمكنتم من توجيه هذه الضربة الموجعة إلى الإستعمار؟
ج– كما سبق وأشرت، فإنه بعد إقدام الإستعمار على تنفيذ الجريمة الشنعاء المتمثلة في نفي محمد الخامس، قررت حركة المقاومة ، التصعيد من عملياتها ، والبحث عن الوسائل التي تمكنها من تحقيق أهدافها · العمليات الأولى والتي سبق وأشرت إلى بعضها ، كان لها المفعول الذي توخيناه ، حيث أنها أثارت إنتباه الشعب الذي بدأ يتعاطف مع المقاومة ، وأعادت الثقة إلى نفوس الجماهير ، بعد نفي الملك الشرعي للبلاد وتنصيب دمية مكانه بتواطؤ مع بعض القياد والإقطاعيين الخونة· بهذا المعنى كان لهذه العمليات تأثير إيجابي ، كما أنها أحدثت في أوساط السلطات الإستعمارية وأذنابها والمتعاونين معها· فبعد محاولة تصفية مفتش الشرطة «المسكيني» وإغتيال الخائن «بنيس» ، أصبح الخونة يعيشون حالة توجس ورعب ، وتنفس المقاومون الصعداء إدراكا منه أن قطار المقاومة قد إنطلق، ولن يوقفه شئ سوى تحرير البلاد · لكن ، ونحن نناقش ونحلل كل هذه المعطيات، في إطار القيادة المركزية للمنظمة السرية، كما كنا نطلق عليها آنذاك، كنا واعين بأنه من الضروري والمستعجل ، التصعيد من وتيرة العمليات الفدائية من جهة ، وتنفيذ عمليات نوعية، توجع السلطات الإستعمارية، ونؤكد لها أن الجرائم التي اقترفتها ومازالت تقترفها بحق المغرب والمغاربة لن تمر هكذا ، وأنها سوف تدفع الثمن غاليا بسبب سياستها · في هذا الإطار قررنا أن نقوم بتفجير قطار الدار البيضاء – الجزائر·
س– كيف كانت الترتيبات السابقة على تنفيذ هذه العملية ، من إعداد للقنابل وتخزينها إلى حلول الموعد المحدد ، إلى غير ذلك من مراحل الإعداد؟
ج– قد يبدو ذلك مفاجئا للجيل الحالي وللقراء، لكن الحقيقة هي أنه لا يوجد ضمن المجموعة التي خططت ونفذت هذه العملية من يعرف تفاصيلها وذلك بسبب الأسلوب التنظيمي الصارم الذي كنا نعتمده لحماية خلايا المقاومة ، ومفاده أن كل عضو مهما بلغت درجة مسؤوليته لا يجب أن يعرف إلا ما يدخل في نطاق المهمة التي تم تكليفه بها · فلأسباب أمنية كنا ننأى عن معرفة كيف قام عضو آخر بتنفيذ ما هو مكلف به ، وذلك لأن معرفة شخص بكل التفاصيل سيعصف بالتنظيم كله إذا ما جرى اعتقاله· عموما ما أعرفه حول مراحل الإعداد هو أن القنابل صنعت من طرفنا بوسائل محلية ، واعتمدنا في ذلك على شراء ماسورات، وقد تم تقطيعها في المدينة القديمة عند «سودور» كان الشهيد الزرقطوني هو الذي اتصل به، أما إعداد القنابل فقد تم على مراحل وكانت لدى المقاومة آلة خاصة بذلك، لكني لا أستطيع أن أؤكد من تابع العملية بعد ذلك، بعد أن أصبحت القنابل جاهزة ، قمنا في البداية بتخزينها في محل كان في ملك المرحوم عبد لله الصنهاجي، وأذكر أننا بعد ذلك نقلناها إلى «عرصة» في سيدي مسعود، فقد كنا كلما أحسسنا بحركة غير عادية نعيد نقل المتفجرات وما نتوفر عليه من أسلحة إلى مكان آخر ، حتى لا يتم اكتشافها، خصوصا أن ما كنا نتوفر عليه من سلاح كان قليلا جدا، وكان وقوعه في يد السلطات الإستعمارية سيضعنا في مأزق·
س– بعد ذلك جاء وقت التنفيذ؟
ج– نعم وكان ذلك بقرار من القيادة المركزية التي عينت المسؤولين عن تنفيذ العملية ، وهم ، عبد ربه ومحمد منصور ومحمد السكوري ·
س– متى كان ذلك ؟
ج– تقرر تنفيذ العملية في 7 نونبر 1953· ذلك اليوم، بعد الزوال، ركبنا السيارة نحن الثلاثة، وتوجهنا إلى محطة القطار (الدار البيضاء – المسافرين)· كان كل من منصور والسكوري يحمل حقيبة وضعت بها قنبلة· بعد أن وصلنا إلى محطة القطار، توجهت إلى شباك التذاكر واشتريت لهما تذكرتين، حسب الخطة التي تم الإتفاق عليها – وبعد ذلك سلمتهما التذكرة· وفيما تركتهما ينتظران موعد إنطلاق القطار غادرت المحطة ، وركبت السيارة وتوجهت بسرعة باتجاه مدينة الرباط حتى أكون في انتظارهما في الموعد المحدد بعد مغادرتهما القطار·
س– ما هو نوع السيارة التي استعملتم ومن كان صاحبها ؟
ج– «يتعلق الأمر بسيارة» تراكسيون « وكانت في ملك مولاي عبد لله الشتوكي ، وهي أول سيارة استعملتها حركة المقاومة·
س– في الطريق إلى الرباط، وأنت تقود السيارة بسرعة للوصول في الموعد المحدد إلى الرباط ، ما هي الأفكار التي كانت تجول في خاطرك؟
ج– كان همي الأول هو أن أصل في الموعد المحدد ، لأتمكن من إعادة الأخوين منصور والسكوري سالمين إلى الدار البيضاء، كنت أدعو لله أن نتوفق في توجيه هذه الضربة إلى المستعمر، فبعد كل الجهود التي قام بها كل واحد ، حسب المهمة التي كلف بها ، لم يتبق إلا التنفيذ · كنت أستعرض كل المهام التي أنجزناها قبل ذلك على درب الكفاح، والروح المعنوية العالية التي
يتوفر عليها المقاومون ، والجاهزية التي أبانت عنها الحركة منذ إنطلاقها، وكيف أننا إنتقلنا إلى مرحلة أخرى من مراحل الكفاح المسلح دفاعا عن وطننا، وأن العملية التي نحن مقدمين عليها سيكون لها وقع كبير على جميع الأصعدة، خواطر كثيرة أخرى كانت تفرض نفسها في تلك اللحظات الحاسمة ، وأنا أشق الطريق باتجاه الرباط، وكنت متفائلا لأني كنت أعرف من أية طينة خلق رجال المقاومة·
س– ووصلت في الوقت المحدد..
ج– نعم وصلت قبل وصول القطار إلى محطة الرباط المدينة· توقفت قرب المحطة ، وترجلت متوجها صوب بابها الذي كان يعج بالبوليس· وظللت أنتظر ، وبعد مدة رأيت الأخوين محمد منصور ومحمد السكوري قادمين· أخبراني أن كل شئ على ما يرام ، وتوجهنا صوب السيارة ، وبسرعة قفلنا راجعين إلى الدار البيضاء·
س– ماذا فعلا بالضبط داخل القطار؟
ج– عندما إقترب القطار من مدينة الرباط ، دخل كل واحد منهما إلى المرحاض ووضعا القنبلة بعد إشعال الفتيل، وذلك حسب التوقيت الذي تم تحديده حتى تنفجر القنبلتان في النفق الذي يلي محطة الرباط المدينة، وبعد توقف القطار غادراه والتحقا بي حيث كنت أنتظرهما·
س– بعض الكتابات ذكرت أنكم إستعملتم فتيلين في كل قنبلة؟
ج– هذا غير صحيح · كان هناك فتيل واحد·
س– ولماذا حددتم النفق كمكان للإنفجار ؟
ج– حتى يكون الإنفجار أقوى ويلحق أكبر عدد من الخسائر
س– متى وصلتم إلى الدارالبيضاء ؟
ج– ليلا، أوصلت الأخوين منصور والسكوري إلى سكناهما، وأعدت السيارة إلى مولاي العربي الشتوكي ثم توجهت إلى بيتي ، عندها كانت الساعة تشير إلى العاشرة ، فنمت فورا·
س– متى علمت بنتائج العملية ؟
ج– في اليوم التالي ، عن طريق الجرائد· كان العديد من القتلى قد سقطوا في أوساط الفرنسيين ومنهم الجنود، وقد ذكرت الجرائد أن من نفذها أشخاص قدموا من القاهرة
س– ولماذا لم يقع الإنفجار داخل النفق؟
ج– التوقيت الذي حددناه كان صحيحا وكانت القنبلتان ستنفجران فعلا في المكان المحدد ، لكن الذي حدث هو أن القطار تأخر بعض الشئ، في محطة أكدال· على العموم كان الإنفجار قويا وقد أصاب المستعمر بالذهول، وبدأ يتحدث عن عناصر قادمة من مصر، وهو ما أكد أن الخطة التي وضعناها والسرية التي رافقت العملية كانت جد محكمة ·
نفوا محمد الخامس في عيد الأضحى فهاجمناهم في أعياد الميلاد.
س- نجاح عملية القطار والصدى الذي خلفته، كيف تم استقباله من طرفكم كقيادة مركزية لحركة المقاومة المسلحة؟
ج- بعد اطلاعنا على نتائج العملية، كما نشرتها الجرائد الاستعمارية والخسائر التي تكبدها المستعمر، سواء على الصعيد المادي أو السياسي، أصبح واضحا بالنسبة إلينا أنه بالرغم من شح الإمكانيات، فقد بدأت المقاومة المسلحة تفرض نفسها على الساحة، وأن الشعب بدأ يقتنع بأنه من الممكن ضرب الاستعمار وتمريغه في الوحل بالرغم من كل الإمكانيات التي يتوفر عليها·
لابد وأن هذه العملية قد زادت من حماسكم ورفعت معنوياتكم خصوصا بعد حالة الارتباك التي سادت في صفوف السلطات الاستعمارية وأذنابها·
في الواقع، نحن كنا متحمسين منذ أن قررنا الانخراط في العمل الفدائي «احنا كنا مشجعين من البداية»، وكنا مصرين على الاستمرار في هذا النهج حتى النهاية، ومهما كان الثمن، فالمقاومون كانوا يضعون أمام نصب أعينهم، وطوال الوقت احتمال الموت في سبيل القضية، ولذلك كنا نحمل معنا حبة السم·
س– أنت أيضا كنت تحملها معك؟
ج– طبعا، وكنا مستعدين لتناولها إذا ما استدعت الضرورة ذلك، وكان أول من تناولها الشهيد حسن الصغير، وبعده الشهيد محمد الزرقطوني الذي لم يتردد لحظة واحدة في تناولها عندما حاول رجال الشرطة إلقاء القبض عليه، أقول هذا لأوضح إلى أي درجة كان الحماس والاستعداد لبذل أغلى ما يملكه الإنسان، سائدا لدى المقاومين· وقد كنا، في هذا الإطار، نتوصل بطلبات من المقاومين للقيام بعمليات انتحارية·
س– وماذا كان ردكم، وهل تذكر بعض الذين اقترحوا تنفيذ عمليات انتحارية ضد المستعمر؟
ج– لم نستطع أن نلبي هذه الطلبات، لأننا لم نكن نتوفر على الوسائل الكفيلة بإنجاحها· وفي هذا الإطار، أتذكر أننا تلقينا طلبا ملحا من طرف مقاوم يدعى «ملال» وهو لايزال على قيد الحياة، وآخر لا يقل حماسه من طرف «الحطاب» الذي انتقل الى جوار ربه· لكننا رفضنا تحقيق مطالبهما، لانعدام الإمكانيات· فمثلا ذات مرة، ذكر لنا منصور أنه يريد الحصول على سلاح رشاش، ليتوجه الى «بلاس دوفرانس» بشارع «لاگار» ـ شارع محمد الخامس حاليا ـ ويطلق النار على الفرنسيين الذين كانوا يتجمعون بكثافة في هذه الساحة، ولو توفر لنا سلاح رشاش آنذاك، لما تردد منصور في تنفيذ هذه العملية التي لم يكن من الممكن أن يخرج منها حيا، أقول هذا لأوضح إلى أية درجة وصل الحنق والغضب من المستعمر، وكيف كان المقاومون يبحثون عن أية وسيلة لضربه·
بعد عملية القطار، جاءت عملية السوق المركزي «مارشي سنطرال» التي لم تكن تقل عنها أهمية نظرا للخسائر التي تكبدها الاستعمار والصدى الذي خلفته وكذلك التوقيت الذي تم اختياره·
بالفعل، واختيار التوقيت كان عاملا حاسما، وكان مقصودا لأننا قررنا «نْعَيْدُوا بهم في نُوِّيل كيما عيْدوا بنا في العيد الكبيرْ»·
س– ماذا تقصد بذلك؟
ج_ السلطات الاستعمارية، كما هو معلوم، أقدمت على نفي محمد الخامس في 20 غشت 1953، وكان هذا اليوم يصادف عيد الأضحى، فبالإضافة الى اقترافها لهذه الجريمة الشنعاء التي استهدفت السلطة الشرعية بالبلاد، أصرت على تنفيذ ذلك في مناسبة دينية مقدسة لدى المغاربة وهي «العيد الكبير»، لذلك وكي نرد لها الصاع صاعين، قررنا أن نقوم بعمليات يكون لها وقع كبير في أعياد الميلاد، التي يخصص لها المسيحيون احتفالات كبيرة، وأن نحول هذه المناسبة إلى يوم حداد، كماحولوا العيد الكبير إلى يوم حداد لنا عندما قاموا بنفي محمد الخامس·
س– لماذا اخترتم تلك الأماكن بالضبط، أقصد السوق المركزي والبريد المركزي ومركز الطرود «كولي بوسطو»؟
ج– لم يكن الاختيار عشوائيا، فالسوق المركزي «مارشي سنطرال» كان ذلك اليوم، 24 دجنبر 1953، يعج بالفرنسيين الذين يقصدونه بكثافة قصد التبضع للاحتفال بأعياد الميلاد، ونفس الشيء بالنسبة للبريد المركزي ومركز الطرود «كولي بوسطو»، حيث كان العديد منهم، في مثل هذه المناسبة، يقومون ببعث رسائل وهدايا إلى ذويهم·
س- أنت لم تكن ضمن الذين كلفوا بتنفيذ هذه العمليات وكنت خارج الدار البيضاء ساعتها، هل هذا صحيح؟
ج- نعم، فبعد عملية القطار، وكإجراء احترازي، قمت بنقل أفراد عائلتي إلى «البلاد» ليستقروا هناك بصفة نهائية، لأني شعرت بأنه لن يمر وقت طويل حتى أضطر للاختفاء عن الأنظار، وأن التطورات القادمة ستتطلب مني حرية الحركة وتغيير أماكن الإقامة بشكل دائم، وبالتالي، فمن الضروري أن أتفرغ بالكامل للمقاومة·
س– وماذا فعلت بالشاحنة التي كانت في ملكك؟
ج– تركتها لدى شريكي، وتفرغت بالكامل لما يفرضه عليه واجب الكفاح·
س– كانت عملية المارشي سنطرال ناجحة وخلفت خسائر كثيرة في أوساط المستعمرين، من الذين تم تكليفهم بهذه العمليات؟
ج– بالنسبة للسوق المركزي «المارشي سنطرال»، فالذي تولى تنفيذ العملية هو محمد بنموسى، وقد توجه الى هناك رفقة عبد الله الزناكي، على متن سيارة هذا الأخير· بعد الوصول، حمل بنموسى القنبلة ووضعها قرب أحد محلات الجزارة، دون أن يثير انتباه المتبضعين الذين كانوا يملأون فضاء السوق، ثم قفل راجعا· وما هي إلا لحظات حتى انفجرت القنبلة لتحصد معها العديد من الضحايا·
س– وبالنسبة لعمليتي «كولي بوسطو» و«البريد المركزي»؟
ج– كما هو معروف، البنايتان متلاصقتان، وقد توجه الى هناك كل من محمد منصور والغندور وبوشعيب الأيوبي ومولاي العربي الشتوكي، وذلك على متن سيارة هذا الأخير· بعد الوصول الى عين المكان، توجه الغندور الى مركز الطرود البريدية «كولي بوسطو» وبوشعيب الأيوبي إلى إدارة البريد المركزي، وقد حمل كل واحد منهما القنبلة التي تم إعدادها لذلك، وآخر التوجيهات التي زودهما بها منصور، وقد قام كل من الغندور وبوشعيب بتنفيذ المهمة التي أنيطت بهما، لكن القنبلتين لم تنفجرا، لأنه بعد إشعال الفتيل، أثار الدخان المنبعث، وفي مكان مغلق، انتباه الحاضرين، فبدأ الصراخ وهب رجال الشرطة فأطفأوها·
على العموم، أحدثت عملية «المارشي سنطرال» زلزالا في الأوساط الاستعمارية، وكانت من أكبر العمليات التي نفذتها المقاومة المسلحة، وحسب ما نشرته الجرائد بعد ذلك، فقد خلفت مقتل 18 شخصا وجرح 26 آخرين·
اللجوء إلى الشمال وقصة اللقاء الأخير مع الشهيد محمد الزرقطوني
س– رغم أن عملية البريد المركزي و «كولي بوسطو» لم يكتب لهما النجاح· الا ان نجاح عملية «المارشي سنطرال» والخسائر التي تكبدها الاستعمار، كل ذلك جعل المهتمين بتاريخ المقاومة، يضعوها على رأس العمليات التي اصابت الاستعمار في مقتل، ماهي ذكرياتك عن الاجواء السائدة عقب هذه العملية؟
ج– بالفعل عملية «المارشي سنطرال» كان لها صدى استثنائي، فأن تتمكن المقاومة من صنع القبائل ونقلها الى المكان المحدد وتركها هناك دون اثارة الانتباه، وفي واضحة النهار، كل ذلك، رفع من اسهم حركة المقاومة المسلحة لدى الرأي العام الداخلي والخارجي· وبدأت تثير الانتباه لدى العديد من الاطراف الخارجية، كما ان عملية «المارشي سنطرال» وقبلها عملية القطار الرابط بين الدار البيضاء والجزائر العاصمة زعزع ثقة الاستعمار بنفسه، إلا أن أهم ما حققته من نتائج تبقى ايمان نخبة هامة آنذاك من الشباب المغربي المتحمس بالمقاومة المسلحة كخيار امثل لمقاومة الاستعمار: ايمان سيترجم على أرض الواقع بالتحاق العديد منهم بصفوف المقاومة المسلحة، وسيبرهنون عن استعداد كبير للتضحية بكل شيء دفاعا عن الوطن·
س– اعتقال محمد منصور سيدفع بك الى مغادرة الدار البيضاء باتجاه تطوان، ماهي الظروف التي واكبت اعتقال صديقك ورفيقك في الكفاح، ومن ثمة لجوئك الى المنطقة الخليفية انذاك؟
ج– بضواحي الرباط كانت لدينا ضيعة بواد ايكم نخفي فيها بعض المقاومين «المتورطين» اي الذين اصبحوا مكشوفين لدى السلطات الاستعمارية، وسيمر وقت دون ان تصلنا أخبار من هناك، فبدأنا نطرح التساؤلات حول مصير الاخوان هناك· وقررنا ارسال عبد الله الصنهاجي لاستطلاع الامر، لكن الذي وقع هو ان الصنهاجي لم يحصل على أية معلومة تفيدنا بمصير الاخوان المختبئين، حينها ذهبت عند الشهيد الزرقطوني وقلت له «هاذ الشي ما عاجبنيش لابد ان نستطلع الامر بأنفسنا»·
وافق الشهيد على اقتراحي، وبهذا توجهنا الى الرباط على متن نفس السيارة «تراكسيون» ، نعم على متن تراكسيون التي كان يملكها المرحوم مولاي العربي الشتوكي، وكنت انا الذي أسوقها وكان الشهيد بجانبي، وكنا طوال الوقت نقلب الموضوع من مختلف الجوانب· في البداية قصدنا مسكن احد المقاومين المعلم حمو قرب المجزرة البلدية، فعلمنا انه اعتقل، فتوجهنا بعدها الى ضيعة واد ايكم، وبإجراء احتياطي، لم نتوجه الى الضيعة، بل اوقفنا السيارة قربها ونزلت من السيارة وفتحت «الكابو» كما لو اني كنت اصلح عطبا بالسيارة، وكنت ألقي بين الفينة والاخرى نظرة على باب الضيعة، فلمست حركة غير عادية هناك، اخبرت الشهيد الزرقطوني بمالاحظته وبتوجساتي، فقررنا العودة بسرعة الى الدار البيضاء·
س– هل كان منصور قد اعتقل بعد عودتكم؟
ج– عندما عدنا توجهت مباشرة الى دكان منصور· فعلمت انه قد جرى اعتقاله اثناء غيابنا، وهكذا اتضحت لنا الصورة بالكامل· فقد أدى اعتقال الاخوان بضيعة واد ايكم وبينهم الغندور الذي شارك في عملية «كولي بوسطو» الى اكتشاف امر منصور الذي اعتقل بعد ذلك· وهكذا ما ان علمت بالامر حتى ادركت انه لن يمر وقت طويل حتى ينهار منصور تحت التعذيب الوحشي الذي كانت تمارسه الشرطة في حق المقاومين· وبما انه الوحيد الذي كان يعلم بهويتي الحقيقية، فقد اصبحت مضطرا للاختفاء عن الانظار بأسرع وقت ممكن·
س– تقول انه الوحيد الذي كان يعرف بالضبط اسمك الحقيقي؟
ج– نعم هو الوحيد، اننا كنا اصدقاء منذ عدة سنوات وقبل ان نلتحق بحزب ا لاستقلال ثم بالمقاومة المسلحة، وكما سبق ان ذكرت، فقد كانت تنظيماتنا محكمة لدرجة انه كان لكل واحد منا اسمه الحركي ورقم خاص به، فأنا مثلا كان انذاك اسمي الحركي هو «حمو» ورقمي هو 27 ،لكن من يكون حمو هذا بالضبط، لا أحد يعرف باستثناء منصور·
س– الزرقطوني لم يكن يعرف اسمك الحقيقي؟
ج– كلا، لم يكن يعرف· بالنسبة اليه كنت «حمو» وهو بالنسبة لي كان «علال»، عندما احدثك الان عن اسماء المقاومين، من امثال عبد لله الصنهاجي وحسن صفي الدين وحسن العرايشي··· فهذه الأسماء لم تعرف إلا بعد مدة طويلة، لقد كانت تنظيماتنا محكمة، ولذلك تمكنت المقاومة من الصمود رغم الضربات القوية التي وجهت إليها·
س– ماذا فعلت بعد أن علمت باعتقال محمد منصور؟
ج– بعد استطلاع الأجواء، علمت أن رجال الشرطة سألوا عني في دكان السجائر الذي سبق وحدثك عنه، والواقع في زنقة ستراسبورغ، عندها لبست «جلابية» واتصلت بالشهيد الزرقطوني، وعندما رآني ضحك وقال: «إذا لقد تورطت بدورك فأجبته» نعم، هاذ الشي اللي كاين» فقررنا أنه يجب أن أختفي عن الأنظار·
س-من الذي «تورط» أيضا معك وكان يجب أن يختفي بدوره؟
ج– هذه الاعتقالات دقت أيضا ناقوس الخطرل «عبد لله الصنهاجي» الذي سيكون عليه أن يختفي بدوره، وسيرافقني بعدها الى الشمال· عندها لم يعد من الممكن البقاء في الدار البيضاء· قبل ذلك اتخذتم جملة من الاحتياطات، من بينها نقل شحنة من الأسلحة كان محمد منصور على علم بمكان تواجدها· بالفعل، كانت هناك شحنة من الأسلحة مخبأة في «عرصة لارميطاج» وكان محمد منصور يعرف بأمر تواجدها، ولذلك فقد كان من الضروري والمستعجل نقل هذه الشحنة الى مكان آخر، لذلك أسرعت أنا والزرقطوني الى مكان تواجد سيارة المرحوم «مولاي العربي الشتوكي»· في البداية لم نتمكن من إشعال محركها، فاضطررنا، أنا والشهيد الى دفعها لمسافة غير قصيرة، وبعدها ركبنا السيارة وتوجهنا الى مكان تواجد الأسلحة·
س– كم كانت كمية الأسلحة المخبأة في «عرصة لارميطاج»؟
ج– العدد الأكبر منها كان عبارة عن قنابل، أما المسدسات فكان عددها قليلا· وكان من الضروري نقلها حتى لاتقع في يد السلطات الاستعمارية·
س– وكيف تمت عملية نقل الأسلحة؟
ج– تمت بنجاح، لكن ماحدث لنا في طريق العودة أمر أغرب من الخيال
س– ما الذي حصل؟
ج– في طريق العودة، فوجئنا بحاجز لرجال الدرك يفتش السيارات والشاحنات، ولا أخفي عليك أنني في الوهلة الأولى أدركت أننا وقعنا· التفت إلي الشهيد وسألته: ألم تحمل معك مسدسا أو اثنين لندافع عن أنفسنا؟ أجابني بالنفي، فالأسلحة كلها كانت في صندوق السيارة، فقلت له: يا إلهي، إن الأسو من الاعتقال هو أن يأخذونك مجانا «فابور»، لو كان معنا على الأقل مسدس فلن ندعهم يلقون علينا القبض إلا بعد إسقاط أكبر عدد ممكن منهم (يضحك) لكن بعد هنيهة سنفاجأ برجال الدرك يطلبون منا مواصلة الطريق دون أن تفتيش، ولم نتنفس الصعداء إلا بعد أن أصبحنا بعيدين عنهم، حينها أدركنا أن العناية الإلهية ترافقنا، وأننا مادمنا ندافع عن قضية عادلة فالله معنا· على كل وصلنا الى المكان الذي اتفقنا على وضع الأسلحة فيه، وهو منزل والد الحسين برادة، فتركنا الأسلحة هناك وأعدنا السيارة الى مكانها·
س– بعد ذلك اختفيت
ج– نعم، أذكر أن من الأماكن التي اختفيت فيها، وكان ذلك رفقة عبد الله الصنهاجي، منزل يملكه صهر هذا الأخير، اختفينا في غرفة بسطح المنزل يقع في المدينة القديمة· كما كنا مرات نبيت انا والزرقطوني في الخلاء، قرب مكان الاذاعة بعين الشق· وعندما اشتد علينا الخناق، اصبح من الضروري ان أغادر الدار البيضاء فالأنباء التي كانت تصلنا، كانت تفيد بأن السلطات الاستعمارية قد جندت العديد من المخبرين ورجال الشرطة للبحث عني، بعد المعلومات التي تمكنت من جمعها حولي، لذلك اصبحت مقيدا وغير قادر على الحركة· فكان من الضروري ان اغادر الدار البيضاء لبعض الوقت· اذكر انني عندما اخبرت الشهيد محمد الزرقطوني بأني سأنتقل الى الشمال· بكى وقال لي: هل تتركني لوحدي، قلت له، ان وجودي هنا اصبح عبئا على حركة الفداء ولم يعد من الممكن ان ابقى في ظل هذه الاجواء، وعدته بأنني سأعود بعد ثلاثة اشهر· سأفي بوعدي، وسأعود فعلا بعد ثلاثة اشهر، لكن الزرقطوني كان قد استشهد رحمه لله·
س– كانت اذن لحظة الوداع آخر لقاء بينكما؟
ج– نعم اخر لقاء، ودعني والدموع في عينيه، ولم أكن أعرف لحظتها انها المرة الأخيرة التي سأرى فيها هذا البطل الاستثنائي.
كيف أفلت مرتين من قبضة حرس الحدود المصطنعة في عرباوة
س– قررت إذن، رفقة عبد لله الصنهاجي، مغادرة الدار البيضاء، باتجاه المنطقة الخليفية حتى تهدأ الاوضاع قليلا، وذلك في الوقت الذي كنت – أنت والزرقطوني على رأس المطلوبين بعد اعتقال منصور، كيف كانت الرحلة الى الشمال· وهل واجهت بعض المصاعب قبل الوصول الى تطوان؟
ج– لم تكن الرحلة خالية من المصاعب، وكنا قد وضعنا خطة لتجاوز الحدود المصطنعة في عرباوة وعدم الوقوع في أيدي حرس الحدود· كنا ثلاثة، أنا وعبد الله الصنهاجي وشخص ثالث اسمه الرحموني· وصلنا الى منطقة الحدود في الليل، كان الصنهاجي بحكم قامته الطويلة يسرع الخطى، وقد سبقنا خلال المسير لمسافة غير قصيرة· وبقينا أنا والرحموني وراءه، فجأة وجدنا انفسنا وجها لوجه أمام حرس الحدود· كانوا عدة أفراد، كل واحد منهم يمتطي فرسا ومتأهبا لإلقاء القبض لكل من يحاول التسلل،بدأوا يصيحون في وجهنا ويطلبون منا التوقف· لم أذعن لأوامرهم، وصحت في وجه الرحموني طالبا منه الاسراع بالفرار· ذهب هو في اتجاه وأنا في اتجاه آخر· كنت أسرع بكل ما أوتيت من قوة وأحد حراس الحدود ورائي على حصانه· لا أخفي عليك اني في تلك اللحظات أحسست بأني سأقع في يده لا محالة، فلا يمكن ان أسبق الحصان مهما كانت مقدرتي· لكن العناية الإلهية كانت مرة اخرى في جانبي·
س– كيف ذلك، كيف تمكنت من الإفلات وأنت ملاحق هكذا؟
ج– كنت أضع جلابة فوق كتفي، وأنا أعدو بسرعة، شعرت بأنها تضايقني، فرميتها ورائي فسقطت مباشرة فوق رأس الحصان الذي لم يعد يرى أمامه فتعثر، كانت تلك فرصة ذهبية، فلم أضيعها، بالقرب من هناك، كان وادي عميق، فنزلت إليه وغطست· ظل حارس الحدود الذي كان يتعقبني يقطع المنطقة ذهابا ورجوعا دون ان يعثر على أثري، الى أن يئس وغادر المكان· انتظرت مدة، حتى أطمئن، ثم نهضت وتابعت طريقي
س– ماذا كان مصير الرحموني؟
ج– لم يكن محظوظا، فقد ألقي عليه القبض
س– هل كان هو الدليل الذي من المفترض أن يساعدك أنت والصنهاجي في اجتياز الحدود؟
ج– كلا· كان واحدا من بين المقاومين· من مدينة العرائش، الدليل الذي كان معنا، او «المراسل» كما كنا نطلق عليه انذاك فقد تجاوزنا مع الصنهاجي.
س– بعد ان أفلتت من قبضة حرس الحدود، ماذا فعلت؟
ج– واصلت السير الى أن التقيت ببعض الاشخاص· اخبروني انهم رعاة مكلفون بمراقبة ماشية في ملك قائد المنطقة· سألتهم عن الطريق المؤدية الى العرائش· فبادرني أحدهم قائلا: هل انت من الداخل، أجبته: نعم· فقال لي: سأرافقك الى أن تصل إلى الطريق المؤدية إلى العرائش: لكن بعد أن يحل الصباح، رفضت وأفهمته أني لا أنوي البقاء في هذه المنطقة· وسلمته مبلغ 15 ألف فرنك – 3 الاف ريال فقبل ورافقني· لكن وبعد أن قطعنا مسافة قصيرة توقف وطلب مني المزيد من النقود، أخبرته بأني قد أعطيته كل ما بحوزتي· لكنه لم يصدق، فبدأ يفتش جيوبي· في الواقع كان معي مبلغ محترم من المال، وقد خبأته في سروالي، لكنه لم يعثر عليه· عندما يئس، قال لي بأنه لا يريد اأن يواصل السير معي، فرجوته أن يبقى معي لبعض الوقت حتى أصل الى الطريق المؤدية الى العرائش، وبعد أخذ ورد قبل ان يظل معي مدة قصيرة· وفي الطريق طلبت منه عصا كانت معه· مدعيا أني اريد أن اتكئ عليها بعدما اشتد بي التعب· فسلمها لي، وبسرعة هويت بها عليه فسقط أرضا، واخذت منه 15 ألف فرنك التي كنت قد سلمتها له من قبل، وأسرعت بعيدا· ظللت أواصل السير الى أن بدأت تلوح أولى خيوط الصباح· عندما وصلت الى احد الدواوير في الكوخ الاول الذي وصلت اليه طلبت من سيدة هناك ان تدلني على طريق العرائش· فقالت لي: هناك فوق: ولم تضف شيئا، ولأني لم أعرف الاتجاه الذي تقصد هذه السيدة ذهبت قرب أحد الاكواخ وجلست التقط انفاسي بعدما هدني التعب· وفجأة خرج رجل يقتاد قطيعه· فسألته عن طريق العرائش، اقترب مني وحدق في برهة ثم طلب مني أن التزم الصمت، مشيرا الى بعض الخيام المنصوبة غير بعيد عنا، في هذه الخيام كان بعض الحرس· لم أشعر بوجودهم، ولولا هذا الرجل الطيب الذي دلني على طريق النجاة لكنت قد وقعت في أيديهم مثلما كان هناك اشرار فأمثال الراعي الذي حاول سرقتك كان هناك طيبون
بالفعل، ولولا طيبوبة هذا الشخص ودهاءه لكنت قد وقعت في أيدي حرس الحدود، الحاصل واصلت السير الى أن وصلت الى دوار سيدي «لهواورة» كنت جائعا بعد مدة طويلة لم اذق فيها شيئا· قصدت دكانا هناك وطلبت منه قليلا من الحمص· وعندما سلمته النقود رفض اخذها قائلا بأنها «نقود الداخل» لا يتم تداولها هنا ، أعدت له الحمص وتسلحت بالصبر مواصلا السير، الى أن وصلت الى سوق يسمى سوق «لعمامرة» هناك غيرت النقود التي كانت معي بالعملة الاسبانية «البسيطة» وما ان تسلمتها حتى قصدت خيمة يعد صاحبها الشاي والأكل·
س– أصبحت اذن في منأى من حرس الحدود·
ج– نعم، فقد احسست بزوال الخطر لأني اصبحت في «المنطقة الخليفية» التي كانت تقع انذاك تحت الاحتلال الاسباني· بعد ذلك ركبت الحافلة المتوجهة الى العرائش· مازلت أذكر صاحب الحافلة عندما طلب مني ثمن التذكرة ،بسطت له ما كان عندي من نقود اسبانية لجهلي بقيمتها، فاخد ما أراد· في تلك الاثناء لم أكن مهتما بهذه التفاصيل كل ما كان يهمني هو الوصول إلى العرائش.
س– وبعد وصولك الى هنالك؟
ج– عندما وصلت الى العرائش، وكانت المرة الاولى التي ازور فيها هذه المدينة توجهت الى حديقة قريبة وجلست هناك افكر فيما يجب علي القيام به، وفجأة رأيت المقاوم سليمان العرايشي، رحمه الله، يسير بالقرب من الحديقة، فناديت عليه، عانقني وهو غير مصدق، اخبرته بكل ما جرى، وكيف اني كنت مع عبد الله الصنهاجي، وافترقنا قرب الحدود، طمأنني ورافقني الى منزله، وبعد ان استرحت توجهت الى الحمام، ومرة أخرى لعبت الصدف الجميلة لعبتها، فما ان ولجت الحمام حتى وجدت الصنهاجي هناك، وكأننا كنا على موعد· كان الاخوة في العرائش وتطوان يعتقدون انني قد وقعت في أيدي حرس الحدود· وذلك بعد ان تأخرت في الوصول· بعد أيام من وصولي الى العرائش توجهت الى تطوان· هناك اتصلت بالمرحوم احمد زياد، الذي كان مسؤولا عن اللاجئين، حاول ان يرافقني الى أماكن تواجدهم· ليجد لي مكانا بينهم فرفضت، اخبرته اني لا أنوي اللجوء، وان مقامي في تطوان لن يدوم طويلا· عندها رافقني الى منزل احد الاخوة، ويدعى «عبد العزيز لعميري» واختبأت هناك مدة ثلاثة اشهر، وكنت بين الفينة والأخرى اغادر المنزل مدة قصيرة وأعود·
س-وماذا عن عبد لله الصنهاجي؟
ج– ظل في العرائش قبل ان ينتقل الى القصر الكبير
س-ولماذا رفضت الانضمام الى مكان تواجد اللاجئين ؟
ج– انا لم أكن أنوي البقاء هناك طويلا، فقد وعدت الشهيد الزرقطوني أن أعود بعد ثلاثة اشهر الى الدار البيضاء، كما ان انتقالي للعيش رفقة عدد كبير من اللاجئين، كان من شأنه ان يكشفني، وهو ما كنت أحاول أن أتجنبه، لأني قررت العزم على العودة الى الدار البيضاء·
ستعود فعلا بعد انصرام ثلاثة أشهر، لكن الزرقطوني كان قد استشهد قبل ذلك·
نعم، عدت بعد أسبوع واحد بالضبط من استشهاد الزرقطوني
س– وكيف علمت بالخبر؟
ج– عن طريق الجرائد، كانت صدمة كبيرة بالنسبة لي ومازلت إلى الآن أتذكر آخر لقاء بيننا لحظة الوداع تلك التي لم يستطع الشهيد ان يحبس دموعه· أحسست أن مسؤوليتي ومسؤولية القيادة اصبحت جسيمة، وانه علينا ان نواصل الكفاح مهما كان الثمن· واننا يجب ان ننتقم لروحه الطاهرة بتوجيه ضربة موجعة للاستعمار وإفهامه انه رغم الخسارة التي خلفها استشهاد هذا البطل فإن المقاومة ستستمر· هكذا وبعد أسبوع بالضبط غادرت تطوان عائدا الى قلب المعركة في الدار البيضاء ·
الزرقطوني كما عرفته
س- تحدثت في الحلقة السابقة عن الظروف التي تلقيت فيها نبأ استشهاد محمد الزرقطوني، والاحاسيس التي انتابتك على إثر هذه الفاجعة· أنت الذي كنت من بين الذين قضوا مع الشهيد مدة غير قصيرة، تحدث لنا فيها عن الزرقطوني الانسان والمقاوم ورفيق السلاح·
ج- الشهيد محمد الزرقطوني رغم أنه كان في مقتبل العمر، كان رجلا شجاعا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، شجاعته هذه، وانا كنت شاهدا على ذلك، وضعت على المحك في مناسبات عديدة· وثبتت انها شجاعة استثنائية· لكن هناك أيضا جانب آخر من شخصية الزرقطوني لم يسلط عليها الضوء· فرغم الدور الهام الذي كان يقوم به، كأحد قادة حركة المقاومة المسلحة، كان شديد التواضع، وقد قال لي غير مامرة، إننا نحن المقاومين لايجب ان نُعرف عندما نحصل على الاستقلال وان نبتعد عن الاضواء· كانت لديه قناعة بأن مانقوم به يدخل في نطاق الواجب النضالي الذي لايجب التبجح به· مازلت أذكر المرات العديدة التي كنت أقله عبر السيارة الى المدينة القديمة ليزور والده، وكيف كنت أنتظره الى أن يعود، كان قد أصبح ملاحقا من طرف أجهزة الاستعمار منذ مدة طويلة، لكنه كان يجيد التخفي· وتمكن من تزوير بطاقة هوية، وله عدة أسماء يموه بها رجال البوليس الذين يتعقبوه، اما اسمه الحركي فكان «علال»، وكنت أنا أناديه «السي محمد»، عندما أصبحت ملاحقا بدوري، كثيرا ما كنت أقضي الليل في منزله، ورغم اشتداد الخناق على المقاومين، كان مرحا ويرفع من معنويات رفاقه· ذات ليلة، استضافني في منزله، وكان آنذاك يقطن في منزل متواضع بحي «اسباتة» لم يكن المنزل مزودا بالكهرباء، وكان رحمه الله يستعمل الشموع، زوجته الفاضلة أعدت لنا سلطة، ونظرا لصعوبة الرؤية على ضوء شمعة واحدة، لم ننتبه الا وأحد الصراصير يخرج من وسط الصحن، تركنا الاكل ونحن نضحك· كذلك أذكر أني مرات عديدة كنت أقضي معه الليالي، مختبئين في المناطق الخالية المحاذية لعين الشق، داخل الماسورات الكبيرة، وذلك بعد ان اشتد علينا الخناق، )يواصل بتأثر( لقد كان الشهيد أحد الركائز الاساسية التي يقف عليها تنظيم المقاومة المسلحة، كان بطلا جسورا، مثله مثل محمد منصور ، الذي عندما ألقي عليه القبض لاقى من التعذيب ما لايستطيع بشرتحمله· كان الاثنان من طينة نادرة أجاد الله بهما على حركة الفداء ، الاول انتقل شهيدا الى جوار ربه والثاني أطال الله في عمره·
س- من خلال معرفتك عن قرب بالشهيد، هل كنت تحس بأنه لن يترك الشرطة الاستعمارية تلقي عليه القبض حيا؟
ج- نعم، قال لي مرارا إنهم لن يلقوا عليه القبض إلا جثة هامدة، كنا نعرف انه إذا ألقي القبض على أحد منا، فإنه سيتكلم آجلا أم عاجلا· فالتعذيب الذي كان يمارس على المقاومين، كان شرسا ووحشيا· ومهما كانت طاقة الواحد منا، فإنه سينهار، لذلك وبعد أن تمكنا من الحصول على حبات السم، أصبحت لاتفارقنا، الشهيد الزرقطوني كان يعرف الكثير من أسرار المقاومة، وهو بطبعه لم يكن مستعدا ليقدم الى المستعمر هذه الهدية· ولذلك فعندما جاء رجال الشرطة لإلقاء القبض عليه، لم يتردد لحظة في تناول حبة السم، انا لم أفاجأ بهذا السلوك البطولي، لقد سمعت منه أكثر من مرة أنه إذا سقط، لن يفكر مرتين وسيفضل الاستشهاد على أن يبوح بمالديه من أسرار·
س- كيف تمكنت بعد معرفتك باستشهاد الزرقطوني من العودة الى الدار البيضاء واجتياز الحدود المصطنعة في عرباوة؟
ج- توجهت في البداية الى العرائش· وهناك اتصلت بالمرحوم السي عبد العزيز الماسي، الذي عرفني بأحد المراسلين يدعى صالح· وكان هذا يشتغل في التهريب ويعرف مداخل ومخارج الحدود المصطنعة: وبالفعل تمكنا من اجتياز الحدود، وعندما وصلنا الى القنيطرة، ركبنا القطار باتجاه الدار البيضاء·
س- سبق لي ان رأيت صورة أخذت لك عندما عدت الى الدار البيضاء بعد استشهاد الزرقطوني، وتبدو فيها بالزي الذي يلبسه سكان المناطق السوسية؟
ج- نعم، كانت قد نبتت لي لحية صغيرة، وارتديت هذا الزي حتى لا أثير الانتباه· عند الوصول الى الدار البيضاء، كان همي اللقاء بأعضاء القيادة الجديدة للمقاومة، الذين ملؤوا الفراغ بعد الضربة الاولى التي تلقتها القيادة السابقة، باعتقال التهامي بنعمان ومنصور واستشهاد الزرقطوني واضطراري لمغادرة الدار البيضاء· وبما أني لم أكن أعرف الاخوة الذين تولوا زمام الامور معرفة شخصية، فقد كان الخيط الوحيد الذي سيصلني بهم هو المقاوم سعيد المانوزي، لذلك كان علي ان ألتقي به·
س- وهل تم ذلك؟
ج-نعم، أسرع مما اعتقدت ، فبعد وصولي إلى محطة القطار، توجهت الى «مارشي كريو» وركبت كارو، وبعد مسافة قصيرة، رأيت سعيد المانوزي، راكبا دراجة، فناديت عليه، وكان عناقا حارا بيننا، حيث أنه لم يصدق كذلك ان يلتقيني في هذه الظروف الصعبة· على العموم اخبرته بمرادي، فقام بربط الاتصال بيني
وبين القيادة الجديدة، وبدأنا نعد العدة للانتقام لروح الشهيد محمد الزرقطوني·
س- من الذين تولوا زمام الامور آنذاك على رأس المقاومة المسلحة؟
ج-المرحوم الفقيه البصري، القادم من مراكش آنذاك، وكذلك عبد السلام الجبلي وحسن صفي الدين رحمه الله والحسين برادة، وهما من أوائل المؤسسين للحركة، تحملوا المسؤولية بعد الضربة التي تلقتها القيادة السابقة، وكذلك شنتر·
س- ما الذي قررتم القيام به كرد فعل على استشهاد الزرقطوني؟
ج- اتفقنا في البداية على القيام بتفجير قنبلتين كبيرتين ، كل واحدة تزن 500 كلغ ، بشارع لاكار – شارع محمد الخامس حاليا – وكانت المقاومة قد تمكنت من اعدادها عبر استعمال حاويتين كبيرتين للأوكسجين، وكانت الخطة التي وضعناها تقضي بوضع القنبلة الاولى امام جريدة «لافيجي»· وقد تطوعت انا لحملها هناك ووضعها وإشعال الفتيل، وان ينقل مقاوم آخر القنبلة الثانية بمدخل الشارع وأن تنفجر هذه أولا، وبعد ان يحضر رجال الشرطة والاسعاف تنفجر تلك ، كنت سأضعها أنا لإحداث أكبر عدد من الضحايا·
س- ولما ذا تخليتم عن تنفيذ هذه العملية؟
ج- لم نتخل عنها، بل أجلناها · فبعد النقاش المطول ارتأينا ان يكون الرد الاول على استشهاد الزرقطوني، هو اغتيال أحد أبواق الاستعمار وركائزه وهو الدكتور «إيرو» مدير جريدة «لافيجي»· وفعلا نجحت هذه الخطة وتخلصنا منه وبعد ذلك، اعتقلت القيادة الجديدة، ولم يعد أحد يعرف أين كانت القنبلتان نظرا لفقدان التسلسل الذي من شأنه ان يقود إليهما، والى حدود الآن لا أحد يعرف أين هاتين القنبلتين·
س-من الذي نفذ عملية اغتيال الدكتور إيرو؟
ج- اغتيال «إيرو» من أهم العمليات التي قمنا بها، وتتجلى أهميتها بالاساس، أنها كانت انتقاما لروح الشهيد محمد الزرقطوني، ورسالة الى الاستعمار، مفادها ان المقاومة المسلحة ورغم الضربات التي تلقتها ، قادرة على مواصلة الكفاح· وقد تكلف بتنفيذها كل من ادريس الحريزي وفردوس· وبعد ان أطلقا النار عليه· تمكن فردس من الهرب، لكن إدريس الحريزي ألقي عليه القبض وحكم عليه بالاعدام وأعدم بعد مدة قصيرة من صدور الحكم· كان لهذه العملية وقع كبير، واهتزت أركان الاستعمار الذي كان يحاول ان يوهم الرأي العام انه قضى على المقاومة، وكرد فعل سيتم استقدام مزيد من رجال الشرطة والقياد والمخازنية وتحولت الدار البيضاء الى سجن كبير، فقررنا ان نتوقف عن تنفيذ أية عملية، ومن هنا بدأ التفكير في ضرورة نقل المعركة الى خارج الدار البيضاء، والى خارج المدن بشكل عام ، كانت هذه هي المرحلة التي بدأنا نفكر خلالها في ضرورة إنشاء جيش التحرير، لتوسيع نطاق المعركة مع الاستعمار من جهة، ومن جهة أخرى لفك الخناق على المدن، وخصوصا الدار البيضاء، التي كانت تشكل المركز والثقل الرئيسي للكفاح ضد الاستعمار· وبعد تبادل الآراء، اتفقت القيادة على ان انتقل انا والمرحوم حسن صفي الدين الى الشمال والتنسيق مع الاخوة هناك من أجل انشاء جيش التحرير·
طلبنا من احرضان تدريب المقاتلين ففر الى فرنسا
س_ كيف تمكنتم من العودة الى تطوان؟
ج_ كما اتفقنا· تقرر ان اغادر الدار البيضاء أنا والمرحوم حسن صفي الدين، وذلك للعمل على إنشاء جيش التحرير، لتوسيع رقعة المعركة مع الاستعمار وفك العزلة عن المدن التي كانت محاصرة من طرف القوات الاستعمارية وخصوصا الدار البيضاء التي كما وسبق ان أسلفت، تحولت الى سجن كبير· بعد ان تم اتخاذ هذا القرار، انتقلنا الى المنطقة الخليفية رفقة نفس المراسل الذي عدت معه، وهو «صالح» الذي كان قد عرفني عليه المرحوم، عبد العزيز الماسي· لكن سيتم اعتقال الفقيه البصري ومولاي عبد السلام الجبلي وغيرهم·
س_ كيف تم ذلك؟
ج- عندما كنت عائدا من تطوان، أثار انتباهي ارتباك المراسل صالح وعدم صلابته في منطقة الحدود المصطنعة· وقد شعرت بالقلق فعلا، لأن الظروف الصعبة التي كنا نجتازها لم تكن محتاجة لمغامرة غير محمودة العواقب، كما أن هذا المراسل كان يعرف اسرارا من شأن إفشائها ان يعرض القيادة للخطر، وللاسف فهذا ما حدث
س- كيف حدث ذلك؟
ج- اخبرت الاخوة بهواجسي بشأن المراسل، واتفقنا على ان يغادروا البيت الذي يقطنونه في ظرف اسبوعين لا أكثر، وفي العرائش، طلبت من المرحوم عبد العزيز الماسي عدم بعث «المراسل» الا بعد حصول اتفاق جديد، لكن الماسي، تمكن من الحصول على أسلحة جديدة، ولتلهفه على إرسالها الى الاخوة في الدار البيضاء، ودون تشاور معنا، قام بتكليف صالح بايصال الاسلحة· فجرى اعتقاله عند الحدود المصطنعة· وبعد يومين عرف البوليس مكان تواجد القيادة، فتوجهوا الى هناك واعتقل الفقيه البصري ومولاي عبد السلام الجبلي في المنزل، وظل رجال الشرطة هناك وكلما قدم عضو جديد اعتقلوه بدوره وكان من بينهم امبارك الورداني والحسين الصغير وبومديان المغربي وغيرهم.
س-بعد وصولكم الى تطوان: كيف بدأتم الاستعدادات لإطلاق جيش التحرير؟
ج- بدأنا نجري الاتصالات مع مختلف القيادات التي كانت قد لجأت الى الشمال ومع عدد من المقاومين وأبناء المنطقة· كانت الاوضاع بالمنطقة الشمالية تشكل تربة خصبة لإطلاق جيش التحرير فقد كان المستعمرون الاسبان يغضون الطرف عنا، لكن هذا لا يعني اننا كنا نتحرك بكامل الحرية، فقد كنا ايضا نستعمل هناك اسماء حركية وهويات مزورة وكان العثور على اسلحة معنا من شأنه ان يعرضنا للاعتقال وشخصيا فقد اعتقلت مرتين من طرف الاسبان·
س- ماهي الظروف التي تعرضت فيها للاعتقال على يد الاسبان؟
ج- مرة كنت قادما من الناظور الى تطوان رفقة حسن صفي الدين وامبارك منار وكانت معنا كمية كبيرة من القنابل· عند وصولنا الى تطوان اقترح صفي الدين ان نركب سيارة اجرة، وكنت ضد هذه الفكرة مفضلا ان نتوجه الى مقصدنا مشيا، لكنه أصر علي ان نركب الطاكسي، وعندما كنت اشير الى الطاكسيات جنب امبارك منار الذي كان يمسك بسلة القنابل، انتبه صفي الدين الي قدوم رجال الشرطة الاسبان فترك المكان على وجه السرعة· في حين ألقي القبض علينا وبقينا رهن الاعتقال مدة 40 يوما، ومازلت اتذكر اننا اعتقلنا في شهر رمضان المبارك·
س- وكيف كانت ظروف الاعتقال؟
ج- كانت جد صعبة، حيث وضعوني في زنزانة منفردة – الكاشو، في الظلام· ثرت على هذا الوضع ورفضت ان اتعرض لمعاملة كهذه وبعد مشاداة مع الحراس، نقلوني الى زنزانة اخرى يدخلها الضوء· وبعد مرور 40 يوما تم اطلاق سراحي انا ومبارك منار.
س- وفي المرة الاخرى؟
ج- في المرة الثانية كنا نبحث عمن يتكفل بتدريب عناصر جيش التحرير التي تطوعت للقتال ضد المستعمر، تم تكليفي بالذهاب الي الدار البيضاء للاتصال بالمحجوبي احرضان·
س- لماذا الاتصال به؟
ج- في تلك الفترة كان الخطيب قد التحق بنا وقد ذكر خلال النقاش أنه على علاقة بضابط في الجيش الفرنسي يدعى احرضان، يمكن ان يتطوع لاداء هذه المهمة، وعندما تكلفت بالاتصال به، دلني الخطيب على كيفية الاتصال به وانه يكفي ان اقول له اني مبعوث من طرف «داك اللي مشارك معاك الملح» كان معي في هذه المهمة الفقيه الفكيكي وفي الحدود المصطنعة، جرى اعتقالي فيما تمكن الفكيكي من التسلل الى الدار البيضاء· وهناك اتصل بسعيد المانوزي وابلغه بفحوى المهمة التي كنت قد التزمت بأدائها· فقام المانوزي بالاتصال باحرضان· وتم اللقاء بينهما في عين الذئاب، خلال اللقاء ابلغه المانوزي بان الإخوة يريدون منك ان تتوجه الى تطوان لانهم في حاجة اليك كي تتولى مسؤولية تدريب المقاتلين»· مباشرة بعد هذا الاتصال، فر احرضان الى فرنسا وظل هناك· هذا بكل أمانة كل ما قام به احرضان في المقاومة وجيش التحرير وهذا المجهود الذي قدمه· هناك من ذكر بانه كان يتعامل مع الفرنسيين وأنه خائف، لكن هذا ليس صحيحا· لم يكن عميلا للفرنسيين، الا انه لم يقدم شيئا للمقاومة ولا لجيش التحرير· لكن بعد الاستقلال والخلافات التي كانت في تلك الفترة التقى بالخطيب واصبح بقدرة قادر مقاوما ومساهما في قيام جيش التحرير·
س- وكم مكثت في السجن بعد اعتقالك؟
ج- حوالي سبعة ايام، وكان ذلك في زايو· بعدها تم اطلاق سراحي.
س- لنعد الى بداية تكوين جيش التحرير، كيف تمكنتم من الحصول على السلاح وكيف كانت الانطلاقة؟
ج- بعد الاتصالات التي قمنا بها انا وقيادات المقاومة المسلحة التي انتقلت الى الشمال، بدأ التفكير في كيفية الحصول على السلاح· طبعا كنا في حاجة الى كميات مهمة من السلاح لاننا كنا بصدد التهييء لإشعال معارك واسعة ومتفرقة مع قوات الاحتلال، مع ما يتطلب به ذلك من وسائل وإمكانيات مادية وبشرية· انذاك اتجهت نيتنا الى البحث عن السلاح في السوق السوداء· اذكر في هذا الاطار أني التقيت بالحسين الاكاديري، وبعد تبادل اطراف الحديث ووجهات النظر حول ضرورة القيام بعمل مسلح ضد المستعمر، اخبرته ان معي مبلغا من المال لشراء السلاح واني ابحث عن امكانية لذلك، فقال لي بأن السلاح متوفر·
س- اين كان ذلك؟
ج- في تطوان· وبعد هذا اللقاء، ربط لي اتصالا مع مقاوم يدعى حمدون اصله من زايو، وكان على اتصال بالجزائريين منذ مدة وهذا المقاوم سيقوم بدور مهم جدا، خصوصا في إيصال الاسلحة الى الجزائريين داخل التراب الجزائري، فاخبرني بان هناك باخرة محملة بالسلاح، اهداها المصريون للجزائريين وانها سترسو في السواحل المغربية، وانه يجب ان ننسق في الامر مع المسؤولين الجزائريين لتسلم حصة من هذه الشحنة، وبالفعل اخبرت الاخوة في قيادة جيش التحرير بالامر، وعقدنا لقاء مع المرحوم محمد بوضياف، وكان معي في هذا اللقاء المرحوم حسن صفي الدين والغالي العراقي والحسين برادة وعبد لله الصنهاجي، وهكذا سنبدأ في الاعداد لاستقبال باخرة السلاح·
س_ هل يتعلق الامر بالباخرة الشهيرة «دينا»؟
ج- بالفعل، وقبل ان استطرد اريد هنا أن افتح قوسا، لاذكر بخصال الراحل محمد بوضياف الذي قضيت معه وقتا غير قصير· فمن النادر العثور على رجل يضاهيه في سمو الاخلاق ونظافة ذات اليد· كان يعيش على الكفاف، لا يملك الا الثياب التي على ظهره· واذا قام بتصبين قميصه، يظل ينتظر حتى يجف ليلبسه، دون ان تمتد يده الى أموال الثورة، كانت مواقفه متميزة، يرفض المؤامرات والدسائس، ومستعد طوال الوقت لأداء واجبه بتفان وقد ظلت علاقاتنا منذ ذلك الوقت متينة وكانت الاتصالات بيننا متواصلة منذ ان غادرت السجن، حيث كان يقطن في مدينة القنيطرة قبل أن ينتقل الى الجزائر لتولي منصب رئاسة الجمهورية ليلقى حتفه هناك في عملية اغتيال كما هو معروف·
الحصول على السلاح..
س- أين رست الباخرة، وكيف تمت عملية إنزال الأسلحة؟
ج- تم الانزال بالقرب من مدينة الناضور· وقد كلفت من طرف الإخوة في القيادة، بالسهر على عملية انزال الأسلحة، وهي لم تكن عملية سهلة·
وقد كانت النقطة التي تم الاتفاق عليها تقع في منطقة كبدانة بنواحي الناضور·
س- متى كان ذلك؟
ج- كان ذلك في نهاية شهر مارس 1955، بقينا ننتظر قدوم الباخرة مدة سبعة أيام· كل ليلة نذهب الى المكان المتفق عليه، وكان معي في هذه المهمة، المقاوم حمدون الذي أشرت إليه سابقا، وشخص جزائري يدعي بومدين، وهو غير هواري بومدين، وكما قلت لك، كنا كل ليلة نحل بالمكان الذي سترسو فيه الباخرة، ونطلق الإشارة الضوئية المتفق عليها دون نتيجة الى الليلة السابعة، حيث حلت هناك بعد التأخر الإضطراري، بعد ذلك بدأنا بسرعة ننزل الأسلحة من على ظهر الباخرة· على متن هذه الباخرة كان يوجد عبد القادر بوزار، الذي نزل من الباخرة، والتحق بنا فيما بعد، كما كان يوجد على متن الباخرة، هواري بومدين الذي سيصبح رئيسا للجزائر، وقد رفض بومدين مغادرة الباخرة، وعلل ذلك بأنه يحمل جواز سفر مصري· عموما، كان عدد المغاربة في عملية إنزال الأسلحة حوالي ثلاثين، والجزائريين حوالي 25، لكن عملية الإنزال تكلف بها المغاربة، وقد تطلبت مجهودا استثنائيا خصوصا أنه كان يجب إتمام العملية بأسرع وقت ممكن دون ترك أي أثر، حتى لا نلفت انتباه المخابرات الإسبانية، بعد أن أنزلنا الأسلحة تم نقلها إلى مكان آمن لتخزينها، قبل أن نقسمها بيننا وبين الجزائريين، في حين قام حمدون بجلب البهائم لمحو الآثار التي خلفتها أقدامنا·
س_ ما هي أنواع الأسلحة التي توصلتم بها على متن الباخرة «دينا»·؟
ج- أغلبها كان عبارة عن بنادق ورشاشات وكميات من الرصاص وقنابل وفتيل وغيرها، كانت كلها أسلحة خفيفة، مما يمكن استخدامه في حرب العصابات، وبأسلحة أخرى تمكنا من الحصول عليها سنتمكن من إطلاق حرب التحرير في 2 أكتوبر من نفس السنة، أي سنة 1955·
س- وكيف قمتم بتوزيعه؟
ج-كان نصيبنا الثلث، فيما أخذ الجزائريون الثلثين، وكان هذا هو الاتفاق الذي توصلنا إليه قبل ذلك مع أحمد بنبلة، وكما قلت لك، فقد كنا عندما رست الباخرة حوالي ثلاثين مغربيا وخمسة وعشرين جزائريا، وعندما بدأنا بإنزال الأسلحة، ظل الجزائريون ينتظرون فيما قام المغاربة بحملها ونقلها وبعد ما وصل موعد التقسيم، حضروا، وكان المسؤول عنهم شخص يدعى عباس، قتل في ما بعد·
س-أين أخفيتم الأسلحة بالضبط؟
ج_ في منزل حمدون، بعدها نقلناها إلى مكان آخر، وقد قام المغاربة، بقيادة حمدون بإيصال نصيب الأسلحة الخاص بالجزائريين الى داخل التراب الجزائري، في عملية بطولية تحمل خلالها «حمدون» ورجاله مشاق جمة، لتزويد الثورة الجزائرية بالأسلحة التي جلبتها باخرة دينا·
كانت هناك باخرة ثانية أرسلها المصريون·
نعم، وقد كنت أيضا مكلفا من طرف الإخوة بالسهر على إنزال الأسلحة، رفقة عبد الله الصنهاجي ومن الجانب الجزائري كان هناك العربي بلمهيدي، وبومدين الذي كان معنا خلال عملية إنزال الأسلحة من باخرة «دينا» وهو كما ذكرت غير هواري بومدين الرئيس السابق للجزائر·
س- ماذا كان اسم هذه الباخرة؟
ج- كانت تسمى بالنصر·
س- كيف تمت عملية إنزال الأسلحة وأين رست الباخرة؟
ج-كان رسوها بضاحية الناظور· وقد كان أيضا من بين المغاربة الذين حضروا العملية، كل من ميمون عقا والدخيسي، وهما من مرموشة، وسيتمكنان من شن هجوم ناجح على الفرنسيين بهذه المنطقة في الموعد الذي تم الاتفاق عليه لبدء عمليات جيش التحرير· عملية الإنزال كانت في البداية تمر حسب الخطة المتفق عليها، لكن وعندما شارفت العملية على الانتهاء، غرق قارب كنا نقل على متنه الأسلحة، ولحسن الحظ لم نفقد أحدا، لكننا أضعنا عددا كبيرا من الرصاص·
س- ولماذا غرق هذا القارب؟
ج- لأن الحمولة كانت زائدة
س- وكيف استطعتم تعويض هذه الخسارة؟
ج- لم نفقد كل الرصاص الذي كان من نصيبنا، لكن ما فقدناه كان كثيرا وسنعمل بعد ذلك على تعويض هذه الخسارة باللجوء الى السوق السوداء في مليلية المحتلة، وقد تكلف بهذه المهمة المرحوم حسن صفي الدين، قبل ذلك طلبت من العربي بلمهيدي أن يتنازل لنا على كمية من الرصاص لتعويض الخصاص الذي كنا نعاني به، لكنه رفض بشدة، وقال لي: إن هذا الرصاص أريد أن أدافع به عن الجزائر فأجبته غاضبا: وأنا أيضا أريد أن أدافع عن المغرب· لم أستطع فهم هذا الموقف خصوصا أن التعاون بيننا وبين الجزائريين كان يتم بدون خلفيات، كما قام الجزائريون بتسليمنا حصة من السلاح التي أرسلها لهم المصريون، تولينا نحن، تخزين حصتهم من السلاح ونقلها على دفعات الى داخل التراب الجزائري· مع ما رافق ذلك من مخاطر ومشاق، وكان الذي قام بهذه المهمة هو المقاوم حمدون ورجاله·
المغاربة حرروا بلادهم بإمكانياتهم الذاتية
س- الاستعدادات التي كانت قائمة آنذاك لإطلاق حرب التحرير، كانت تتطلب بالإضافة إلى الأسلحة والمقاتلين إمكانيات مادية، في هذا الإطار ، كيف كنتم تمولون عملياتكم؟
ج- بالنسبة للتمويل، كان الجزء الأكبر من الأموال التي نجتاج إليها، يأتي من خلال تطوع المغاربة الوطنيين· لقد سبق أن ذكرت أنه عند بداية المقاومة المسلحة ، كانت الإمكانيات المادية شبه منعدمة ، وغالبا ما كان المقاومون يتدبرون الأمر من خلال إمكانياتهم الذاتية، لكن بعد ذلك وعندما تقوت الحركة، بدأنا نحصل على دعم من طرف الوطنيين وعموما لم يكن المغاربة يبخلون على المقاومة، حسب إمكانياتهم ، وذلك منذ أن احتضنها الشعب وأصبحت القوة الضاربة التي ستعجل بالحصول على الاستقلال، وهكذا وبعد أن بدأ العمل من أجل تكوين جيش التحرير وإشعال المواجهات مع المستعمر خارج المدن، كنا قد حصلنا على تأييد فئات واسعة من الجماهير، أما الدعم الخارجي ، فباستثناء الأسلحة التي حصلنا عليها من مصر والدعم المالي الذي قدمه العراق، لم نتوصل بأي دعم آخر· ما أريد أن أشدد عليه في هذا الإطار هو أن المغاربة حرروا أرضهم بوسائلهم الخاصة ، برجالهم الأبطال وإمكانياتهم الذاتية·
س- بالنسبة للتداريب التي سهرتم عليها قبل إطلاق العمليات، أين كانت تتم ومن الذي كان مكلفا بها؟
ج- بالنسبة للتداريب كانت تتم في جنان الزرهوني بتطوان· لم أعد أذكر عدد المتطوعين الذين كانوا يخضعون للتداريب، لكن كان عددهم مهما· أما بالنسبة للتداريب، ففي البداية، كان عبد الكبير الفاسي قد بعث لنا بضابط ألماني، كان هو الذي أشرف على الكوماندو الذي كلف باختطاف موسوليني· وقد استقبلته أنا والسكوري عندما حل بتطوان ، وكان متحمسا للإشراف على تدريب المقاتلين وتزويدهم بالخبرات التي راكمها في عدة معارك حربية· لكن أحمد زياد الذي كان مكلفا من طرف الحزب، بتدبير أمور اللاجئين، رفض صرف المبالغ المالية الخاصة بإقامة هذا الضابط في الفندق ومستحقاته ، مما جعله يعود إلى بلاده· بعد ذلك سيتكفل بهذا المهمة، الجزائري عبد القادر بوزار، الذي، كما أشرت إلى ذلك سابقا، كان على متن الباخرة دينا التي حملت السلاح إلينا من مصر·
س- بالنسبة لهذه القضية، أي قضية المرحوم أحمد زياد، أسالت الكثير من المداد، وذلك حول الخلاف الذي قام بينه وبين المقاومين الذين لجأوا إلى الشمال ، قبل أن يتم إبعاده إلى الشمال، وقد ذكر عدد من الذين عايشوا تلك الأحداث أنك كنت من بين الذين طالبوا بإبعاده ، ماهي حقيقة الخلاف معه؟
ج- كان المرحوم أحمد زياد هو المسؤول، باسم الحزب، عن اللاجئين ، والمنسق بينهم وبين الحزب، والمقصود باللاجئين هم، الوطنيون الذين أصبحوا مطاردين من طرف قوات الاستعمار، والذين تمكنوا من التسلل إلى المنطقة الخليفية بالشمال، وكان هؤلاء يتم إيواؤهم في أماكن خاصة· بالإضافة إلى هؤلاء، كان هناك عدد من المقاومين المنتمين إلى حركة الفداء والذين حملوا السلاح ضد المستعمر، وقد انتقل عدد منهم إلى الشمال بعد أن «تورطوا» كما كنا نقول عندما ينكشف أمر أحد المقاومين· وقد كان المقاومون في تطوان، يقطنون في أماكن منفصلة عن اللاجئين لأسباب أمنية · مهمة زياد ، كانت هي السهر على إيواء اللاجئين والتكفل بمصاريفهم ، لكنه كان مقصرا تجاههم ، بل إنهم لم يكونوا يتوصلون بأي مبلغ مالي، أما المقاومون فقد كان زياد يمنحهم مبالغ هزيلة لا تكفي · بالإضافة إلى ذلك ظهرت خلافات بيننا وبينه حول عدد من القضايا التي، أكدت لنا أنه غير متحمس ، وأنه لن يقوم بالدور المنتظر منه في ما يخص الاستعدادات الجارية لإطلاق جيش التحرير، رغم الاتصالات التي أجريتها معه ، أنا وكذلك إخوة آخرون ، فوصلنا إلى قناعة بأنه من الضروري تغييره، فطالبنا بذلك، وتمت الاستجابة لمطلبنا·
س- ما هو التاريخ الذي حددتموه لبدء عمليات جيش التحرير؟
ج- بعد أن بدأت التداريب تحرز تقدما، وبعدما تمكننا من الحصول على السلاح الضروري ، وإنجاز المهام التي تكلف بها الإخوة ، كل في منطقته ، طرحنا الموضوع للنقاش · كان التنسيق قائما مع الجزائريين ، وكانت الفكرة المطروحة هي أن تنطلق العمليات في وقت واحد ، من الريف إلى الشرق إلى الغرب الجزائري ووهران ، التي لم تكن الثورة الجزائرية قد انطلقت بها · كان مشروعا جريئا لأنه كان يعني ببساطة إشعال المنطقة برمتها ، بما يعني آلاف الكيلومترات في المغرب والجزائر، وهكذا اتفقنا مع الجزائريين على أن نبدأ العمليات يوم 2 أكتوبر 1955 ، في الساعة الواحدة صباحا بالضبط · لكن الجزائريين لم يتمكنوا من بدء العمليات في ذلك الموعد المتفق عليه، أما نحن فقد انطلقنا وبدأت المواجهات الدامية مع المستعمر في عدد من المناطق · كان من شأن الاتفاق الذي أشرت إليه، لو كتب له النجاح، أن يغير العديد من المعطيات·
س- ما هي المهمة التي كلفت بها مع بداية المعارك؟
ج- كنت مكلفا بتوزيع الأسلحة على مختلف المجموعات بمنطقة الريف، أما المنطقة الشرقية، فقد كان المكلف بها هو عباس المسعدي وعبد لله الصنهاجي· وقد بدأنا توزيع الأسلحة عشية العمليات، بعد أن قمنا بتحديد المناطق التي ستشن فيها هجومات جيش التحرير· وبعد بدء العمليات بقيت هناك أتابع سير المعارك وأنقل نتائجها إلى باقي أعضاء القيادة في تطوان ·
س- أين كنت بالضبط؟
ج- في منطقة الحدود المصطنعة ، كانت التعليمات التي زودنا بها المقاتلين تقتضي القيام بقطع خيوط الهاتف لمنع الاتصال بين المراكز المستهدفة والقواعد المركزية ، حتى يتم عزلها ، والتركيز على أماكن تخزين الأسلحة للاستيلاء عليها، والالتزام بالموعد المحدد بدقة ، لأن بدء العمليات في أماكن متفرقة وفي موعد محدد بالساعة والدقيقة ، كان له أثر كبير على مختلف الأصعدة ، مما أكد للعدو قبل الصديق، مدى القدرات التي يتوفر عليها جيش التحرير، سواء على صعيد التنظيم أو التخطيط أو البسالة في القتال ، وهو ما اعترف به لاحقا عدد من ضباط الجيش الفرنسي·
قبل الخوض في التفاصيل المتعلقة بانطلاق المعارك البطولية التي شنها جيش التحرير ضد القوات الاستعمارية، أود أن نسلط الضوء عن بعض الشخصيات الأجنبية التي ساندت بقوة وبشكل مباشر حركة التحرير الشعبية من أمثال الجزائري عبد القادر بوزار والتونسي حافظ إبراهيم والسوداني إبراهيم النيال·
هؤلاء الذين ذكرتهم، عبد القادر بوزار والدكتور حافظ إبراهيم وإبراهيم النيال، قدموالنا مساعدات· كل من موقعه، لا يمكن إلا جاحد أن ينكرها· لقد أشرت جوابا عن سؤال سابق،إلى أن حركة التحرير المغربية اعتمدت منذ البداية على وسائلها الذاتية، وما أن تقوت صفوفها حتى وجدت في أوساط الجماهير السند الآمن والدعم اللامشروط مما جعلها تواصل عملياتها بشكل تصاعدي إلى أن تحقق الاستقلال والدعم الخارجي الذي توفر لها كان جزءا يسيرا فقط مما وفره الشعب لمجاهديه من إمكانيات· لكن هذا لا يعني أن حركتنا لم تكن منفتحة على مناضلين من خارج المغرب، آمنوا بقضيتنا ومدوا لنا يد المساعدة· وللأمانة والتاريخ، من الواجب استحضار هذه الأسماء لما أسدته لنا من مساعدة· لقد ذكرت تلك الظروف التي جعلت مثلا شخصا مثل عبد القادر بوزار الذي كان على متن الباخرة «دينا» يقرر البقاء معنا وتوليه مسؤولية تدريب المتطوعين بجنان الزرهوني· الدكتور حافظ إبراهيم التونسي الجنسية والمغاربي الانتماء، ينتمي الى تلك الطينة من الرجال التي يصعب الحديث عنها في بضعة أسطر· لقد كان هذا المناضل، أطال لله في عمره، خير سند لحركة التحرير في أقطار المغرب العربي، من موقعه في العاصمة الإسبانية مدريد· وقد استطاع من هناك أن يمدنا بمساعدات قيمة، وسبل الحصول على السلاح، كما أنه فتح قنوات عديدة أمام المسؤولين المغاربة، في الوقت الذي كان الصراع بيننا وبين الاستعمار على أشده· شخصيا لن أنسى للدكتور حافظ إبراهيم، وقوفه بجانبي في الفترة التي كنت حينها لاجئا بمدريد، قبل أن أختطف وأنقل إلى المغرب· وسأظل مدينا له بذلك ما حييت· لقد ظلت علاقتنا متواصلة منذ عدة عقود، وآخر مرة رأيته، كانت عندما توفيت زوجته الفاضلة قبل نحو ثلاث سنوات، حيث ذهبت الى مدريد لأقدم له العزاء، وهو الآن مازال يعيش في إسبانيا، ويعاني من متاعب صحية شافاه لله·
أما المرحوم إبراهيم النيال، فهو من خيرة المناضلين الذين تعرفت عليهم، وارتبط اسمهم بحركة التحرير في أقطار المغرب العربي، وهو سوداني الجنسية، وكان له جواز سفر مصري· وقد كان المشرف على الباخرة دينا، وساهم بشكل كبير في تزويدنا نحن والجزائريين بالسلاح· وكان بحارا ماهرا يعرف مجاهل البحار، وكيف يتسرب بالباخرة التي يقودها دون أن يثير الانتباه· وقد تعرض الى الاعتقال بسبب ذلك· تعرض خلالها الى تعذيب شديد، وقد عاش مدة غير قصيرة بالمغرب· وأعتقد أن له بنتا مازالت تقطن ببلادنا· إن هذا البطل الكبير من الذين يستحقون كل تحية وتقدير لما قام به من أعمال جليلة لصالح حركة التحرير في المغرب العربي·
س- السي اسعيد، لنعد إلى ذلك اليوم التاريخي، 2 أكتوبر 1955، وأنت بمنطقة الحدود المصنطعة، تنتظر الساعة الصفر لانطلاق العمليات، بعد أن وزعت الأسلحة على المجاهدين· كيف بدأت العمليات، وكيف كان إحساسك وأنت تتوصل بالمعلومات الأولى، وتنقلها إلى باقي أعضاء القيادة المركزية بتطوان؟
ج- كلما تعود بي الذاكرة إلى تلك الأيام الخالدة، أحس بالحنين، فهي أيام لا يمكن أن تنسى، قد قدر لي أن أكون مساهما، بكل تواضع، في مرحلة جد هامة من تاريخ بلادنا، لقد أدى كل واحد منا· كل في موقعه، وحسب المهام التي كلف بها وإمكانياته، أدى دوره على أحسن ما يرام·
الشباب الذين أشعلوا حرب التحرير، كانوا من خيرة شباب الوطن، تركوا عائلاتهم وأعمالهم ونذروا أنفسهم للثورة والنضال من أجل الاستقلال، ولذلك فما تحقق في حرب التحرير، هو نتيجة لهذا المجهود الجماعي والتفاني ونكران الذات الذي ثبت على أرض الواقع وفي ميدان المعركة· في تلك الفترة، كنت في تمنفاشت على الحدود بين الناظور وتيزي وسلي· لم نفصح عن ساعة بدء العمليات إلا قبل ساعات من ذلك، حفاظا على السر· وبالنسبة للمهام التي كلفت بها، فقد قمت بتوزيع السلاح على المكلفين ببدء العمليات في تيزي وسلي، أكنول، بورد، وغيرها من المناطق المحاذية للحدود المصطنعة، مازلت أتذكر أن المكلف بتسلم السلاح والتوجه الى أكنول لم يحضر في الموعد المحدد، وبعد أن انتظرت ما فيه الكفاية، اقترح علي المرحوم عمر الريفي تزويده بالسلاح الخاص بهذه المنطقة، وأنه سيتوجه الى هناك، لكني رفضت، لأن ذلك كان من شأنه الإخلال بالخطة المرسومة، بالنسبة لتيزي وسلي، لم تكن الضربة بمثل ما تم رسمه لها لأن الخبر سرب الى المستعمر قبل ساعة واحدة من بدء الهجوم، أما في بورد وباقي المناطق، فقد كان الهجوم كاسحا، ولكن لو انطلق الهجوم في نفس الوقت في أكنول، لكان جيش التحرير سيغنم أسلحة كثيرة هناك وفي مرموشة، تمكن عقا والدخيسي من شن هجوم مباغت على ثكنة عسكرية فرنسية، وأوقعوا العديد من القتلى وغنموا السلاح، وبعد اشتداد المعارك، اشتعلت اكنول وتيزي وسلي وتازة والمنطقة بأكملها، ويمكن أن ألخص أهمية الضربة الاولى رغم ان البطولات التي سجلها المجاهدون هناك لايمكن تلخيصها، لكن ولكي نطلع القارىء على أهمية هذه الضربة· فقد أفقدت الاستعمار توازنه في ظرف ساعات قليلة· ومنذ آنذاك بدأ ميزان القوى يميل لصالحنا· وسيستمر جيش التحرير، بنفس الروح المعنوية، في فرض معارك بطولية مع المستعمر في عدة مناطق الى أن عاد محمد الخامس الى أرض الوطن·
س- كيف كان تقييمكم لبداية المعارك واستمراريتها، على ضوء النتائج والتقارير التي كان يتم إعدادها؟
ج- كنت أتلقى النتائج من المناطق التي كلفت بها وأنقلها الى الاخوان في تطوان، وكان المرحوم عباس المسعدي ومجموعته يتابعون سير المعارك بالمنطقة الشرقية، وقد تنقلت بين منطقة الحدود المصطنعة وتطوان عدة مرات، كانت الخطة المرسومة ، باستثناء بعض العقبات الاولى التي أشرت إليها، تسير على أحسن مايرام، واستطاع المجاهدون الابطال ان يذيقوا الاستعمار الويلات، الذي لجأ الى استعمال الطائرات الحربية ضدهم عندما عجز عن مواجهتهم وجها لوجه، وكما قلت لك، فقد قلبت هذه المعارك المعادلة السياسية، وكان تقييمنا إيجابيا جدا· لكن مشروعنا لم يكتمل، فإشعال معارك التحرير بهذه المنطقة، لم يكن سوى البداية، وكنا نسعى الى نقلها من الشمال الى الوسط والجنوب لطرد الاستعمار بقوة السلاح· كانت بداية الثورة الشعبية، الثورة التي لم تكتمل، وذلك ما فطن إليه الاستعمار، الذي سارع الى إطفاء لهيب الثورة، لقد كانت نيتنا مواصلة المعارك في جميع انحاء المغرب، والتحق بنا عدد من الجنود المغاربة الذين كانوا في صفوف الجيش الفرنسي· كما أن القوات التي كانت موجودة في ثكنة بورنازيل بالدار البيضاء والتي كنا على اتصال بها منذ بداية المقاومة السرية، كانت مستعدة للهجوم· لكن الثورة لم تكتمل، فقد كانت فقط في بدايتها، وكان هدفها طرد المستعمر بقوة السلاح وتطهير المغرب من الخونة وبناء الاستقلال على أسس أخرى·
س_ تحدثت عن أسلوب العمل الجماعي الذي كان قائما آنذاك في قيادة جيش التحرير، وكيفية توزيع الادوار· لكن هناك سؤال يطرح نفسه بقوة ونحن نتحدث عن مراحل هامة من تاريخ المغرب، لاتقبل الادعاءات او القفز على الحقائق· سؤالي هو، هل كانت هناك تراتبية داخل قيادة جيش التحرير؟
ج- لا ، لم تكن هناك تراتبية، كانت القيادة جماعية، وكل ما هناك، توزيع للأدوار متفق عليه، كنا نحن في تطوان نقوم بواجبنا، والاخوة في القيادات الجهوية يقومون بواجبهم، وفي الخارج ومدريد بالضبط كان الإخوة : مثل عبد الرحمان اليوسفي والمرحوم عبد الكبير الفاسي وغيرهم يقومون بواجبهم· وهذه الروح الجماعية هي التي كانت وراء قيام جيش التحرير ونجاحه في شن المعارك البطولية التي أشرت إليها·
طرحت هذا السؤال، لأن هناك من نصب نفسه، بعد مرور سنوات عديدة رئيسا لجيش التحرير، وبما أنك كنت حاضرا وفاعلا رئيسيا في تأسيس جيش التحرير أردت ان توضح هذه النقطة·
لم يكن لجيش التحرير رئيس، ولم تكن هذه المسألة مطروحة أساسا، من أراد أن يدعي عكس ذلك، فهذا شأنه، لكن الحقيقة هي أن القيادة كانت جماعية، وكانت الادوار موزعة كل حسب مهامه وإمكانياته· وقد أدى كل المسؤولين واجبهم على أحسن مايرام·
(***)
الكاتب : أجرى الحوار: عزيز الساطوري
نشر بجريدة الاتحاد الاشتراكي / يناير 2018.
بتاريخ : 25/01/2018