لم تكن شؤون الجيو استراتيجية منذورة للمزاج الشعري كما هي اليوم، لا الوجود الحضاري نفسه، حالة مناخ استعاري في مناطق شعوب الشرق العربي، وبعض مغربه، كما هو في الوقت الراهن، فلا عرب في العرب اليوم، لنبحث عنهم في مشاريع قابلة للسياسة، فلا السلام العربي، سواء مع الغرب أو مع الشرق أو مع الذات، قضية عربية.
يكفي اليوم أن نتابع آخر التطورات، من أي قناةٍ نريد، وبأية لغةٍ نشاء، لكي نقف على معاينةٍ تتجاوز المناخ العاطفي العام إلى صلب القضية، فالمشروع العربي حول السلام موزّعٌ بين عواصم قد تشترك في عمقها مع العرب، تاريخهم أو بعض دينهم أو حتى جغرافيتهم، لكن الفكرة العربية عن السلام تخضع لنوازع وتمثلات بعيدة كل البعد، حتى عن تلك الفترة الذهبية الآن للحلول السلمية، أو الاستسلامية.
الصمود، وآخر المقترحات العربية، القوية من حيث التسويق على الأقل، تبدو اليوم كأنها وضعت في ظرف أصفر، ولم تصل إلى صاحبها، في حين أنها لا تتعدّى سنين عددا، وتحيينها عن طريق الأمم المتحدة يحسب شهورا بددا. والحال أنها مبادرةٌ جاءت على قاعدة انتفاضات القدس المجيدة، وهي في المكان الذي تركته فيها التسوية الظالمة لما بعد ميلاد دولة الكيان الإسرائيلي، أي مقسّمة بين دولة احتلال وأرض محتلة، واليوم تضيع القدس من بين يدي تاريخها الأبدي، ولا مبادرة سوى ما قد تسمح به أجندات دول الفعل الخارجة عن المشروع العربي. وشئنا أم أبينا، يبدو أن الموضوع أصبح مطروحا على جدول أعمال إيراني، أو تركي، أو حتى أوروبي، حسب تقلبات موازين القوى.
وبخصوص الموازين، صار من الأفيد أن نتحدّث عن موازين الضعف في كل معادلةٍ تكون فيها شعوب التاريخ العربي الحديث، موضوع مبادرة أو مطالبة. والواضح فعليا أن التمدّد الخارجي داخل رقعة العرب التاريخية يتم لغياب مشروع عربي، يملك قوة الإغراء، ثم قوة الإقناع ثم قوة الدفاع، كما هو واضح اليوم.
الدولة العربية، سواء كانت بعد الربيع، قبله أو حينه، التي يمكنها أن تحمل المشروع، أو تكون رافعته، الدولة التي تعلَّمْنا أن من الممكن أن يجعلها منطقها الهيغلي قوة لعقلنة التاريخ، هذه الدولة بذاتها ليست قضية عربية، بل صارت حدود وجودها وغاياته رهينة تقلبات البيت الأبيض، كما قد تكون رهينة حساباتٍ توازن المحاور في المنطقة: محور روسي إيراني تركي يتحدث لغة الضاد، ومحور أمريكي إسرائيلي ضبابي يتقن لغة الأضداد، ثم محور أوروبي يتحرّك تبعا لما بقي في المصلحة الأوروبية من عقل استراتيجي، وما بقي فيه من روح الأجداد.
أما الاقتصاد العربي فلا يمكن القول إنه اقتصاد لشعوب تنتمي إلى التاريخ العربي، وليس العرق العربي. اقتصاد عربي تتحكم في مدخراته، وسبل توجيهه، وحتى كيفية صرفه، توازنات تتقرّر في موسكو أو في واشنطن، كما قد تتقرّر في «وول ستريت» أو بورصة لندن.
الوجود العربي الذي ظل موطن القصيدة والأغنية، محط الخيال ومورد اللغة، يمكنه أن يختفي، بمجرد لقاء يتم في دهاليز عاصمة غربية، ويتحقق ما لم يتوقعه أكثر الناقمين تشاؤما، عودة الدولة العربية إلى ما قبل الدولة، وعودة السياسة العربية إلى ما قبل السياسة، وتختفي المجتمعات المدنية والسياسية والنقابية والأكاديمية والثقافية. وتظهر القبيلة من جديد ترطن بلغات الكفيل الاستراتيجي الجديد، كان غربا أو شرقا ينأى في شرقيته، ومشاريع الحروب، هل تكون عربية؟
نحن أبعد ما نعتقد في ذلك، حتى ولو كانت الجثث التي ترسو على شواطئ العدم، بسحناتٍ عربية، وتحمل أسماء عربيةورايات عربية.
الحروب العربية أيضا قد تتقرّر في عواصم الأعداء، كما قد تتقرّر على سلم ترتيبي، يقرِّب البعيد ويُبْعد القريب، على أساس أولوية الصراع مع الجيران، قريبين كانوا أو بعيدين، على الصراع مع العدو الاستراتيجي، إن وجد.
أية أمة، تاريخية، تنزع منها مشروعها في السلام، ومشروعها في الحرب، ودولتها وسياستها، هل تظل هي نفسها؟هل تملك قدرها، كما عودتنا البلاغة الصاعدة من بين التاريخ والكنايات، كلما تحدثنا عن المستقبل؟ وإذا انتهى التاريخ، كما قد يتبادر إلى أي ليبرالي عربي اكتشف الغرب مفاجأة، هل يصبح المستقبل ممكنا؟ ربما يستطيع الشعراء أن يعرفوا المستقبل، بما هو وطن مجهول، لكن الواقع الحالي يقول إن أٍقسى ما يحدث أن العرب لم يعودوا قضية عربية.
منشور في موقع «العربي الجديد»…
الخميس 25 يناير 2018./ 08 جمادى الاولى 1439.هج