كثيرة هي الشخصيات الفذة التي نقشت بمداد الفخر والاعتزاز اسمها في سجل النضال الوطني من أجل حرية المغرب واستقلاله . فمنهم من استرخص حياته ، ومنهم من ضحى بماله ، ومنهم كذلك من تشبع بالقيم الدينية الحقة التي تحض على الجهاد والمقاومة والنهل من معين التربية على المبادئ الإنسانية السامية التي جبل عليها الوطنيون المغاربة ، وحرصوا على نثرها وسط معاصريهم ، ونقلها للأجيال اللاحقة.
تلك بعض من الخصال المثلى والحميدة التي طبعت سيرة حياة العلامة المجاهد سيدي عمر المتوكل الساحلي ، وحرص على تدوينها قبل انتقاله إلى عفو الله سنة 2003 ، لتجد طريقها إلى عموم القراء بعدما سهرت لجنة من أسرة الراحل على جمعها بين دفتي كتاب صدر مؤخرا في طبعة أنيقة عن “دار الأمان ” بالرباط ، ويحمل عنوان “مذكرات حياتي “.
هذا الإصدار الجديد الذي سيشكل دون ريب إضافة نوعية للخزانة الوطنية الحبلى بالأدبيات التي تناولت جهاد المغاربة من أجل الحرية والاستقلال وبناء مغرب الديمقراطية والمؤسسات ، كان موضوع لقاء تواصلي ثقافي نظم خلال نهاية الأسبوع الماضي بثانوية محمد الخامس للتعليم الأصيل بتارودانت، وذلك بمبادرة من جمعية “منتدى الأدب لمبدعي الجنوب “، و”مؤسسة عمر المتوكل الساحلي للتنمية والثقافة والعلوم “.
واختيار”ثانوية محمد الخامس للتعليم الأصيل كمكان لتقديم وتوقيع كتاب “مذكرات حياتي ” له أكثر من معنى ودلالة. فهذه المؤسسة التربوية الشامخة ، التي كانت تحمل في السابق اسم ” معهد محمد الخامس للتعليم الأصيل “، حظيت بشرف وضع حجرها الأساس من طرف الملك الراحل محمد الخامس ، غداة حصول المغرب على استقلاله.
وكان صاحب المذكرات ، إلى جانب ثلة من خيرة علماء القطر السوسي ، المنضوين تحت لواء “جمعية علماء سوس ” من بين الشخصيات الفذة التي ناضلت من أجل تشييد هذه المعلمة التربوية ، كما تولى إدارتها ، وكان للمعهد شأن عظيم في تخريج أفواج متتالية من الأطر الوطنية التي ساهمت بقسط وافر في مغربة القضاء والتعليم والإدارة غداة استقلال البلاد.
وبخصوص الظروف التاريخية التي كانت وراء تدوين المسودات الأصلية ، المخطوطة والمرقونة ، لكتاب “مذكرات حياتي” ، يقول العلامة سيدي عمر المتوكل الساحلي في مقدمة الكتاب” … فقد جال بخلدي وأنا في سجن “بولمهارز” بمراكش في صيف سنة 1954 ، أن أكتب نبذة تاريخية عن حياتي وعن المراحل التي اجتزتها في البيئة التي نشأت فيها وترعرعت ، وكذلك عن العقبات التي مررت فيها منذ نعومة أظافري إلى أن زرت هذا المطبق الذي خطر ببالي فيه أن اقتحم هذه اللجة التي تلاطمت أمواجها في معترك الحياة الذي قدر لنا ان نمر فيه كما سبق في علم الله أن نمر”.
غير أن هذا المشروع السيري الذي جال بخلد الكاتب سنة 1954 لم يكتب له أن يرى النور إبان حياته ،حيث تأخرت عملية التدوين عشر سنوات “بسبب مسؤوليات طارئة ومشاغل ضاغطة ” ، حسب اللجنة التي سهرت على إخراج الكتاب إلى حيز الوجود. كما أن “المسؤوليات والمهام الوطنية التي تراكمت على المؤلف بعد الاستقلال ” كان لها نصيب في تعطيل نشر مذكرات المؤلف وفقا لشهادته بنفسه.
وعلى الرغم من ذلك ، فإن كل هذه الإكراهات لم تحبط من إصرار العلامة الراحل سيدي عمر المتوكل الساحلي على مواصلة عطائه في مجال التأليف ، حيث اعتكف على إخراج موسوعة “المعهد الإسلامي بتارودانت والمدارس العلمية العتيقة بسوس ” ، خلال حقبة الثمانينيات من القرن الماضي ، والذي صدر في أربعة أجزاء بلغ مجموع صفحاتها 1653 صفحة ، وكانت بذلك هذه الموسوعة من بين الأسباب التي أخرت إخراج المذكرات في صيغة كتاب إلى حيز الوجود ، وهي المهمة التي اعتنت بتنسيقها وإعدادها للطبع لجنة من اسرة المؤلف الراحل.
ويقع كتاب”مذكرات حياتي” ، في 665 صفحة من الحجم الكبير ، مقسمة إلى 23 فصلا ، إضافة إلى ملحق للصور ، وفهارس للآيات القرآنية ، والأحاديث المروية ، والأمثال ، والاشعار ، والمصادر والمراجع ، والمحتويات.
وضمن الفصول الثلاثة وعشرين بإمكان القارئ أن يطلع على سيرة هذا العالم المجاهد المزداد سنة 1912 ضواحي مدينة تيزنيت، حيث حفظ القرآن الكريم ، كما تضلع في تملك مختلف العلوم الشرعية واللغوية ، مرورا بحلوله في عدد من المدارس العلمية ضواحي تارودانت كمربي و”مشارط” إلى أن طاله القمع الاستعماري بسبب قناعاته ومواقفه الوطنية .
ويعرض الكتاب أيضا سيرة الكاتب الراحل ومعاناته مع النفي والسجن والمطاردة من طرف قوات الاحتلال الفرنسي في تارودانت وسيدي إفني ومراكش والدار البيضاء ، إلى جانب ملازمته لعدد من أقطاب العمل الوطني أمثال العلامة الراحل سيدي محمد المختار السوسي ، والمجاهد الفذ حمان الفطواكي ، ليعرج على تسليط الضوء على جوانب من نضال المؤلف في الحقلين السياسي والتربوي غداة الاستقلال ، ليختتم الكتاب بالحديث عن رحلته للديار المقدسة من أجل أداء مناسك الحج .