لقد بات الفكر السلفي التكفيري يٌحاصرنا من كل جانب، بل أصبح يتدخل في مختلف مجالات حياتنا، بما فيها السياسية وحتى الشخصية الحميمية. لذلك نحن في أمس الحاجة إلى التحرر من هذا الفكر وأغلاله وقيوده. فعندما ننظر إلى أغلب ما يُكتب وما يقال عندنا منذ بدايات القرن الماضي، نجد أن المرجعية هي السلف. والسلف لا يُعٓلِّم البحث، ولا التساؤل، ولا الشك، بل يحث على القبول والانصياع والطاعة والاستسلام، لا يشجعنا على أن نكون ذواتنا، بل يدعونا إلى الاهتداء بغيرنا والاقتداء به، والتفكير بغير عقولنا. فالسلف قالوا ما قالوا في سياق حياتهم، والخطير أننا أمة ترى حاضرها بعيون ماضيها وأننا جعلنا السلف مرجعية لسلوكنا، فأصبح الماضي مرجعا واحدا ووحيدا لنا في الكثير من قطاعات الحياة والفكر. نعم، لقد قال أسلافنا أشياء مفيدة في أشياء كثيرة، لكن لا يجوز أن يبقى السلف مرجعية مطلقة لنا في جميع المستويات. فهو لا يخاطب الحاضر ولا المستقبل، إنه يخاطب الماضي فقط، ولا يحفز على التقدم والتطور والتغيير. إنه لا يكتفي بمخاطبة العقلية السلفية لتلبية رغباتها، بل يتجاوز ذلك إلى زرع بذورها وصُنعها وتقويتها والعمل على نشرها وترسيخها واستمرارها. إضافة إلى ذلك، لا يثير السلف في نفس الإنسان المعاصر ما يطرحه الحاضر وما قد يطرحه المستقبل من أسئلة. لذلك، وتحت تأثير السلفية، أصبحنا لا نجيد قراءة ماضينا، وبالتالي لا نجيد قراءة حاضرنا ومستقبلنا معا.

فضلا عن ذلك، فالسلف يحول دون قيامنا بمغامرة نقد الذات والتاريخ والبحث واستشراف المستقبل، كما أنه يعوق قيامنا بمغامرة فهم الذات، أو تغيير نظرتنا للوجود والإنسان. أضف إلى ذلك أنه يمنعنا من الإقدام على أي مغامرة في التاريخ، أو في الوجود، أو في الدين،، أو في بناء مجتمع وثقافة جديدين…

تعتقد السلفية التكفيرية أن الحقيقة اكتشفت مرة واحدة في الماضي، ولا يمكن اكتشاف أي شيء جديد بعد ذلك، ومن ثمة فهي تكفر الديانات الأخرى وتحاربها. كما أن السلفية عامة تعتقل من يدخلها في ظلام دامس، حيث يصبحُ من الصعب عليه أن يغادر أسوارها وظلماتها، لأنه لن يطيق أشعة الشمس خارجها.

تبعا لذلك، ففقهاء السلفية قد جمدوا المعاني القرآنية وحجروها وكلَّسُوها(محمد أركون)، حيث ركزوا على المعنى الحرفي للنص، وأهملوا روحه وجوهره وأضاعوهما، عِلماً أن الحرف يقتل والروح تحيي. لقد فاتت عقول هؤلاء الفقهاء مقاصد النص القرآني العليا، لأنَّ أذهانهم وقدراتهم الفكرية أصغر من أن تفهمه وأعجز من أن ترقى إليه وتسبر أغواره وتكتشف أسراره. هكذا تم القضاء على انفتاح الإسلام. ونتيجة لذلك، سقط السلفيون التكفيريون في الانغلاق المتطرف الذي يرفض الآخر وينبذه ويحاربه.

وما هو مخيف هو أن السلفيين التكفيريين يعتبرون ابن تيمية مقدسا لا يقبل المناقشة أو الاعتراض، بل يجب تنفيذ كلامه حرفيا، ما منح لكلام هذا الأخير عند هؤلاء أسبقية على القرآن ذاته، فصار عندهم أكثر معصومية ربما حتى من الرسول نفسِه.

لذا، يجب إعادة قراءة كل التراث الإسلامي على ضوء الفلسفة ومختلف العلوم الإنسانية. فما قام به السلف هو مجرد تأويل للنص القرآني.ونظرا لوجود غموض يلف النص الديني،فهوفي حاجة إلى تأويل. والتأويل هو مجرد قراءة، والنص هو القارئ،لأن النص لا يتكلم من تلقاء ذاته، كما أن القارئ لا يستطيع أن يستنفذ كل معاني ألنص القرآني. قد يبدو أن هناك مفارقة، لكن تلك هي طبيعة كل من النص والقارئ. وبما أن القراءة تأويل، ليس هناك ما يمنع من تفسير هذا التأويل، بوضعه في كل سياقاته، وتأويله، بإظهار خلفياته وما يقوله من وراء سكوته عن قوله، وتجديد تأويل النص القرآني نفسه. من الممكن أن يكون تأويل السلف صالحا لزمانه، لكنه لا يصلح لزمان آخر.
لا يستطيع أحد أن يبرهن على أن التأويلات المتتالية للقرآن التي أنجزها الفقهاء السلفيون تأويلاتٌ صحيحة.

فصلاحية تفسيرات هؤلاء قد تكون مقيدة بسياقها التاريخي والاجتماعي، فلا يمكن أن نقبلها كما لو كانت وحيا منزَّلا. وإذا كنّا نعرف أن النبوة قد انتهت مع وفاة النبي، فكل من يزعم أن تأويله صحيح إنما هو يدَّعي نبوة جديدة، وهذا مرفوض قطعا، كما أن تأويل النص الديني ليس حقيقة متفقا عليها (د. عبد الله العروي).

لذلك، بدلا من التعامل مع الاجتهادات الفقهية الإسلامية السابقة باعتبارها مسلمات ويقينيات، يجب مراجعة هذا التراث وغربلته كما فعل فلاسفة عصر الأنوار مع اليقينيات المسيحية.

نحن في حاجة إلى ثورة لاهوتية تحريرية، كما حدث في تاريخ أوروبا، حيث حرَّرَ فكر الأنوار المجتمعات الأوروبية من أغلال الكنيسة ومحاكم التفتيش والوصاية على الفرد والمجتمع والعقل .

 

الاربعاء 24 يناير 2018./ 07 جمادى الاولى 1439.هج

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …