العفويَّةُ ليست من السياسة في شيء؛ لكنّها- في الوقت عينه – تتدخل في تشكيل السياسة وفي تقرير مصائرها أو قُل، في الانحدار بالسياسة إلى ما دون السياسة! أي في حَمْلها على سلوك دروبٍ ومنعرجاتٍ يضيع فيها معناها، وتنفَلُّ فيها أدواتُها ووسائلها. هي، كما قلنا، ليست من السياسة، ولكنّها من الطبيعة والمجتمع. إنها من الطبيعة؛ لأن الأفعال العفويَّة هي أفعال إنسانيّة/‏ حيوانيّة يأتيها الناس، بالتّلقاء، من دون تدبُّر وإحكَامِ نَظَر: ردّاً على فِعْلٍ، أو كفّاً لخطر مباغِت، أو تصريفاً لطاقة داخليّة: فيزيقيّة أو نفسيّة. فَلْنَقُل إنها تقدِّم نفسها، في هذه الحال، بوصفها فاعليّة ماديّة وسيكولوجيّة طبيعيّة لا فاعليّة عقليّة؛ إذ هي، هنا، تدورُ مع الغرائز والأهواء والمشاعر وجوداً وفعلاً. وهي من المجتمع لأنّها تتولَّد من تفاعُل الإنسان مع معطيات محيطه وضغوط ذلك المحيط، وهي – في الغالب – تتمظهر في صورة ردودِ فعلٍ على وضعٍ مَا؛ بل كثيراً ما تُفصِح عن نفسها في شكلٍ انفعاليٍّ، احتجاجيٍّ.

إنَّ معظم ظواهر الانتفاض والتمرّد والثوران، في المجتمعات الإنسانيّة، إنما هو ترجمةٌ ماديَّة لفِعْل العفويَّة بما هو انفعالٌ إنسانيّ بضغوط الأوضاع الاجتماعيَّة الخارجيّة. العفويَّةَ، بهذا المعنى، فعْلٌ تلقائيّ غيرُ مسبوقٍ بحسابٍ أو تدبُّرٍ أو تخطيط، وإفصاحٌ طبيعيٌّ مباشِر عن إحساسٍ (إن كان الوازعُ ماديّاً) أو عن شعور (إنْ كان الوازعُ نفسيّاً) لا عن وعي. ولأن العفويَّةَ كذلك، فهي (فاعليةٌ) لا تناسبُ السياسة والعمل السياسيّ، وهي لم تناسبهما يوماً؛ لأنّ مبنى السياسة على العقل؛ على الحساب الدَّقيق للمصالح – من حيث هي هدف كلِّ سياسة – وعلى التخطيط الاستراتيجيّ للفعاليّة وتقدير الممكنِ تحصيلُه والممتنع إدراكُه، ومَرْحَلَةِ المهمَّات وفقاً للقدرات الذاتيّة، ووفقاً لِمَا تسمح به الشروط الموضوعيّة. والذين يحسبون العفويَّةَ طاقة فاعلة ذاتَ آثارٍ كبيرةٍ في السياسة – أو قد تستفيد منها الأخيرة في تزويد نفسها بقوَّةٍ جزيلةِ الفوائد- غالباً ما ينتبهون إلى البدايات، ويشُدُّون إليها عصبَ الاهتمام؛ لكنهم يتجاهلون المآلات أو يستصغرون أمرَها معوِّلين على إمكان التحكُّم في آلةِ اشتغالِها (العفويَّةَ)، وفي مسارها ومنعطفاته.

وليستِ العفوية تعبيراً عن إرادة جمْعية، كما يمكن أن يخال ذلك مُدَّاحُها من الفوضويّين، ولا يوجد في عُنفها وثورانها ما يُسْتدَلُّ به على اتصالِ فِعْلِها بأيّ إرادة؛ إنها إلى الهوى أقرب منها إلى الإرادة، إنْ أخذنا التمييز النظريّ الصارم الذي يقيِّمه هيجل بين الهوى – الذي لا ينصرف تيارُهُ إلى تحقيق ممكنات – والإرادة التي هي التعبير الماديّ المتحقق عن الحريَّة بما هي فعلٌ واعٍ ومدرِكٍ للواقع التاريخيّ وممكناته. وعلى ذلك فإنّ العفويَّة خلْت من أيّ مضمونٍ إيجابيّ؛ لأنّها لا تَعِدُ بشيءٍ ذي بال؛ لا تنتج واقعاً جديداً نوعيّاً، ولا تفتح أفقاً مغلقاً، ولا تَعْرِض ممكناً تاريخياً، ولا ما يُشبه ذلك. نعم، قد تهْدم وتُحطِّم وتُغيِّر مشهداً منظوراً؛ لكنها لا تبني ما يُجاوِزُه ويُلغيه. إنَّها، في أحسن أحوال الظنّ بها، فعْلٌ اجتماعيٌّ سلبيٌّ عاصِف ومزلزِل، ولكنّ أضرَارَه لا تقتصر على من يقَع عليه ذلك الفعل (دولة، سلطة، نظام حاكم)، وإنما تمتد آثارُها إلى حيث تصيب قوى العفويَّةَ نفسَها؛ لذلك ما كان صدفةٌ أنّ كثيراً من السياسيّين والمثقفين الذين ناهضوها، منذ قرنٍ ويزيد، إنما ناهضوها من منطلق أنّ ارتدادات زلازلها شديدة الخطورة على عملية التغيير الثوريّ ذاتها.

نقطة ضَعف العفويّة أنها عفويّة، أي ليست فعلاً منظَّماً مسبوقاً بوعيٍ وإرادة وتنظيم. ليس للفعاليّة العفويّة من قيادةٍ تقُودُها، فهي نَثْرٌ اجتماعيّ- «سياسيّ» غيرُ مقيَّد بأيّ ضابطٍ تنظيميّ؛ بل هي «تقودُ» نفسَها نحو لا هَدَفٍ، أو قُل نحو هدفٍ – غيرِ هادف – هو أن تنطلق فتهْدِم وتحطِّم، إن استطاعت إلى الهدم والتحطيم سبيلاً، أو – على الأقلَّ- أن تحتجَّ وتَنْقَم ممَّا تحسبه واقعاً يحتاج منها إلى نَقْضٍ أو اعتراض. ولسنا، هنا، نستكثر على الناس أن يحتجُّوا وينتفضوا، في موجاتٍ من الرفضِ عفويَّةٍ؛ فقد يكون في ذلك دليلُ عافيةٍ في الجسم المجتمعيّ، وقرينةٌ على سريان دبيبِ حيويّةٍ فيه تَبْطل معها مفاعيلُ المَنع والقمع، ولكنَّنا نأبى أن نَعُدَّ فعْلَ الاحتجاج والنقض ذاك فعلاً إيجابيّاً مُنتِجاً؛ لأنه لا يعي نفسه، بوصفه فعلاً ممتنعَ التحقُّق من دون تخطيطٍ وتدبير.

وقد يوجد من الناس – وهُم كثر- من يفترض أنَّ الثورات، في التاريخ، تبدأ عفويّةً، في البُداءة، قبل أن تصير إلى تنظيمٍ تَنْحَكم به حركتُها وأنَّه ما من ثورةٍ انطلقت منظَّمةً ومُدَارةً من قيادة. وهُم يستشهدون في ذلك بسوابق مثل الثورة الفرنسيّة، أو الثورة على نظام الشاه في إيران، أو الثورات في أوروبا الشرقيّة ضدّ أنظمة الأحزاب الشيوعيّة… إلخ. وهذا صحيحٌ إلى حدٍّ؛ ولكنه ليس قانوناً؛ إذْ كم من ثورةٍ بدأت منظَّمة ومُدَارة بإحكام

( الثورة الروسيّة، الثورة الصينيّة، الفيتناميّة، الكوبيّة… إلخ)؛ ثم إنَّ الأهمَّ من أنّ الشواهد هذه جزئيّة وليست عامّة وكونيّة أن العفويّة التي يحتفلون بها، في تجارب فرنسا وإيران وأوروبا الشرقية، فجَّرت من المشكلات والفظاعات ما لا حصر له! يكفي دليلاً ما حصل في عهد روبسبيير المتطرّف، وكيف اختطف رجال الدين الثورة في إيران، وكيف آلت «ثورات» شرق أوروبا إلى المتاهة. لقد جرى ذلك كله من وراء حقيقة أن العفويّة تتفتح الأبواب على مصراعيها أمام المجهول؛ لأنها، ببساطةٍ شديدة، ضدّ التنظيم وضدّ الرؤية والبرنامج، وبكلمة، ضدّ السياسة.

 

الاثنين 22يناير 2018./05 جمادى الاولى 1439.هح

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …