لم يعرف المغرب على مدى عقدين من الزمن أزمات سياسية، كما عرفها بعد ما سمي بالربيع العربي، وكأن لعنة “حركة 20 فبراير” تلاحق الذين تنكروا لأفضالها عليهم. فلم تمض سوى سنة واحدة على أول حكومة يقودها حزب إسلامي “العدالة والتنمية”، برئاسة أمينه العام عبد الإله بنكيران، في ظل دستور جديد منحه صلاحيات لم يحظ بها سابقوه، حتى تعرضت لهزة عنيفة أدت إلى تصدعها، إثر انسحاب حزب الاستقلال، الذي أكد أمينه العام آنذاك حميد شباط على نفاذ صبره إزاء الاستفزازات وأساليب الابتزاز، التي أفرط فيها رئيس الحكومة لقلة خبرته واستهتاره بالمسؤولية، عبر انفراده بالقرارات المصيرية…
ويذكر المغاربة كيف انبطح بنكيران أمام صلاح الدين مزوار رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي قال فيه ما لم يقل مالك في الخمر من حيث اتهامه بالفساد، ورضخ لما فرضه عليه من شروط قوية، لم يجد من حيلة لمواجهتها سوى الانصياع مقابل الحفاظ على منصبه رئيسا للحكومة وضمان استمرارية حكومته إلى نهاية ولايتها. حيث لم يعد الأمر منحصرا في تعديل تقني، بتعويض الوزراء المستقيلين، بل تعداه إلى تغيير بعض الحقائب الوزارية والتوافق على أخرى في مشاورات ماراتونية جاوزت الثلاثة شهور…
ورغم اتخاذه قرارت لاشعبية أضرت بالقدرة الشرائية للطبقات الفقيرة والمتوسطة والإجهاز على أهم مكتسباتهم، ابتسم لحزبه الحظ من جديد وتصدر نتائج الانتخابات البرلمانية ليوم 7 أكتوبر 2016، فلم يتأخر الملك في تكليفه بتشكيل حكومته الثانية بعد “الخريف العربي”. إلا أن الرياح لم تجر حسب هوى مركبه، إذ لم يستطع طوال نصف سنة من التفاوض العقيم إقناع حلفائه المفترضين بالانضمام إلى تشكيلته، فكان “البلوكاج الحكومي” الذي أدخل البلاد في حالة من الشلل الاقتصادي والسياسي والتشريعي وتأخير المصادقة على الموازنة المالية لعام 2017، مما أدى إلى إعفائه وتعويضه بالرجل الثاني في الحزب سعد الدين العثماني.
وكم كانت فرحة الكثيرين عارمة بانزياح “الغمة” التي ظل يشكلها بنكيران بإذاقتهم مختلف ألوان المرارة، وعلقوا آمالا عريضة على أن تكون حكومة العثماني أحسن حالا من سابقتها، بأن تسهر على تدارك ما فات والقيام بما يلزم من إصلاحات كبرى، تعيد الأمن والطمأنينة للقلوب، وتكثيف الجهود لإخماد نيران الحركات الاحتجاجية التي تعم أرجاء الوطن وفي مقدمتها “حراك الريف”، ومحاربة الفساد المالي والإداري وتحقيق التنمية الشاملة، عبر الحد من معدلات الفقر والهشاشة والأمية والبطالة، تقليص الفوارق الطبقية والمجالية، استكمال مسلسل الانتقال الديمقراطي وتأمين الاستقرار السياسي…
وزاد من الاعتقاد بأن الأمور ستسير في الاتجاه الصحيح وفق الإرادة الملكية والتطلعات الشعبية، حدوث “الزلزال السياسي” الذي وعد به الملك في خطابه الافتتاحي بالبرلمان يوم 13 أكتوبر 2017، والمتمثل في تفعيل المبدأ الدستوري المتعلق بربط المسؤولية بالمحاسبة، من خلال إعفاء ومعاقبة عدد من الوزراء السابقين والحاليين ومسؤولين إداريين، بناء على خلاصات تقارير المفتشيتين العامتين لوزارتي الداخلية والمالية والمجلس الأعلى للحسابات، التي أثبتت مسؤوليتهم في تعثر إنجاز برنامج “الحسيمة منارة المتوسط” .
بيد أنه لم يلبث أن خاب ظن المغاربة ثانية، وأدركوا أنهم راهنوا على “الحصان” الخطأ الذي ليس سوى نسخة طبق الأصل لسلفه، وبدا ذلك واضحا في عجزه عن إيجاد الحلول المناسبة لأزمة الريف. وفضلا عن السعي إلى ضرب مجانية التعليم وتعميم التوظيف بالعقدة، جاء القانون المالي لعام 2018 مشابها لسابقيه، ولن يعمل سوى على تأجيج الغضب الشعبي وتعميق الجراح. إذ بدل التصدي للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية الأساسية، خاصة ما يرتبط بالصحة والتعليم والتشغيل والإسكان والشباب والمرأة، تضمن إجراءات قاسية، حيث أن الحكومة لجأت للتخفيف عن عجزها، إلى جيوب المستضعفين عبر زيادات جديدة على القيمة المضافة بالنسبة للمحروقات وبعض المواد الغذائية كالدقيق والزبدة والسكر وعقود التأمين والرسوم على وثائق إدارية أخرى كجواز السفر ورخصة السياقة واثمنة التبغ…
وها قد مضى حوالي ثلاثة شهور على “الزلزال السياسي”، ومازال المغاربة ينتظرون تعويض الوزراء المطاح بهم. فهل من الطبيعي في وقت ما انفكت الخطب الرسمية تتحدث عن الشفافية والحق في المعلومة، أن يظل المواطن مغيبا ولا يجد تفسيرا لحائط الصمت المضروب على ما بات يعرف ب”البلوكاج الثاني”، علما أن المسألة لا تقتضي عدا تعويض وزراء بآخرين من نفس الأحزاب، شريطة تحري الكفاءة والقدرة على تحمل السؤولية، وفق ما ورد في البلاغ الملكي؟ فلماذا يترك الحبل على الغارب وتناسل الإشاعات، كالقول برفض الأسماء المقترحة من قبل القصر الملكي، أو أن الحكومة تسير صوب ما عرفته سابقتها، بدخول حزب الاستقلال مكان حزبي التقدم والاشتراكية والحركة الشعبية، لاسيما أن العثماني مطالب باقتراح شخصية جديدة لتولي حقيبة الشؤون الإفريقية، التي دعا الملك إلى إحداثها، أو أن وزير الفلاحة عزيز أخنوش عاد ليفرض هيمنته والضغط للحصول على حقيبتي التعليم والصحة، وما إلى ذلك من الأخبار المتضاربة من هنا وهناك، والتي يعتبرها “الدكتور” مجرد حرب إعلامية…
مؤسف حقا تواصل مسلسل الاستخفاف بانشغالات وهموم المواطن المغربي، الذي أمسى فاقدا الثقة في المسؤولين والأحزاب السياسية… فكيف له استساغة إسناد قطاعات حيوية هامة من مستوى الصحة والتعليم والسكنى، تجر وراءها ملفات ثقيلة وتستوجب التعجيل بتعيين وزراء رسميين للانكباب على معالجتها، إلى أشخاص يبدون غير قادرين حتى على النهوض بمهامهم الأصلية؟