كان موقعه تراجيديا لأنه كان أخلاقيا للغاية، هو ذا الموقع الذي رآه الكثيرون، لكن تفاصيله، كتبها بدون أية نبرة تشكي.
كان يصف مغربا يخرج بين الرصاص والترائب..
كانت أقسى الفترات، ولا شك، تلك التي أعقبت سقوط عبد لله إبراهيم من على رئاسة الحكومة… وتأسيس العهد القديم، إذا شئنا، وهنا كانت لي المناسبة الثانية مع دفتر ثان لعبد الرحيم، رحمه لله..
ووجدت أن علي أن أكتب له تقديما..
يكشف هو بذاته التوجسات التي كانت تحيط بالنشر، وأكثر من ذلك، القوة الانفجارية لما تركه بوعبيد ككتاب عن السياسة..
كتبت وقتها كتقديم، «فهل يمكن كتابة تقديم لمذكرات رجل مثل السي عبد الرحيم بوعبيد؟
ـ في السؤال ما يوحي ببداهة الجواب، أي أن الأنسب هو أن نتحدث عنها بعد قراءتها، لأن فيها مقدمات لقراءة ماض مازال يرخي بظلاله علينا حتى حدود اليوم. نحن متواضعون وواضحون في هذا التقديم:
سيذهب الناس أولا وقبل كل شيء إلى المذكرات، وربما لن ينتبهوا إلى هذا التقديم سوى بعد الانتهاء من قراءة ما ننشره اليوم وغداً. لكن مع ذلك، لابد من هذا الاستهلال لنضع النص في بعض من سياقاته.
أولا، تأتي كتابات عبد الرحيم لتسلط الضوء على زاوية تبدو اليوم بعيدة من تاريخ شاق، وتقدم بعض المفاتيح لفهم بعض الانكسارات، بل حتى الانحسارات التاريخية التي عشناها.
ثانيا، سنفهم ولاشك لماذا سقط المغرب، في لحظة من لحظات تاريخه، في إغراء الإطلاقية السياسية والتعسف على مسار صنعته كل القوى الحيوية في المغرب. كما أن النص، الذي قمنا بترجمته إلى العربية،
ثالثاً، هو طريقة مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد في الاحتفاء بزعيم تحمل اسمه، ويحمل اسمه كيمياء خاصة في صناعة المد الديمقراطي ببلادنا، وهي طريقة، يحسب لها ولاشك أنها تُعَمم، بمناسبة أربع عشرة سنة على رحيل الفقيد العزيز، على القراء والفاعلين وعموم المهتمين، وثيقة نادرة وأساسية في فهم ما جرى، خصوصاً وأن صاحبها كسر عادة تكاد تكون مستحكمة في حقلنا السياسي، أي تلك العادة التي تجعل الفاعلين لا يهتمون بالمكتوب في التأريخ لأثرهم، ويعتبرون أن التاريخ لا يمكن أن يكون إلا شفوياً، أي قابلا للخضوع إلى التأويل والتوليف حسب المقال والمقام.
في المذكرات أيضاً، بروفيلات لشخصيات سياسية، ووضع التأطير التاريخي لوجودها في قلب الدولة. ونحن هنا أمام شهادة فاعل سياسي تاريخي وزعيم وطني كبير يتحدث عن المنعطفات التي دخلت فيها البلاد والأشخاص والهياكل أيضاً التي احتضنت خروج المغرب من لحظة التوافق الكبرى إلى مآزق الاستبداد والحكم المطلق.
ندرك أيضاً أن التقديم لا يستقيم بدون أن نذكر أن الكثير من الفقرات والتصنيفات لا يمكن أن تفهم إلا بوضعها في مسار تلك الفترة، وفي سياق الاحتقانات والردود التي طبعت الكثير من المحطات آنذاك. وبمعنى آخر، لا يمكن أن نقرأها بعيون الحاضر وبسياق اللغة الحالية. ولهذا تكون الإحالات والإشارات ضرورية، لفهم وتأطير ما ننشره…
وسيتضح من أول جملة في الدفتر الثاني، أن الأمر يحمل التوقيع الأدبي لعبد الرحيم كما يحمل توقيعه النسبي، إذا شئنا: كما يتضح من هذه الفقرة:
“خلال الأيام التي تلت إطلاق سراحه يوم 3 مارس 1982، بعد إقامة إجبارية طويلة بميسور، استُقبل المرحوم عبد الرحيم بوعبيد من طرف الحسن الثاني بالقصر الملكي بمراكش في مقابلة خاصة. ولما عاد عبد الرحيم إلى بيت أسرته، روى محتوى اللقاء الذي دار بين الرجلين بالكلمات التالية: ـ سأل الملك الراحل مخاطبه«: إذن، عبد الرحيم، أنت غير حاقد علي« ـ أجابه عبد الرحيم أبداً يا جلالة الملك، لكنني أشعر بنوع من الأسف مع ذلك، وأتحسر على أنني لم أحظ بالوقت الكافي للانتهاء من كتابة مذكراتي…”..
كان الملك الراحل يبحث عن الغفران
وكان الفقيد يبحث عن فسحة لكتابة شهادته عن العصر الذي عاشه..
كان، كمن يريد أن يقول ستكون لي فرصة للحكي الموضوعي أكثر من العاطفة الفردية.
ستكون لي كلمة للتاريخ
وليس للغريزة…
في لحظات معينة من كتابة النص الوطني الكبير، كان بياض السرد يترك الباب مفتوحا على التأويل كله..
وقد جربت ذلك، عندما كنت أترجم الفصل المتعلق بالحوار بينه وبين الملك الراحل، في تلك اللحظة التي كانت البلاد تتهيأ للدخول في دائرة العواصف والزوابع..
كان القرار قد اتخذ بإقالة حكومة عبد لله إبراهيم وكان اللقاء بين ولي العهد والفقيد عبد الرحيم حول مشاركته، من عدمها. ووقتها رفض عبد الرحيم مشاركة بلا معنى وبدون وجود حزبه في التشكيلة.
الذي كان وقتها قد أثارني واقتسمته، حتى قبل نشره، مع أحد الوجوه السياسية والحقوقية المعروفة في بلادنا، هو المقطع التالي:
كان اللقاء قد انتهى عمليا، كنا نتمشى في الحديقة، وعندما استأذنته في توديعه، خاطبني بقوله:
ـ «أنت لا تفهمني، يا عبد الرحيم، لكن، باعتبارك صديقا سأقول لك (ما في الأمر): أنت لا ترى فيَّ سوى ولي العهد فقط، والحال أنني مناضل مثلك، وإنسان مثلك، يحدوني الطموح في لعب دور في حياة بلادي. أنت تعرف أن أبي مازال شابا، وأنا سوف لن أنتظر حتى أضع طقم أسنان لكي أخلفه، هو ذا عمق تفكيري».
لقد كان واضحا أن الملك يريد الحكم ولا يريد أن تسقط أسنان الراحل أب الأمة لكي يصل إلى ذلك..
و تفاصيل أخرى ستشدني إليها حقا، ولاسيما في الجزء المتعلق بترجمة أحاديثه مع الشهيد المهدي بن بركة حول المؤسسات الوطنية.
فقد كانا عائدين من زيارة صديق هو فرانسوا مورياك، وهما يتجاذبان أطراف الحديث، إلى أن كتب عبد الرحيم:
«وأخيرا، (قلت) إن أسوأ وضع يمكنه أن يحدث هو رحيل أو إبعاد محمد الخامس… لم أدرك ماهو السبب الذي دفعني إلى التعبير عن هذا الإحساس (الحدس) والحال أنني كنت في باريس، طيلة أيام عديدة، ولم أكن أعرف أن محمد الخامس سيخضع لعملية جراحية في اليوم ذاته. واصلنا طريقنا باتجاه باريس، وحوالي الساعة الخامسة والنصف أو السادسة مساء، أدار المهدي زر المذياع للاستماع إلى آخر الأخبار، وكان أول خبر يبث هو وفاة محمد الخامس، جراء عملية بسيطة، أجريت له في بداية زوال ذلك اليوم. خيم علينا الصمت وتسمرنا في أماكننا ثم، سألني المهدي بن بركة هل كنت على علم بأنه سيجري عملية جراحية، اليوم؟ أجبته: كلا! وبدأت صفحة جديدة في تاريخ بلادنا..»..
وما زلت أذكر أن مخاطبي سألني، عندما علم بما ترجمته:
– وهل ستنشرونه كما هو؟
قلت: وهل تعتقد بأن هناك من الأحياء من يستطيع أن يمارس الرقابة على كلام كتبه عبد الرحيم بوعبيد؟
ضحكنا، وما زلت أحتفظ في ذاكرتي بمسحة الدهشة والحيرة على وجهه.. وقد بلغني ما خامره من شك حول ردود فعل من كافة الطيف السياسي ومستويات السياسة في البلاد..