استهلال:

نعيش لحظات ولادة جديدة والحطام العربي بدأ بالتفكك

 

لم تكن البداية الحقيقية للمفكر طيب تيزيني في عالم الثقافة العربية قد حدثت بعد حصوله على دكتورا أولى في الفلسفة سنة 1967 وإصدار كتاب باللغة الألمانية سنة 1972 بعنوان “مقدمة في الفلسفة العربية الوسيطة” بعد ذلك وحصوله على دكتورا ثانية في العلوم الفلسفة سنة 1973 وإنما حينما طرح على العموم “مشروع رؤية جديدة للفكر العربي” وأعقبها باقتراح نظرية في التراث تهتم بقضية المنهج وأطلق عليها تسمية “من التراث إلى الثورة” وأبدع من خلالها قراءة غير معهودة لتاريخ الفكر العربي.

في الواقع لقد خاطر المفكر تيزيني بنفسه وبالفلسفة عندما بحث في التراث والفلسفة كنسقين معرفين ووضعهما جنبا إلى جنب وقام باستدعاء التراث إلى الحظيرة الفلسفية وتطبيق المناهج الفلسفية معاول نقدية في الموروث وجازف بالموقف الفكري للنخب بطرح قضية خلافية وعرضها على محك الجدل.

حينما اقترح الدكتور على المتابعين مشروع رؤية جديدة لقراءة الفكر احتاج إلى وضع نظرية في التراث العربي بغية الانتقال به من العصر الجاهلي إلى الحقبة المعاصرة وبالتالي المرور من التراث إلى الثورة.

لقد انطلق تيزيني من نظم العلاقة الجدلية على مستوى بنيوي ووظيفي بين الحدث الاجتماعي والمعطى التراثي والسياق التاريخي وركز على البعد التطوري الذي تقوم به الفعالية البشرية في احراز التقدم. بما أن التاريخي والتراثي كليهما يظلان، في كلا المستويين من القطيعة الوجودية النسبية والتواصل الوجودي، مشروطين بالاجتماعي ومنغمسين فيه بصيغة أو بأخرى… ذلك لأن الوجود الاجتماعي يمثل بالنسبة إلى جيل من البشر معطى سابقا عليه أسهم في تكوينه جيل أو أجيال أخرى سابقة عليه. هكذا تتجلى تاريخية الوجود الاجتماعي وتراثيته، وذلك بصيغتي التفاصل التاريخي والتواصل التراثي…”[1]

لكن ما هو موقف الفلسفة من التراث؟ وكيف يمكن النظر إلى التراث من موقع المنهج الفلسفي؟ ثم ما هي المنطلقات التي تحدد المعايير العامة والأساسية في عملية تمثل الموروث الفلسفي؟ كيف تم الانتقال من التاريخية إلى التراثية؟ ومن ضبط الصيغ الرئيسية والكبرى التي تتم فيها عملية التمثل الفلسفي؟ ولماذا يهتم تيزيني بنقد التراث؟ وضمن أي أفق يتحرك؟ وما هي التساؤلات التي يطرحها التراث على الفلسفة؟

ما يثير الانتباه ويدفع على الإعجاب هو الإهداء المرافق للجزء الأول وقال فيه: “هذا المشروع، مشروع عمري العلمي، أقدمه هدية لزوجتي التي ناضلت معي بصبر وفرح من أجل إخراجه في صيغته هذه…”[2]

لقد قام تيزيني باكرا بإثارة القضايا الخاصة بالفكر العربي الوسيط دون أن يزعم بلوغ أحكام تامة ونهائية وحرص على اعتماد منهجية نقدية ومقاربة متماسكة تحيط بالقضايا والمشاكل في أبعادها ومضاعفاتها وحاول استجلاء وحدة الفكر العربي منذ ظهور الإسلام إلى الزمن الراهن مبرزا الأبعاد الثورية والمناطق النيرة وأعاد النظر في التراث الفكري والحضاري العام وتقوية الكفاح العربي من أجل التحرر السياسي وذلك بربط الجسور بين الجوانب الثورية الحية في تراثنا والتحولات الخصبة في الفكر الثوري المعاصر.

لقد نبش تيزيني في الجذور المعرفية والتاريخية للفكر الفلسفي في بعديه المثالي والمادي وانتبه إلى نشوئه المعقد وصراعه المحتدم مع الأسطورة والسحر والطقوس وحاول استيعاب الواقع الطبيعي بالكف عن ادعاء التجاوز الوهمي للعالم المادي من خلال التجريد الذهني مع رصد مآل الميولات المادية للتقدم التقني وأقر بوجود العالم الموضوعي وانعكاسه في الوعي مميزا بين الهيمنة الاجتماعية والتطور التاريخي.

تتمثل خطة البحث في المقاربة النقدية الفلسفية للتراث العربي عند تيزيني في تحديد نطاق الفلسفة التي اشتغل بها مصطلحا ومنهجا في مرحلة أولى، والتركيز على حقل التراث من جهة التاريخ والتراثية في مرحلة ثانية، وبعد ذلك استخراج معالم المعالج النقدية التي قام بها للتراث، وفي الأخير ضبط رهاناتها.

(1) مفهوم الفلسفة:

“نحن حين نحاول دراسة الفكر الفلسفي المادي لدى الفلاسفة العرب الإسلاميين في العصر الوسيط في علاقاته الوثيقة قليلا أو كثيرا بالفكر الفلسفي اليوناني، فإننا لا نعمل على إقحامه… ولا تطويعه (في) عملية هجينة…، نحن نطمح هنا إلى أن نبحث تاريخ الفكر ذاك من خلال منظار جديد يؤكد على وحدة التاريخ الإنساني وعلى عملية النمو الذاتي لهذا التاريخ”[3]

لقد سعى تيزيني إلى معالجة علم تاريخ الفلسفة بالاعتماد على وجهة نظر علمية معمقة وذلك بالاستفادة من الأعمال التي ظهرت في شبابه وأنارت قطاع تاريخ الفلسفة بمقولات مضيئة أسست انتظاما منطقيا وشكلت أنساقا تجمع مختلف العلوم وتضم عدة مباحث وفق مفاهيم ناظمة وتصورات مشتركة. لقد استخدم تيزيني الفلسفة الماركسية المعدلة التي تضع المادية في مواجهة المثالية وطبق المنهج الجدلي المادي في قراءة الظواهر الفكرية وحاول قراءتها وفق الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي أنتجتها وتعامل مع الفلسفة العربية بوصفها إيديولوجيا الطبقات المسيطرة ووعيها بذاتها. لقد تتبع تيزيني شروط نشأة الفلسفة عند الإغريق أو العرب منطلقا من الوضع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي وبحث في ولادة النزعة المادية لديهم واهتمامهم بالطبيعة والذرة والمادة والجوهر. كما استعمل تيزيني مفهوم الفلسفة في حدود الحقل المعرفي الذي يشتمل على ثلاثة أنساق: نظرية المعرفة ونظرية الوجود ونظرية الممارسة أو الفعل الإنساني. ومن هذه المنطلقات يغدو ضروريا التساؤل عن كيفية تكونه وعن آفاقه وكيفية نفاذه في النسيج الثقافي الشعبي العام وانتقاله من التاريخية الى التراثية. إن الفلسفي حين يغدو بؤرة تمثل تراثي من قبل مجموعات محددة يجرى اختراقه واستخدام التأويل والتفسير والاجتهاد والترميز وقصد تحقيق حاجيات اجتماعية والتبني التاريخي والاستلهام التراث. لكن ما هو موقفنا نحن العرب المعاصرين من الفلسفة العربية الكلاسيكية والعالمية؟ ماذا نتبنى منها؟ وما الذي نعزله منها؟ وهل من شأن ذلك أن تغيب حدود المصداقية المعرفية لصالح المشروعية الايديولوجية؟

(2) مفهوم التراث (من جهة البنية والتكوين والوظيفة):

“إن مقولة التراث تمثل… وجها أول من آلية الفعل البشري المحدد بمقولة التقدم البشري. أما مقولة التاريخ فتمثل وجهَا آخر من هذه الآلية”[4]

لقد رأى في الموقف التراثي موقفا نقديا يشتغل بشكل جدلي ويفصح عن نفسه عبر عمليتين منهجيتين:

– السابق يفسر اللاحق: السابق هو مقدمات بعيدة وخفية تحقق تواصلا تاريخيا مع اللاحق وتتيح إمكانية فهمه وتفسيره.

– اللاحق يفسر السابق: اللاحق هو النقطة المرجعية التي تملي نفسها على المؤرخ وترشده الى نسق العودة إلى السابق.

بهذا المعنى “أن محاولة إعادة نظرة شاملة في مجموع تراثنا العربي- الإسلامي وفيما كتب حوله لا تعدو أن تكون التعبير العميق عن طموحنا المشروع في ايجاد ركائز متينة في عملية استيعابنا لهذا التراث وإحاطتنا بها إحاطة علمية، منطلقين في ذلك بالطبع من أعمق نتائج ومكتسبات العلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وعلوم تاريخ الدين واللغة والفن وغيرها”.[5] والحق أن قضية التراث عند طيب تيزيني ليست قضية هذا التراث نفسه بصورة منهجية معزولة ومحايدة وإنما قضية من يبحث في هذا التراث ضمن وضعية فكرية واجتماعية واقتصادية سياسية وذلك ضمن كيفية من البحث تحدد ضمن توجهات عامة وآفاق تأخذ بعين الاعتبار مسألة معرفية وأخرى إيديولوجية.

كما “أن التراث بأحد أبعاده هو كل حدث أو أثر أو إنتاج إنساني دخل الماضي وأصبح جزءا منه”، لكن هذا التحديد قد لا يكون كافيا لتغطية الجانب الرئيسي الحاسم من التراث. لقد قام تيزيني بالتمييز بين التراث والتاريخ بالرغم من كونهما يتضمنان عنصر الماضي ويقيمان جسورا بين الماضي والحاضر. إن التاريخ يبرز هنا باعتباره التاريخ- الماضي مستمرا وممتدا حتى الحاضر أي ببعده الثاني، بعد الحاضر.[6]

يبقى التاريخ عنده محتفظا بخصائصه السابقة بينما يمتد نطاق وجود التراث حتى الحاضر متداخلا فيه وكونا منه بعض جوانبه وسماته. ولا يتعلق الأمر بالمتاخمة فقط وإنما يتعداه الى خط التداخل والتشابك.

لقد ازال تيزيني التنائض الذي وجد بين المادية الجدلية التاريخية والنظرية التراثية واقترح نظرية في التراث فيها اغناء وتطوير للمادية التاريخية لأنها تحافظ على المعنى المتداول للتاريخ وتنحت مفهوم أكثر اتسعا وشمولية للتراث وتجعله مصدر الوحدة بين الماضي والحاضر عبر التداخل والتشابك وتعتبره ينطوي بلا شك على المستقبل ولكن ذلك يتم في إطار مغاير.[7] بهذا المعنى وضع تيزيني في استرجاعه للتراث قضية شروط بناء المستقبل ضمن ترابط بنيوي ووظيفي بين الحادث التاريخي والحادي الاجتماعي ومفهوم التراثية الذي يقوم بالأساس على الاستيعاب والترسب والتجاوز ضمن كل زمانية. ألم يكن تيزني وفيا لمقولة ماركس التي ترى بأن: “كل جيل جديد يجد نفسه أمام القوى المنتجة التي حصلها الجيل القديم، والتي تخدمه كمادة خام من أجل إنتاجه الجديد”؟ وكيف يساهم الفعل النقدي في تحويل العناصر السلبية من التراث الموجودة في الماضي إلى عناصر ايجابية مزروعة في المستقبل؟

(3) المعالجة النقدية (الجدلية المادية، الوعي التاريخي):

لقد قام تيزيني بكتابة ملاحظات حول مسألة تقويم جديد للتراث والدراسات التراثية مركزا على الملامح الأساسية للمجتمع ومتتبعا المسار التاريخي وما طرأ من تحولات في البنية الاجتماعية وفي معالم الحياة الفكرية وراصدا عوامل نشوء العلوم وتكون الفلسفة في بدايتها الأولى في المجتمع العربي الوسيط. لقد أخرج تيزيني من مواقع الفكر النقدي كل من النزعة السلفية ونزعة المعاصرة والنزعة التلفيقية والنزعة التحييدية وأدرجها ضمن مواقع الفكر اللاّتراثي وقام في المقابل بالربط بين التاريخ والتراث العربي كاشفا دور المركزية الأوروبية والنزعة الاستشراقية في بناء وعي زائف وإنتاج مقاربة مغلوطة.[8]

لقد قدم تيزيني الجدلية التاريخية التراثية من مواقع البديل من اجل تحديد بداية التاريخ العربي وحرص على نقد الواقع عن طريق الفكر العلمي من خلال الوضوح المنهجي والرؤية الموضوعية مع اعترافه بالاستقلالية النسبية للفكر وحاجة الوعي الاجتماعي إلى إيديولوجيا ووعي تاريخي بالحدث الاجتماعي.

لقد ارتكز البحث التاريخي والتراثي في الديني (الإسلامي من ضمنه) على طرفين: الباحث القارئ وموضوع البحث الذي يمثل التراث، ولكن الطرف الأول ليس محايدا ولا يقف متفرجا إزاء الطرف الآخر وإنما يضبط علاقة مع مجال دراسته ويجد نفسه أمام نص يوجه له خطابا ويثير فيه التفكير.

“إن رؤية تضايفية جدلية يكون القارئ والنص (الذات والموضوع) كلاهما فاعلين بمقتضاها، تقف على طرف نقيض مع تلك الرؤية الأخيرة الميكانيكية. فهي تبدأ حيث تنتهي تلك، وتتوقف حيث تبدأ هذه إياها”.[9] – لقد امتحن الاختيار التراثي ونظرية الأصالة والمعاصرة وراجع مصطلح مرحلة القومية المعاصرة وبقي وفيا للربط بين علم الاجتماع وعلم التاريخ وبين المادية الجدلية التاريخية والجدلية التاريخية التراثية.[10] لكن ما هي المآلات الثقافية والمكاسب الفكرية التي أدى إليها مشروع طيب تيزيني الحضاري؟

(4) تبعات ورهانات هذه المعالجة (الثورة- التنوير- الوحدة):

“إننا نكون أمام مهمات البحث في الإرهاصات الأولى للفكر الإسلامي العربي ممثلا في المحاولات الفكرية الأولى، التي قادت إلى بناء فكري متعاظم عمقا وسطحا والتي ربما كان “أهل الرأي والنظر” أول تعبيراتها أو واحدا من تعبيراتها النقدية الأولى”.[11]

إن انجاز موقف جديد يحقق تجادلا عميقا بين الإيديولوجيا والابستيمولوجيا على صعيد البحث التراثي في الموروث الفلسفي العربي يمثل أمرا ذا أهمية خاصة على صعيد المهمات العلمية المطروحة أمام الباحثين العرب ذوي التوجه الناهض والطامح إلى تحقيق ما أخفته النهضة العربية البرجوازية الحديثة ولكن عبر أدوات معرفية أكثر دقة ومن مواقع إستراتيجية اجتماعية تستجيب لاحتياجات التقدم والوحدة والحرية.

لقد حدد الكندي مواطن الإتباع والإبداع ولحظات التقليد والتجديد ورأى في مصادرة الخلق من عدم والعلاقة الشرطية بين الزمان والحركة والجسم بداية متميزة للفكر الفلسفي العربي اختلف فيها الكندي عن مصادرة الصنع والتركيب بالانطلاق من أشياء موجودة وبدل ربط الحركة بالزمان كما هو عند الإغريق.

لقد وضع تشكل المذهب الذري في الفكر العربي ضمن إطار النص المرجعي للإيمان ونزل آراء الفلاسفة العرب على غرار الكندي والفارابي وابن سينا ضمن الفلسفة الإغريقية عند أفلاطون وأرسطو وأفلوطين.

لقد وضع الفارابي الإرهاصات الأولى للفلسفة المادية حينما حاول تجاوز الثنائية بين الإله والعالم وشكك في مسلمة الخلق من عدم وتمهيده الذكي لابن سينا الذي فجر ثورة عارمة بتجاوزه ثنائية مادة وصورة واله عالم ولما قام بإعادة تشكيل مفهوم أرسطي للمادة والعلاقة بين الوجود والماهية وبين الجسم والنفس.

إذا كان الغزالي في المشرق مارس الإرهاب الفكري بتشييده الرمزية الفلسفية فإن ابن طفيل في المغرب قد استفاد من الهرطقات المادية لابن سينا في المجال العلمي ومثل امتداد طبيعيا له بتثبيته مسالة قدم العالم.

بعد ذلك بلغ ابن رشد حسب تيزيني قمة الفكر المادي العقلاني حينما ساهم في القضاء ثنائية العالم والإله وقوله بالسببية الطبيعية ووحدة الوجود والحرية الإنسانية ولقد سار ابن خلدون على دربه حينما صاغ مفهوم الوجود الاجتماعي المادي لأول مرة وبلور قراءة واقعية للتاريخ. لقد ساعدت هذه النزعة العقلانية المقريزي على وضع خطوط أساسية في سبيل الإحاطة بالمجتمع الإنساني على نحو تاريخي علمي.

لقد جعل من الجدلية التاريخية التراثية مقدمة ضرورية للثورة التراثية وكانت الثورة الاجتماعية شرطها الموضوعي والثورة الثقافية شرطها الذاتي ومثلت الثورة التراثية بؤرة الثورة الاجتماعية والثورة الثقافية.

خاتمة:

“نود القول بصيغة أخرى، أن الحقيقة في البحث التراثي، كما في البحث العلمي عموما، هي كذلك، أي حقيقة، ليس لأنها نافعة، وإنما هي، على العكس من ذلك نافعة، لأنها حقيقية”[12]

غاية المراد أن الدكتور تيزيني قد جمع بين جاذبية المنهج وراهنية التطبيق وبحث في المحاور الفكرية الكبرى ورجع إلى زمن الإسلام الباكر معتبرا النص القرآني – الحديثي أصلا والفكر الإسلامي فرعا ومارس الاجتهاد والتأويل والحوار وقام بمساءلة التاريخي التراثي في مهاده الأول عبر جدلية التواصل.

لقد كشف عن الأسس المعرفية الأولية للفرق والمذاهب الكلامية في الدائرة الإسلامية العربية وعول على المنظومات الفلسفية والمناهج السوسيولوجية في سبيل تحليل الظاهرات الذهنية والبنى المعنوية المتعالية.

لقد حاول تيزيني أن يكون التأسيس الابستيمولوجي على أرضية فكر جديد وليس بالاعتماد على آليات فكر قديم وكانت إشكاليته التراثية حافزا للفكر الإسلامي لكي يتمرد على الصور التاريخية والتناولات النمطية ويتحرر من النظريات اللاّتاريخية واللاّعقلانية والتي تزعم القطيعة وتريد الانطلاق من موقع الصفر الاطلاقي الذي لا وجود له وتحاول انتزاع النص القرآني من مهاده التاريخي ومن خصوصيته التراثية.

لقد آمن تيزيني بالتعددية المنهجية على المستوى النظري والتطبيقي ورفض كل مصادرة للحق ودعاوي امتلاك الحقيقة وفي مستوى ثان اعتبر اعتماد المنهج الجدلي المادي ضرورة موضوعية لا فكاك منها.

لقد قادته قراءته الجدلية المادية للفكر العربي الاسلامي الى تأكيد المنعطف النوعي لهذا الفكر في تاريخ الفكر البشري من خلال التطور الذي نتج عن العلاقة الجدلية الصراعية بين مظهريه المثالي والمادي. لقد اعتبر المركزية الأوربية التي تجاهلت دور العرب والمسلمين في صناعة الحضارة الكونية وآثرت المرور مباشرة عبر قفزة لا تاريخية من الإغريق والرومان إلى عقل اللاّتين وحداثة أوروبا وثقافة الغرب.

لقد أعاد الاعتبار إلى المرحلة العربية والشرقية التي سبقت ظهور الإسلام وتعامل معها بوصفها مرحلة جنينية حاسمة أدت إلى تفجر حضاري وانتشار عالمي وعمل على قراءة نشوء حركات الإسلام السياسي على ضوء التحليل الاجتماعي والظروف الاقتصادية ونبه من خطر السلفية ودعم خيار الثورة والتنوير. لقد أعلن التحليل المادي للتراث العربي الإسلامي ثورة على النظرة التقليدية للتراث وفي وجه التناول الميتافيزيقي للتاريخ وعلى الحكم المسبق الذي صدر عن علماء الاستشراق من أجل خدمة الاستعمار.

اللافت للنظر أن تحولا في المنظور قد طرأ على مواقف تيزيني بخصوص الدور الموكول إلى العامل الديني في الاستفاقة الثورية للشعوب، فقد صار يؤمن في الآونة الأخيرة بإمكانية التعويل على الإيمان الديني بوصفه حاملا للمشروع الثوري والمراهنة على قدرته في التعبئة وبلورة المشروع الديمقراطي.

لقد صار لزوما على الباحثين حسب تيزيني دراسة الإيمان الديني بما أن الحامل الأساسي للمشروع النهضوي هم جمهور المسلمين وبرر ذلك بأن الرافع المركزي لمقولة التغيير الاجتماعي تعيش نسبة كبيرة من أفرادها في تبعية للمعتقدات وتنظر إلى الماضي بعيون الإعجاب وتستلهم منه القوة والصمود.

بهذا المعنى يظل مشروع قيام نهضة عربية شاملة تعيد لها الأمجاد الحضارية الاسلامية وفق الرؤية المعاصرة أمرا مؤجلا ما لم يتم الدخول الى الروح الايماني ويعاد قراءة الموروث الديني بشكل علمي.

“سوف يستبين لنا لا حقا بوضوح أكثر أن الراهن (العربي في مقتضياته وموجباته وآفاقه الموضوعية والذاتية أي في حركته الداخلي بكل أشكالها وتوقعاتها) يشكل من حيث الأساس المنطلق الحقيقي لاستيعاب وتعميق العلاقة بين التراث والأصالة والمعاصرة. ولكن يستبين لنا كذلك أن المنهجية القادرة على انجاز هذا الأمر هي تلك التي ترفض دفعة واحدة وعبر وعي تاريخي تراثي علمي عميق بمسؤولية ما تفعله كل تلك النزعات اللاتاريخية (من السلفية، إلى المعاصرة في منحاها التراثي العدمي، والتلفيقية، مرورا بالتحييدية، فالمركزية الأوروبية…) لنقيم مكانها جميعا رؤية تأخذ التاريخ والتراث والراهن العربي في قانونية تحركهم الذاتي، ملحة في سياق ذلك على أن العلاقة بين تلك الأطراف من جهة والطموح نحو عصرية شاملة من جهة أخرى، يحكمها قانون العلاقة بين الداخل والخارج”.[13] لكن هل نجحت محاولة تيزيني في قراءة التراث من زاوية الثورة من أجل امتلاك الرؤية وبناء المشروع هي تجاوز لإشكالية النهضة المتعثرة؟[14] ألم يقل ما لم يقله بصورة منهجية كل من العروي والعلوي وعبد الملك وعمارة؟ ألا تشكل تطبيقاته الفلسفية صورا تاريخية مسقطة؟ كيف أكمل سلسلته بمنهج مسقط؟

(***)

الإحالات والهوامش:
[1] تيزيني (طيب)، فيما بين الفلسفة والتراث، الفصل الخامس عشر، أنظر كتاب الفلسفة العربية المعاصرة، مواقف ودراسات، بحوث المؤتمر الفلسفي العربي الثاني، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1988، ص 403.
[2] تيزيني (طيب)، من التراث إلى الثورة، مشروع رؤية جديدة لفكر العربي، الجزء الأول، دار ابن خلدون، بيروت، لبنان، طبعة أولى، 1967، صفحة أخيرة، ص 382.
[3] تيزيني (طيب)، من التراث إلى الثورة، مشروع رؤية جديدة لفكر العربي، الجزء الأول، دار ابن خلدون، بيروت، لبنان، طبعة أولى، 1967، صفحة أخيرة، ص 382.
[4] تيزيني (طيب)، فيما بين الفلسفة والتراث، الفصل الخامس عشر، أنظر كتاب الفلسفة العربية المعاصرة، مواقف ودراسات، بحوث المؤتمر الفلسفي العربي الثاني، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1988، من صفحة 401 إلى صفحة 411.
[5] تيزيني (طيب)، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط، المرحلة الأولى، دار دمشق للطباعة والنشر، طبعة أولى، 1971، صص 126- 127.
[6] أنظر تيزيني (طيب)، من التراث إلى الثورة، مشروع رؤية جديدة لفكر العربي، الجزء الأول، دار ابن خلدون، بيروت، لبنان، طبعة أولى، 1967، صص 242- 243.
[7] أنظر تيزيني (طيب)، من التراث إلى الثورة، مشروع رؤية جديدة لفكر العربي، الجزء الأول، ص255.
[8] أنظر تيزيني (طيب)، من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي، بحث في القراءة الجابرية للفكر العربي وآفاقها التاريخية،، دار الذاكرة ودار المجد، دمشق، سورية، 1996.
[9] تيزيني (طيب)، النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، الجزء الخامس، من مشروع رؤية جديدة للفكر العربي من بواكيره حتى المرحلة المعاصرة، دار الينابيع، دمشق، سورية، طبعة 1997، ص62.
[10] تيزيني (طيب)، من التراث إلى الثورة، مشروع رؤية جديدة لفكر العربي، الجزء الأول، مصدر مذكور، ص275
[11] تيزيني (طيب)، النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، مصدر مذكور، ص441.
[12] تيزيني (طيب)، من التراث إلى الثورة، مشروع رؤية جديدة لفكر العربي، الجزء الأول، ص07.
[13] تيزيني (طيب)، من التراث إلى الثورة، مشروع رؤية جديدة لفكر العربي، الجزء الأول، ص153
[14] (السيد) رضوان، مقال: طيب تيزيني بين جاذبية المنهج ومزالق التطبيق. مجلة الفكر العربي، العدد الأول، السنة الأولى، حزيران 1978، معهد الإنماء العربي، بيروت. من صفحة192 إلى صفحة 198.
*****
المصادر والمراجع:
تيزيني (طيب)، من التراث إلى الثورة، مشروع رؤية جديدة لفكر العربي، الجزء الأول، دار ابن خلدون، بيروت، لبنان، طبعة أولى، 1967،
تيزيني (طيب)، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط، المرحلة الأولى، دار دمشق للطباعة والنشر، طبعة أولى، 1971،
تيزيني (طيب)، من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي، بحث في القراءة الجابرية للفكر العربي وآفاقها التاريخية،، دار الذاكرة ودار المجد، دمشق، سورية، طبعة أولى، 1996.
تيزيني (طيب)، النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، الجزء الخامس، من مشروع رؤية جديدة للفكر العربي من بواكيره حتى المرحلة المعاصرة، دار الينابيع، دمشق، سورية، طبعة 1997،
كتاب الفلسفة العربية المعاصرة، مواقف ودراسات، بحوث المؤتمر الفلسفي العربي الثاني، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1988،
مجلة الفكر العربي، العدد الأول، السنة الأولى، حزيران 1978، معهد الإنماء العربي، بيروت. أنظر مقال رضوان السيد، طيب تيزيني بين جاذبية المنهج ومزالق التطبيق. من صفحة192 إلى صفحة 198.

 

الثلاثاء 09 يناير 2018./ 21 ربيع الثاني 1439 .هج

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …