أَبْدَتِ القوى الشعبيّةُ العربيّة بعضَ الصحوة من حال السبات المديد الذي استبدّ بها منذ عقدٍ ونصف العقد، وذلك بمناسبة تظاهرات الاحتجاج ومسيراتِه واعتصاماته ردّاً على قرار ترامب بنقل سفارة بلاده من تلّ أبيب المحتلّة إلى القدس المحتلّة. حيثما أمكن الناسَ أن يخرجوا ويتظاهروا، من دون منْعٍ من السلطات أو تقييد، خرجوا يجوبون شوارع المدن والعواصم العربيَّة، أو يحتشدون في الساحات العامّة، أو يعتصمون أمام السفارات الأمريكيّة.
لأيّامٍ عشنا مشهداً قريباً من مشهد «الربيع العربيّ» في أسابيعه الأولى الرائعة، حين لم يكن قد بدأ، بعدُ، حَرْفُه عن خطّه المدنيّ السلميّ. ولكنّه، هذه المرّة، ربيعٌ عربيٌّ آخرُ مختلف: من أجل فلسطين التي تسكن العقل والوجدان الجمعيَّين، والتي لم تَقْوَ الجراحة السياسيّة العربيّة الرسميّة المديدة على استئصالها من النفس والذاكرة، من أجل فلسطين التي تجْمَع وتوحِّد لا من أجل السلطة والثروة التي تفرِّق وتمزِّق.
ما كنّا ننتظر من معظم النظام الرسميّ العربيّ أن يكون أداؤُهُ، في هذه «النازلة»، في مستوى أداء شارعه، وما انتظرنا منه أن يطرح على نفسه جدولَ أعمالٍ فعّالاً، فلقد ولّى الزمن الذي كانت فيه الأنظمةُ العربيّة ملتزمةً مواقف شعوبها في قضيّة فلسطين، وفي مواجهة المشروع «الإسرائيلي»، فكانت تمارس واجبَها السياسيّ الوطنيّ والقوميّ في قتال «إسرائيل»، أو في قطع العلاقات الدبلوماسيّة بالولايات المتحدة، أو في دعم المقاومة بالسلاح ومنظمة التحرير بالمال.. إلخ. ذلك زمنٌ ولَّى، وتلك سياسات انصرمت وما عاد ممكناً إحياؤها مع نخبٍ أخرى مختلفة تماماً. ومع ذلك، مع يأسنا من أن تُفْرِج السياسة الرسميّة العربيّة عن مواقف بحجم الصفعة الأمريكيّة، كان بعضُ الأمل يخامرنا في أن نرى أحداً يخطو خطوةً أكبر فيستدعي سفيره من واشنطن للتشاور، أو أن نرى قمّةً عربيّة عاجلة تُعْقَد وتعلن فيها الدول العربيّة أنّ صفحةَ التسوية طُوِيَتْ، وأنّها ستتقدم من مجلس الأمن بطلب نقل «الرعاية» من واشنطن إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن ضمن نطاق مؤتمرٍ دوليّ.
ولكن، لماذا ترانا نتأفّف من السياسة الرسميّة العربيّة ونَقْدَح في عجزها وشللها وفي تحلُّلِها من أيِّ التزامٍ عربيّ جامع، فيما سياساتُ المعظِم الأعمّ من أحزابنا ونقاباتنا وجمعيات «مجتمعنا المدنيّ» سادرةٌ في الغياب، ومهجوسةٌ بقضايا أخرى ليست منها فلسطين ومقاومة «إسرائيل»؟
لماذا نختزل العجز العربيّ في تخاذُل معظم النظام الرسميّ العربيّ وتهافُت سياساته، فلا نرى الوجه الثاني من المشهد الكالح، وجه القوى والمؤسّسات الشعبيّة الغارقة في سلبيّتها ولا مبالاتها تجاه ما يجري على ساحة فلسطين، وكأنّ شيئاً من فصول هذه المأساة لا يعنيها ولا يقع على أرضها!
هذه ملاحظةٌ نقديّة على الأحزاب والقوى السياسيّة وقوى «المجتمع المدنيّ» وعلى «الشارع» أيضاً، فهذه جميعُها – إلاّ مَن رحِمَ ربُّك – في حكم المتحلّلة، اليوم بل منذ زمن، من أيّ التزامٍ وطنيّ وقوميّ بقضيّة فلسطين والنضال ضدّ الاحتلال، وضدّ التطبيع الجاري – مع «إسرائيل»، وبالتالي، فالقوى الحزبيّة والمدنيّة والشعبيّة هذه – مثلها مثل قوى النظام الرسميّ العربيّ- تؤدّي، بتقاعُسها وسلبيّتها، دور العامل المساعد للسياسات الأمريكيّة و«الإسرائيلية» ضدّ شعب فلسطين وقضيته الوطنيّة!
لا نرجم بالأحكام السلبيّة، الواقع ناطقٌ بالحقائقِ المخيفة: لم تعد قضية فلسطين وقضايا الصراع العربيّ – «الإسرائيلي» تحتلّ مكاناً في اهتمامات معظم الأحزاب العربيّة وعملها ما خلا في ساحات عربيّة قليلة، وأكثر نشاطها في هذا الباب موسميّ، وربما من باب رفع العتب. والنقابات العماليّة التي كانت – إلى بداية التسعينات- قوّةً تعبويّةً هائلة من أجل فلسطين، ومركزَ الحَرَاك النضاليّ، اختفت من المشهد تماماً، ولم يبق منها سوى «الاتحاد العماليّ العامّ» في تونس مرابطاً في ميادين التضامن. ولقد تحرَّك الشباب وجمعيّاته المدنيّة في موجةٍ من الاحتجاجات والانتفاضة، في نطاق ما عُرِف باسم «الربيع العربيّ»، شارك فيها مئات الآلاف، وربّما ملايين، لكنّ قضيّة فلسطين والنضال ضدّ «إسرائيل» لم تكن على جدول أعمالها ولا من شعاراتها. أمّا الجمهور فَجُهِّل واسْتُلِب ودُفِع إلى السلبيّة المطلقة حتى لم يعد له من همٍّ ولا يجمعه في حشود إلاّ ملاعب كرة القدم، أو التفرُّج على مباريات نادي برشلونة وريال مدريد وقضاء الساعات الطوال أمام القنوات الرياضيّة!
وكما سيكون على معظم النظام الرسميّ العربيّ مراجعة سياساته التي ستغرِّم الأمن القوميّ كثيراً، وتبدِّد الحقوق العربيّة والفلسطينيّة، وتُحْدِث شرخاً في شرعيّته، وربّما تقود إلى موجاتٍ من العنف المسلّح جديدة، كذلك سيكون على الأحزاب والنقابات والقوى المدنيّة والشعبيّة أن تعيد النظر في سياسات اللا مبالاة والسلبيّة، عساها أن تستطيع ضخّ الحياة في جسمها التنظيميّ والاجتماعيّ من جديد، وتكسب لنفسها موارد شرعيةً جديدةً.