8 يناير 1992 وفاة القائد السياسي المحنك عبد الرحيم بوعبيد، الإنسان الذي جمع بين الوطنية المتفتحة والاشتراكية الديمقراطية، ازداد بوعبيد سنة 1920 بسلا، تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي بالرباط، شغل أول وظيفة مؤقتة سنة 1933 في وزارة المالية، حصل على شهادة البروفي سنة 1938، بدأ حياته معلما في التعليم الابتدائي بفاس، كانت أول محطة للانخراط السياسي الوطني لعبد الرحيم في العاصمة العلمية، حصل على شهادة الباكالوريا سنة 1941، كان أول لقاء لعبد الرحيم بوعبيد مع المهدي بنبركة سنة 1942، وكان أصغر الموقعين على وثيقة الاستقلال سنة 1944، كما كان أصغر معتقل يتم الحكم عليه بالمنفى،
يقول بوبكر القادري : إنه طلب من بوعبيد أن يقود أول تظاهرة بمدينة سلا للمطالبة بالاستقلال، ويضيف القادري أن بوعبيد نزل بنفسه إلى شوارع وأزقة المدينة يطلب من التجار والحرفيين إغلاق أبواب متاجرهم والتوجه إلى المسجد، وداخل المسجد قام عبد الرحيم بتوزيع نسخ من القرآن الكريم على الحضور وخطب فيهم لتنطلق المظاهرة على قراءة اللطيف، وسيتم اعتقاله يوم 29 يناير 1944 من طرف سلطات الحماية الفرنسية على إثر الأحداث الدامية التي عرفتها سلا، وبعد قضائه سنة ونصف في سجون سلا والعادر واغبيلة ثم السجن الفلاحي، نجا بأعجوبة من حبل المشنقة، بعد اتهامه بقتل جندي فرنسي أثناء قيادته المظاهرة بسلا..
كان عبد الرحيم من المؤسسين لحزب الاستقلال، وأصبح من أصغر أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب، وأصبح مديرا للحزب لفترة معينة، في سنة 1946 التحق بالعاصمة الفرنسية لمتابعة دراسته، وفي تلك الفترة كان يمثل الحركة الوطنية بفرنسا، وكان رئيسا للوفد الوطني لدى الامم المتحدة بباريس، ويحكي الصحافي عبد الله ستوكي أن والده طالما تحدث بإعجاب عن عبد الرحيم الذي كان يبهر الفرنسيين بمواقفه السياسية واللغة الفرنسية التي يخاطب بها الفرنسيين ..
ما بين 1948 و1949, عاد إلى المغرب ليمارس مهنة المحاماة، ثم ساهم في تنظيم الحركة النقابية بالمغرب، وللتذكير فإن عبد الرحيم هو من اتخذ مبادرة القيام بإضراب عام بالمغرب تضامنا مع الطبقة العاملة في تونس على إثر اغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد، وتعرض للاعتقال بعد الأحداث الدامية ونفي ثم نقل إلى سجن اغبيلة سنة 1953..
تحمل عبد الرحيم مسؤولية إدارة جريدة “الاستقلال” الأسبوعية الناطقة بالفرنسية، وكان يذهب إلى مقر الجريدة راكبا دراجة نارية، كان عبد الرحيم صلة الوصل بين الحركة الوطنية والديوان الملكي خلال فترة الاصطدام مع سلطات الحماية، بحيث كان يدرس النصوص والمشاريع التي كانت تهيئها الحماية، ويضمن التنسيق بين الحركة الوطنية والمغفور له محمد الخامس حول الموقف الواجب اتخاذه، كما كان يرافق الأمير الحسن وهو مختبئ داخل صندوق السيارة الخاصة للأمير من أجل الذهاب إلى القصر من دون إثارة شكوك رجال المخابرات الفرنسية المرابطة حول القصر، للمشاركة في تحرير المذكرة المغربية للرد على الرسالة الفرنسية، التي أكدت عدم وجود أي نية في تغيير نظام الحماية المفروض على المغرب..
كان عبد الرحيم مستشارا لمحمد الخامس في البلاغ الفرنسي المغربي حول الاعلان عن الاستقلال، كان أول خلاف بين عبدالرحيم والأمير مولاي الحسن – آنذاك – سنة 1956 عند تأسيس الجيش المغربي الذي اعتمد فيه الأمير كثيرا على الضباط الذين عملوا في الجيش الفرنسي، وتم إقصاء الوطنيين الحقيقيين..
تولى في أكتوبر 1956 منصب وزير الاقتصاد الوطني والمالي في حكومة مبارك البكاي الثانية، واستمر في حكومة أحمد بلافريج .. وفي 22 أكتوبر 1958 ألقى عبد الرحيم محاضرة بالدارالبيضاء كان موضوعها سنتان ونصف بعد الاستقلال، تحدث فيها عن سياسة الحزب والمشاكل الطارئة والدعاية المسمومة والثقة بالنفس والتحرر من الادماج في الاقتصاد الفرنسي، وتطهير الجهاز الإداري من العناصر الأجنبية وتكوين الأطر المغربية وتحدث عن المؤامرات والدسائس المحاكة ضد المغرب .. و بعد شهر أي في 22 نونبر قدم استقالته من الحكومة، احتجاجا على وجود قوى خفية مشبوهة تدبر الفتن المصطنعة..
وبعد تشكيل حكومة عبد الله ابراهيم في 24 دجنبر 1958 تحمل عبدالرحيم بوعبيد مسؤولية وزير الاقتصاد ونائب رئيس الحكومة، سيوقع اتفاقية مع الشركة الايطالية للبترول تتعهد فيه الشركة بإنشاء معمل لتكرير البترول في المغرب، وقام بتأسيس بنك المغرب لإصدار العملة المغربية، لم يرغب عبد الرحيم الإستجابة لمطالب متكرر للأمير الحسن ولي العهد أنذاك، لتدبير احتياجاته المالية الكثيرة، وكان يرد عليه أنت لديك لائحة مدنية، أما أنا فيجب أن أحقق احتياجات شعب بأكمله، كما أنه رفض الميزانية المقدمة من طرف الجيش والدرك والداخلية، وفي 17 أكتوبر 1959 عبدالرحيم يشرح التدابير الاقتصادية المغربية التي لم تعجب العناصر التي كانت تضع العصا في عجلة الحكومة، وفي ماي 1960 انتهت كل علاقة لعبدالرحيم بالمسؤولية الحكومية، بعد تعيين الأمير الحسن رئيسا للحكومة، وسيرفض الإنضمام إليها، رغم أن محمد الخامس عرض عليه ذلك.
يقول عبد الرحيم بوعبيد: “… في ظرف أربعة سنوات أي ما بين سنة 1955 وسنة 1959، استطعنا أن نعطي الاقتصاد المغربي، الذي كان منذمجا تماما في الاقتصاد الفرنسي، طابعا واتجاها خاصا، لقد أخرجناه من نظام الوثيقة الاستقلالية.
في ماي 1963 تحدث بوعبيد خلال اجتماع اللجنة الادارية للحزب قائلا: ” الحكم القائم رجعي يتعاون مع الخونة والاقطاع والاستعمار، وتحدث لمجلة “جون أفريك” في نفس السنة رفقة المهدي بنبركة وجاء في تصريحهما، هذا الحكم هو حكم فردي مطلق…”
عبد الرحيم بوعبيد كان يريد مخاطبة الملك الراحل الحسن الثاني جماهيريا، حول تزوير الانتخابات، منها خطبته النارية المشهورة، حيث تم تزوير النتائج في دائرة أكادير لفائدة الدكتور رمزي لإسقاط الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي.
كان عبد الرحيم القائد الاتحادي، مناضلا صلبا متشبعا بأخلاق الحوار والتسامح، واعيا كل الوعي بأن الطريق شاق وطويل، وكثيرا ما كان ينبه إخوانه في الحزب بأن الحماس والعزلة لا يكفيان لبلوغ الغاية المنشودة، فلا بد من الصبر والتحمل وطول النفس.
سيطلب الملك الراحل الحسن الثاني من عبد الرحيم بوعبيد مرافقته إلى “قمة نيروبي”، وكان عبد الرحيم يحس أن الملك سيطلب الاستفتاء في الصحراء، فقد اعتذر وأرسل مكانه عبد الواحد الراضي،
وعلى إثر الموقف الذي اتخذه مؤتمر “نيروبي”، أصدر المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بلاغا، يحدد فيه رأي الحزب من قضية الصحراء المغربية، حيث أعرب من خلاله عن الموقف المعارض لفكرة الاستفتاء في الصحراء، وأكد فيه الحزب أنه ينبغي العودة إلى الأمة عن طريق الاستفتاء فيما يخص السيادة الترابية، مما أثار غضب الملك، فتم اعتقال أعضاء المكتب السياسي للاتحاد وعلى رأسهم عبد الرحيم بوعبيد، ومحاكمتهم .. في نفس السنة كان الراحل الحسن الثاني ألقى خطابه الشهير في 9 أكتوبر 1981، الذي هدد فيه البرلمانيين الاتحاديين، وفي تلك اليلة تم تنقيل عبد الرحيم بوعبيد وأعضاء المكتب السياسي المعتقلين من سجن الرباط إلى ميسور حتى تنقطع صلاتهم بالبرلمانيين.
بعد خروجه من السجن واصل مهامه كقائد مسؤول على رأس حزب القوات الشعبية، حيث في سنة 1991 وجه رفقة امحمد بوستة مذكرة مهمة وتاريخية إلى الملك الراحل الحسن الثاني من بين ما نصت عليه الاصلاحات الدستورية ، وفي نفس السنة حضر آخر اجتماع للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي، ومن بين ما قاله في هذا الاجتماع:
“أنا على يقين بأن المهام التي رسمناها لأنفسنا إما في الدفاع عن حوزة بلادنا أو في عمل الاصلاح الجذري.. “
ثم ألقى وصيته التاريخية أمام أعضاء اللجنة المركزية قائلا:
“أنتم تعلمون وكلنا يجب أن نعلم أن الاضطلاع بهذه المهام يتطلب منا الصبر، لأن الأمر ليس سهلا، كما يتصور البعض، بل يحتاج كفاحنا إلى مزيد من التبصر وبعد النظر، وإلى شعور دائم بأن لنا في هذه البلاد رسالة نريد أن نؤديها على أحسن وجه وأن نمهد الطريق للأجيال الصاعدة إننا نشعر بالإطمئنان على ما قمنا به من أجل الوطن، وإن كان ليس هو الكمال، ومع ذلك نعتبر بأن ما أسديناه من عمل متواصل يتجه إلى الشعب وإلى المصلحة العامة”.
وفي نفس السنة سيلتقي عبد الرحيم بوعبيد بالمكتب الوطني للشبيبة الاتحادية عشرة أيام قبل رحيله، حيث خاطب الشباب قائلا: “لقد قدت سفينة الاتحاد وما قمت به صدر من القلب والفؤاد واليوم أوصيكم بحزبكم الذي هو أمانة في عنقكم …”