من المحزن أن يظل مغرب القرن الواحد والعشرين، الذي مضى على استقلاله أزيد من نصف قرن، مع ما حققه من تطور سياسي وتنموي، يشهد تساقط الأرواح البشرية بالجملة، ليس فقط نتيجة ارتفاع معدلات الانتحار والجريمة وحوادث السير، وإنما أيضا بسبب شدة البرد والتدافع على مساعدات غذائية ملغومة والاختناق في مناجم الفحم، جراء سياسات الارتجال والقرارات العشوائية، بعيدا عن الرؤية الاستشرافية المستقبلية والتخطيط الاستراتيجي المثمر. في ظل عبث المتعاقبين على تدبير الشأن العام بقضايا المواطنين والاكتفاء باستنساخ التجارب الخائبة، التي تستنزف الخزينة العامة بلا طائل، بدل ابتكار أساليب حديثة، تخرج البلاد والعباد من دوامة الفقر والأمية والبطالة والأمراض والتشرد…
فسيرا على نهج سابقيه في مواجهة الآفات الاجتماعية، لاسيما خلال فصل الشتاء، حيث انخفاض درجة الحرارة إلى أدنى المقاييس بفعل تساقط الثلوج والأمطار واشتداد البرد، أبى العثماني إلا أن يلجأ بدوره إلى الحلول الترقيعية والحملات الموسمية الصورية، ويهدي المشردين “كيكة” السنة الميلادية الجديدة 2018، في ذات اليوم الذي شرعت شرطة المرور في تغريم الراجلين المخالفين لقانون السير بمبلغ 25 درهما، عند عبور الطريق خارج المسالك الخاصة والشبه منعدمة. كيف لا وهو المنتشي بما تحقق له من “مجد” في سنة 2017 المشرفة على نهايتها، إذ عين خلالها رئيسا للحكومة، وفاز على غريمه بنكيران وصحبه بالأمانة العامة لأكبر حزب سياسي يقود الحكومة لولايتين متتاليتين؟ ألا يستحق سيادته لقب “رجل السنة” بامتياز؟
فكيف ذلك؟ لقد صرح أثناء افتتاحه للمجلس الحكومي المنعقد صباح يوم الخميس 14 دجنبر 2017 باتخاذه مجموعة من التدابير الهادفة إلى التخفيف من آثار البرد والصقيع، تتصدرها حملة واسعة لإحصاء المشردين بجميع مناطق المغرب من لدن السلطات المحلية، وعزم حكومته على إيوائهم في أماكن آمنة ودافئة، وتشكيل لجن بعدد من الأقاليم خاصة في المناطق الجبلية والقرى النائية، لفتح الطرق والمسالك المغلقة وفك العزلة عن الدواوير المحاصرة بالثلوج، وتوزيع مؤن غذائية وأغطية على الأسر المعوزة والمشردين، وفق خطة وطنية تروم حمايتهم وتفادي المزيد من الفواجع.
كان من الممكن استحسان هذه المبادرة، والتصفيق لها بحرارة في هذا الصقيع السياسي الذي يشل بلادنا، لو أنها جاءت فعلا بحلول واقعية وجذرية، تنهي المآسي الإنسانية المتواترة وترفع المعاناة عن المعوزين والمشردين. لكن يبدو أنها لن تختلف كثيرا عن سابقاتها من المبادرات، التي لا تخلف وراءها أثرا إيجابيا على الفئات المستهدفة. فما جدوى الاستمرار في استعمال مسكنات “جنيسة”، يعلم الجميع عدم نجاعتها في القضاء على الأمراض المستعصية، التي تحتاج إلى عمليات جراحية دقيقة؟ فظاهرة التشرد أعمق من أن تعالجها “المراهم”، إذ سبق أن وضعت برامج و”خطط” وطنية أخرى في الأعوام السالفة، لمحاولة إعادة إدماج عدد من الأشخاص بدون مأوى، من خلال إيوائهم في مراكز الرعاية الاجتماعية، وتقديم مساعدات مالية وعينية لهم وتسوية المشاكل العائلية لبعضهم، غير أنها لم تأت بما كان متوخى منها. ترى أين نحن من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي أعطى انطلاقتها الملك محمد السادس في ماي 2005، لمحاربة الفقر والهشاشة والإقصاء الاجتماعي، من خلال دعم البنيات التحتية وإنجاز مشاريع تنموية…؟ وأي صلاحية للصناديق السوداء والملونة بجميع ألوان الطيف، التي تضخ فيها سنويا ملايين السنتيمات من أموال دافعي الضرائب، دون أن يعلم أحد بأوجه صرفها؟ وأين هي الشفافية والحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة ومكافحة الفساد…. وكل ما أتى به الدستور من مقتضيات وقوانين للنهوض بأوضاع البلاد والعباد؟
إن ظاهرة التشرد من أبشع الظواهر المتفشية في المجتمعات الإنسانية والمسيئة إلى صورتها. ويختلف مفهومها لدى الأخصائيين باختلاف معايير التقييم، وحسب المجتمع المعني بالدراسة وأهدافها، والتشرد عامة هو العيش بدون مأوى. وكغيرها من البلدان النامية، تعاني منه بلادنا بسبب الخيارات اللاشعبية، وما تعرفه جل القطاعات من فساد وسوء تدبير وضعف الحكامة وتدهور الخدمات الاجتماعية في التعليم والصحة وغيرهما… إلى جانب تراجع منظومة القيم أمام تداعيات العولمة التي نسفت بداخلنا روح التعاون والتكافل والتضامن. لذلك صارت مدننا في السنوات الأخيرة حبلى بالمشردين من المغاربة والأجانب (الأفارقة خاصة)، الذين يبيتون في العراء، يفترشون علبا كرتونية ويلتحفون بأغطية رثة. يلوذون بالمحطات الطرقية وجوار دور العبادة والأماكن المهجورة وغيرها. يدبرون عيشهم ببيع أشياء بسيطة كالمناديل الورقية ومسح الأحذية، وقد لا يترددون في امتهان التسول والنشل، وهم من الجنسين ومختلف الأعمار. ضحايا لعدة عواملك منها: الفقر، الأمية، التفكك الأسري، العنف الأسري، الضغوطات النفسية، الهدر المدرسي، الأمراض العقلية، الإعاقة، الإدمان على الكحول والمخدرات، البطالة، التسريح من العمل، الإفراغ من السكن، المتخلى عنهم سواء من الأبناء أو الأمهات والآباء…
وإذ ندعو الفعاليات المدنية والحقوقية إلى مواصلة دعم مختلف الفئات الهشة والمقصية، فإننا نطالب الحكومة بوضع سياسات عمومية كفيلة بالتصدي لظاهرة التشرد، التي استفحلت ببلادنا وأمست جد مقلقة ومخيفة، والسهر على حل المشاكل المطروحة بحدة، وخاصة في صفوف المشردين الذين يعانون من الإقصاء الاجتماعي في الأحياء الهامشية ودور الصفيح… قصد التخفيف من معاناتهم في أفق القضاء على الظاهرة، بالتقليص من العجز الاجتماعي والفقر والبطالة والأمية، إدماج الشباب منهم عن طريق التأهيل والتأطير المهني والتشغيل والأنشطة المدرة للدخل، وإيداع الأطفال والمسنين في دور الرعاية الاجتماعية وحسن رعايتهم…
الثلاثاء 02 يناير 2018./ 14 ربيع الاول 1439.هج