يعتبر التراث كسلطة أحد العوامل التي تحول دون إيجاد منهج موحد لفهم الدين، لاسيما إذا تكلس وخرج من المجتمع والتاريخ والزمان والمكان ، ليصبح مطلقاً خارج الواقع والتاريخ، صالحاً لكل زمان ومكان! فالتراث من صنع البشر، يتم إيجاده في لحظات الانتصار، وتقليده في أوقات الهزيمة. ويصبح هو والمقدس شيئاً واحداً. بل قد يصبح المصدر الأول للدين، كما حدث في العصر الوسيط عندما تحولت أقوال الآباء إلى مصدر سلطة. لذلك ثارت البروتستانتية على ازدواجية المصدر: الكتاب والتراث. وقالت بأحادية المصدر «الكتاب وحده». وأنكرت عصمة البابوات، وسلطة الكنيسة والآباء.

وتوقف الاجتهاد في العالم الإسلامي بدءاً من العصر العثماني، وعمَّ التقليد. ولم تنفع دعوات المصلحين لنبذ التقليد وإعمال النظر والاجتهاد. فإيمان المقلد لا يجوز، وهو ليس مصدراً من مصادر العلم. والقرآن يهاجم التقليد والمقلدين: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم لمقتدون).

لقد تحول التراث القديم إلى تقاليد وممارسات شعبية وأمثال عامية، تحدد للناس تصوراتهم للعالم، وتعطيهم قيمهم للسلوك. واختلطت قيم الدين مع قيم التراث مع قيم العادات والتقاليد، مثل احترام القدماء، وتعظيم كبار السن، وتفضيل رب الأسرة على جميع أعضائها، والأخ الكبير على الصغير.. فنشأ مجتمع «سي السيد» الذي سماه علماء الاجتماع المجتمع الأبوي أو «البطرياركي». الطاعة خير من العصيان، والقديم أفضل من الجديد، والمألوف أقل مخاطرة من غير المألوف، وللموروث الأولوية على الوافد.

وكما تحول الدين إلى أعراف اجتماعية وتقاليد شعبية، لا فرق بين الدين الرسمي والدين الشعبي، مثل زيارة أضرحة الأولياء، وعرائس المولد، وأطعمة رمضان، وكعك العيد، والإنشاد الديني، والأدعية والابتهالات النبوية، وتقبيل الأضرحة، والتوسط بالأولياء، والتسبيح بالحصا، وإطالة اللحى، ولبس الجلباب الأبيض والخف الأصفر، وتجليد المصاحف بالقطيفة والحرير، وتطعيمها بالذهب، وتهادي الناس بها، وتعليق المأثورات كتعاويذ من البلاستيك في العربات أو على قارعة الطريق.

وعادة ما يُفهم النص بمنهج واحد هو المنهج الحرفي، بدعوى المحافظة على معنى النص وكأن المعنى في اللفظ وليس مستقلا عنه، في الذهن والواقع، في العقل والتاريخ. الفهم الحرفي تضييق نظري وإنكار للنص وإنكار للعقل والواقع. وهو الذي أدى إلى تكفير الخصوم. كما أنه تشديد وتضييق وجعل كل شيء حراماً أو مكروهاً، مع أن الأشياء في الأصل على الإباحة. وهو إيثار لبُعد واحد فقط في اللغة وهو اللفظ. مع أن اللغة لفظ ومعنى وشيء. لفظ في اللسان، يفيد معنى في العقل، ومعنى يحيل إلى شيء في الواقع من خلال قصد وفعل. واللغة ليست حرفاً فحسب بل هي أيضاً صورة فنية في المجاز، تحتاج إلى تأويل. لذلك ازدوجت ألفاظ اللغة في التفسير عند الأصوليين: الحقيقة والمجاز، الظاهر والمؤول، المجمل والمبين، المحكم والمتشابه، المطلق والمقيد، العام والخاص. ولا يُفهم النص الديني فقط عن طريق قواميس اللغة، بل أيضاً بما يثيره النص في النفس، ويحرك الخيال.

المنهج الموحد في التفسير يوقع في التفسير الحرفي، أو في التفسير الباطني كرد فعل عليه. لذلك نشأ الصراع بين الفقهاء والصوفية، بين «التنزيل» و«التأويل». والمنهج الموحد في فهم الدين يعطي الإحساس بالدونية وبأن الإنسان العادي غير قادر على فهم الدين إلا باستشارة أهل الفتيا وسؤال أهل العلم، والاسترشاد برأي أهل الاختصاص. ويجعل الإنسان البسيط منكراً لعقله، ومتخلياً عن إحساسه، وتاركاً بداهته من أجل استشارة أهل الخبرة. فالتفسير مهنة وليس رسالة، حرفة وليس قضية، صنعة وليس طبيعة. وكتب التفاسير أجزاء ومجلدات بالعشرات، يقضي العلماء حياتهم في إنجازها. وكيف للإنسان العامي أن يعي كل ذلك أو يفهمه؟ ونتيجة لذلك سرعان ما يلجأ إلى التفسير المغاير، والفهم البديل الذي يستهويه، ويخاطب مشاعره ووجدانه، ويلبي مصالحه حتى ولو كان دعوة إلى الانخراط في تنظيم سري تحت الأرض. فمعنى النص قد وصل إلى القلب، وأثار الذهن، وحرك المشاعر، واستثار الفعل، وغير الواقع إلى واقع أفضل. لذا فإن المنهج الموحد لتفسير الدين يلمس السطح وينسى العمق.

 

الاحد 31 دجنبر 2017./ 12 ربيع الثاني 1439 .هج

‫شاهد أيضًا‬

تيار التجديد وأسئلة المرحلة * بقلم : د. حسن حنفي

  نشأت في العالم الإسلامي منذ القرن الثامن عشر ثلاثة تيارات فكرية واختيارات سياسية، م…