كلما دعا أحد مثقفي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى ضرورة الانفتاح على الآخر إلا وعلت في وجهه أصوات تنعته بالتغريب وبقبول الغزو الثقافي الغربي..
وتكمن مشكلتنا الثقافية والسياسية في كوننا توقفنا في هذه المنطقة، مُنذ عهد بعيد، عن طرح الأسئلة الجوهرية والجذرية على أنفسنا وعلى ثقافتنا وعلاقتنا بالآخر، ما جعلنا نسقط في هوية مغلقة ومنغلقة على نفسها تكرس الجمود والواحدية في كل شيء ولا تعترف بالآخر والتنوع والتعدد والاختلاف. لذلك يجب علينا طرح أسئلة عاصفة على ثقافتنا كي نتمكن من التخلص من عوائقنا الثقافية القابعة في أعماقنا، ما يمكننا من الشروع بعد ذلك في بناء ثقافة جديدة تمكننا من الانخراط في روح العصر..
وعندما يتأمل المرء في سلوكنا الثقافي يجد أننا سلكنا مُنذ قرون مسلكا يتعارض جذريا مع السلوك الثقافي للمتنورين من أسلافنا، حيث ازدهرت الثقافة العربية الإسلامية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأنتجت إبداعات متنوعة بسبب انفتاحها على الآخر بعد الفتوحات الإسلامية. فقد قامت هذه الثقافة آنذاك على ما سُمِّي بـ”التوفيق” بين الذات والآخر، أي بين النقل والعقل الذي هو يوناني الأصل. ففلسفيا، كانت النظرة العربية الإسلامية إلى الوجود نظرة تُوَحِّد بين الذات والآخر. بعبارة أخرى، لا يمكن الحديث عن وجود الذات على الصعيد الفلسفي إلا باعتبار الآخر مكونا أساسيا لها. ولا يقتصر الأمر فقط على المجال الفلسفي، بل يمتد أيضا إلى المعمار ومختلف العلوم والصناعات والحرف. فالآخر كان دوما بعدا من الأبعاد التكوينية والمكونة للذات العربية الإسلامية.
لقد حدث هذا بشكل نموذجي في القرآن الكريم الذي هو خلاصة للتجارب الروحية التي سبقته، بحيث نستطيع أن نجد آثارا لمعظم ما ورد في التوراة، وخصوصا قصص الأنبياء، في قراءتنا للقرآن المجيد. كما يرى مفكرون أمثال أدونيس وفتحي بنسلامة ويوسف الصديق وغيرهم، أن النص القرآني يشكل خلاصة ثقافية للثقافات التي سبقته، ما يمثل انفتاحا على الآخر. فالآخر هنا حاضر كذلك في هذا النص باعتباره مكونا أساسيا في الذات العربية الإسلامية.
لذلك، فمن المهم جدا أن نعي كل ذلك عبر وعي ذاتنا، ما سيغير مفهومنا للهوية. فالغرب ليس كلا جامدا لا انفصام فيه، بل إنه متعدد ومتنوع، بحيث لا يمكنني أن أتوحَّد مع الفكر الاستعماري والعنصرية، أو التسلّح النووي، لكنني على العكس من ذلك أستطيع أن أتوحد مع كبار المبدعين والمفكرين الغربيين، حيث أَجِد نفسي في فكر الأنوار وفكر الاختلاف اللذان يعالجان القضايا التي تشغلني. لا يمكن النظر إلى الغرب باعتباره كلا منسجما، لأن الواقع يفند مثل هذا النوع من التعميم المبتسر. فالغرب هو صورة الشرق الأخرى، والعكس صحيح. كذلك، فالهوية ليست معطى جاهزا ولا ثابتا، ولا يمكن تحديدها باللغة أو بحدود جغرافية ، بل إنها أفق مفتوح، لأن الكائن البشرى يبدعها ويبنيها باستمرار عبر عمله وإنتاجه وإبداعه واتصاله بالآخر. إضافة إلى ذلك، فالهوية المغلقة تقتل صاحبها، حيث تحوله إلى أصم وأعمى يعاني الانغلاق والجمود والتحجر، ولا يعرف إلى المعرفة والعلم والتطور والنمو سبيلا . إن الإنسان في الشرق الأوسط ينظر إلى نفسه بكونه يتصف بالنبوة، حيث يعتقد أنه يمتلك الحقائق كلها، ما يجعله مكتفيا بذاته وليس في حاجة إلى الاخر، ولا إلى ما ينتجه هذا الأخير من معارف وإبداعات وعلوم..
فضلا عن ذلك، تفيدنا دروس التاريخ أن المجتمعات التي قامت ببناء حضارات عظيمة، استطاعت ألا تفصل بين الدين والعقل. لكننا فصلنا بينهما، وانغلقنا على أنفسنا، فكان مآلنا هو الجهل والتخلف وممارسة الإقصاء والعنف ضد الآخر المختلف عنا. لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل صرنا نمارس العنف ضد بَعضنَا البعض وضد ذواتنا في آن واحد، وذلك بالحيلولة دون تحررنا من عقال الجمود والانفتاح على المستقبل والمساهمة في بِنَاء الحضارة الإنسانية.
وإذا لم نتخلص من شرنقة الهوية المنغلقة فسنحكم على أنفسا بالفناء لا محالة…