ألسّياسةُ بين المسؤوليّة والالتزام…
الكاتب : إيلي مارون خليل
(2/1)
نُكثر، نحن اللّبنانييّن، ويوميًّا، الحديث في السّياسة، كلٌّ منّا يعتقد أنّ رأيه هو الصّواب، وأنّه، وحده، على حقّ. وتدبّ فينا الحماسة، وترتفع الأصوات، فتختلط وتتمازج، فنعود لا نعرف كيف نميِّز صوتًا من صوت، ورأيًا من رأي. وما يزيدنا حماسةً وانحيازًا وتعصُّبًا، “تَصايُح” سياسييّنا عَبر الأقنية التّلفزيونيّة والإذاعات، ويوميًّا، كما على صفحات الجرائد والمجلاّت كذلك. فما المُشكِلة؟ وهل لها حلولٌ موضوعيّة؟
لا شكّ في أنّ تعدُّد الآراء، وتَبايُنَها، الكثيرَ أو القليل، في مجتمع ما، أو في بلد محدَّد، ظاهرة صحّيّة. إنّها دليل حُرّيّة. تَعَدُّد الآراء غنًى عقليّ، خصبُ أذهان، رؤيا ثقافيّة. ما يجعل المجتمع، أو البلد، يحيا ظاهرة واجبة. إنّها الدّيمقراطيّة السّليمة الرّافعةُ مجتمعاتِها وبلدانَها إلى ما هو أرقى.
ولكن: هل الحال، عندنا في لبنان، هي كذلك؟
ألواقع، بموضوعيّة واضحة، وحياديّة كلّيّة، أن لا! فإنّ داءَنا، نحن اللّبنانييّن، هو تَفَشّي الجَهالة، وتاليًا، كثرةُ الطُّفيلييّن. وهذه إشارة إلى الغباوة العمياء. والعجيب أنّنا… نأخذ بها!
لماذا الجَهالة؟ لأنّنا جماعةٌ غيرُ مثقَّفة! اَلدّليل؟ هل من حاجة إليه، في هذه الفوضى المعيشيّة (لم أقل الحياتيّة) اليوميّة الدّائمة؟ في القيادة، في التّجارة، في التّربية، في الأنظمة كلِّها… والجاهلُ ممتلئٌ غَباوةً. والغبيُّ طُفَيليّ. وإلاّ، كيف يختلط حابِلُنا بنابلنا في أحاديثنا، بخاصّة السّياسيّة منها؟ والأكثر غَباوةً، أنّ هذه الظّاهرة المَرضيّةَ، غيرُ المُرضية، قد تفشّت، حتّى في الرّياضة! بحيث بتُّ أتساءل وأسأل: أنحن شعبٌ واحدٌ في بلد واحد، أم مجموعة شعوب في وطن ــ أوطان!؟
يعيش الطُّفيليّ على الفُتات. فُتات غيرِه، لا يشبع، لا يتغذّى. ويظنّ أن بلى. أن هذا هو الشّبع. فلا يكترث لنبع فَوّار، ولا لحديقة متماوجة، ولا لسنابل معرفة، ولا لشمس حقيقة. وحين تجده في محفل، تراه يتدخّل، ويحاور مناقِشًا، وكأنّه الضّليع، وفي كلّ موضوع.
والطُّفيليّ، بعد، يأتيك من دون دعوة. حيث يستأهل، أو لا يستأهل. لَكأنّه “العَلقة” الّتي تمتصّ دمك، ولا تعيش إلاّ في حلقك، تكاد أن تقطع عنك الماء والهواء والغذاء. فتأكل ممّا لا تُنتج. وتشرب ممّا لا تجمع، وتتنفّس هواء سواها، فتعيش من دون أن تسعى. تُشبه اللّصّ.
والطُّفيليّ، كذلك، يتخلّى عن أيّة مسؤوليّة. يُنجِب فيُهمِل. يكتفي بما يلقم. لا يهتمّ لغد له، أو لأولاده. يُسَرّ لكونه متواجدًا، ولو هامشيًّا (وهو لا يعترف بهذا)، فيحسب أنّ الهامش هو الجوهر. ويغتبط لكونه متلَطّيًا، فيرى أنّ التَّلطّي هو الذّكاء.
وعليه، ألَسنا جميعًا، طُفَيلييّن!؟ نتلقّى فكرَ الآخرين، ونتبنّاه كما هو. نتلقّى عادات الآخرين، وتقاليدهم، ودُرْجاتهم: تَصَرُّفات، وأزياء ومأكولات ومشروبات… من دون أن نتفحّص، فيها ومنها، المناسبَ من غير المناسبِ، فيصبح ذلك كلُّه لنا، وكأنّه منّا ينبُع، هو الخارجيّ الغريب عنّا، شخصيّةً وثقافة وتحوُّلاتٍ ورؤًى وغايات!
كيف ينهض وطنٌ، هي هذه صفات الكثيرين من أبنائه؟ كيف يمكن لي، أنا اللّبنانيّ، أن أحيا بفكر الغربيّ أو الشّرقيّ؟ كيف يمكن لي، أنا اللّبنانيّ، أن أكون لبنانيًّا وأستمرّ لبنانيًّا، وأنا “أُغَرّب”، أو “أُشَرِّق”؟ كيف ينهض وطن، هي هذه صفات غالب سياسيّيه، حتّى إنّ الأجنبيّ أو الشرقيّ، أو الغربيّ تعاونًا والشّرقيّ “المتغرّب”، هو مَن يأتي بسياسيّيه، برؤسائه، بحكّامه!؟ أيّ ربّ بيت حقيقيّ يمكن أن يخضع لآخر: نسيب، قريب، بعيد، لا فرق، إلى هذا الحدّ؟ أيّ آخر يحبّ لك فوق ما أنت تُحِبّ لنفسك؟ أيّ آخر يعرف حاجاتك وضروريّاتك فوق ما أنت تعرف؟ أيّ آخر يتعامل معك من دون احتساب غاياته أوّلا، ومصالحه؟ فكيف نتغنّى بما نحن به نتغنّى، ونشمخ بالرّأس كأنّنا أسياد العالم!
اَلمستنكَر، في هذا المجال، أن يكون سياسيّونا، في غالبهم، “طُفيليّين” يلتقطون، غيرَ مدعوّين، فُتات موائد زعماء العالم. في هذي الحال، كيف ستكون الغالبيّة منّا، نحن “المساكين”! من أين تنبع “ثقافتُنا”؟ مَن سيكون “يُلهِمُنا”؟
مَن زعيمٌ؟ كلُّهم! مَن قائد؟ كلُّهم! مَن مرتشٍ؟ كلُّهم! مَن ملهَمٌ؟ كلُّهم! مَن ذكيٌّ؟ كلُّهم! مَن “يستخبر”، أخبارًا وصُورًا؟ مَن ومَن ومَن… إلخ! كلُّهم! أقولُ: “كلُّهم” على لسان “كلِّهم”! “اَلكلُّ” يتّهم “الكلَّ”! “اَلكلُّ” يدّعي لنفسِه ما ليس فيه!
ونحن؟ ننساق. نمدّ أعناقنا لـ”نِيرهم”! نفتح أفواهَنا بكلامهم! نسترق السّمع بآذانهم! نتلمّس بأيديهم! نذوق بألسنتهم! نرى بأعينهم! فأيننا، نحن؟ نلبس جلودَهم، بها نتغاوى، طواويس فارغة؛ ونصيح، ديوكًا مغترّة! بلى! يطلع الفجر من عند سوانا! فلْنصدِّقْ! ولْنخرج خارج أسوارنا والخُمّ!
اَلسّياسة! أن تكون، أوّلا، في ثقافة أصحابها، في كراماتهم، في كِبَرهم، في حرّيّتهم، في المسؤوليّة والالتزام. في أن يلتزموا المسؤوليّة! وإلاّ، فعلينا وعلى وطننا السّلام!
اَلسّبت 30/3/2013
(2/2)
“ألسّياسةُ استصلاحُ الخَلقِ بإرشادهم إلى الطّريق المُنجّي في الآجل أو العاجل.”
وعليه، هل تبدو السّياسةُ، عندنا، بمعناها “القاموسيّ”، هذا، أي كما يُفترَضُ أن تكون؟ ولماذا؟ وتاليًا، إلّم تكن بهذا المَعنى، فكيف تبدو، ولماذا؟
نظرة موضوعيّة، حياديّة، عقليّة، علميّة، إلى واقعنا اللّبنانيّ، لا تُفيد بذلك. فحتّى الآن، أنحن مأخوذون في “الطّريق المنجّي”؟ لِمَ لَمْ نصل، إذًا؟ لِمَ هذي “المَجازرُ” الاجتماعيّة، الاقتصاديّة، الأخلاقيّة، التّربويّة! من خطف وطلب فدية، كأنّما اختطاف النّاس بات مهنة الكثيرين! طبعًا لأنّ السّياسة “ترعى” الأمر، و”ترعى” شؤون البلد والمواطنين! ومن قطع طرق وإحراق دواليب وتَسَيُّب أمن! بحيث إن لم يحدث هذا، ويوميًّا، نعجب للأمر فنتساءل: لمَ؟ يبدو نهارُنا ناقصًا! ومن فَقرٍ حتّى الجوع، وإقفال محالّ، صغيرة وكبيرة، ومؤسّسات، هي أيضًا، صغيرة وكبيرة. وتاليًا ما يلي من بطالةٍ وتَشَرُّد وسلب وسرقات. ومن هبوط في مستوى التّربية والتّعليم: بيوتًا ومدارس ومعاهدَ وجامعات. يتخرّج المتخرّجون وقليلُهم بمستوى شهادته. وقليلٌ هو المُثقَّف من بينهم، النّاضجُ الواعي الرّائي المسؤول الملتزم مسؤوليّته. طبعًا، فللكثيرين من أهل “السّياسة”، عندنا، هم أصحاب مدارس ومعاهد وجامعات. الآخرون؟ لهم بنات وبنون يتقدّمون من “الامتحانات”، يجب أن ينجحوا! سيدخلون “مناصبَ” رسميّة تنتظرهم. أو سيرثون آباءهم! هذا كلُّه، لأنّ القِيَم اندثرت، ومَن لا يزال بها يؤمن، فهو “رجعيّ” و”متخلِّف” و”غير مُدرِكٍ”، أو “حمار”، هو لا يعرف “من أين تؤكَل الكتف!”
و”السّياسةُ فنّ الحكم وإدارة أعمال الدّولة.” فهل؟ هل نحن “محكومون” بالمفهوم السّياسيّ الحضاريّ التّقَدُّميّ الرّاقي، النّاضج والواعي والمسؤول الملتزم، فعلا، “إدارةَ أعمال الدّولة”، بعيدًا من النّكايات والعناد والانتقام والحقد والتّشَفّي؟ ومن المصالح الشّخصيّة الضّيّقة، والّتي تجعل مصالح الوطن مصالحَ فئة أو أشخاص، يحسبون أنفسهم شخصيّات؟ أين نحن من المعنى الحقيقيّ لمفهوم السّياسة كما يُفترَض أن تكون؟ ولِمَ هذا الفارق الشّاسع، بل الهائل، بين المِثال والواقع؟
أحبّ أن أزعم أنّ السّبب واقعيّ! لا يستطيع السّياسيّ عندنا، إجمالا، التَّخَلّي عن عبادة نفسِه وعيلته، ومنفعة “حاشيته” و”أزلامه”، وتاليًا مصالحه وأتباعه! أمّا لماذا؟ فلأسباب كثيرة منها، مثلا، عدم الثّقافة، وهذا أساس مَكين في بناء شخصيّة الإنسان، كائنًا مَن كان، فكيف بمَن أراد نفسَه ممثِّل شعبِه، أو قائدَه!؟ فالثّقافة تبني الثّقة. وتحدّد النّضج. وتؤكّد الرّؤية. وتصوّب الرّؤيا. وتسمو بالذّات. وتنبذ الدّناءة. ومَن كانت هذه بعض مميِّزاته، استطاع تَجاوز مصالحه الخاصّة إلى مصلحة الوطن والمواطنين، وعمل لشعب الوطن، لا لـ”شعوبٍ” فيه، ولوطن واحد، لا لـ”أوطان” يدعوها وطنًا واحدًا، يطالب، كذبًا، بوحدته ورفعته وازدهاره.
وتاليًا، ما المسؤوليّة، وما الالتزام، وكيف يكون السّياسيّ مسؤولا عن وطن، وملتزما قضاياه والمواطنين؟
لعلّ المسؤوليّةَ تعني أن يكون السّياسيّ عارفًا المعرفةَ كلَّها أنّه مُحاسَبٌ مُطالَبٌ بواجباته وبوعوده. لينجح في المحاسَبة، ليحاسبْ نفسَه، بدءًا. فإنْ فعل نجح! وكذلك فلْيطالبْ نفسَه، أوّلا! فهل يفعل؟ ولمَ لا يقوم بذلك؟ يعرف أنّنا لا نحاسب، ولا نطالب. في هذا نحن مقصِّرون، فيستغلّ “سَذاجتَنا”. ألمسؤوليّةُ واجبٌ أخلاقيٌّ، أوّلا، وتاليًا، واجبٌ اجتماعيّ، عائليّ، وطنيّ، إنسانيّ، شامل. من أولى صفات مَن تُميِّزُه الطّهارة! طهارة الفكر والرّوح، طهارة القلبِ والفكر. اَلطّهارةُ، هذه، مِصْفاةُ القِيَم! لا يُعقَل، للمتّصف بها، إلاّ أن يكون مثاليًّا، فيطمح إلى المثال، ليحقّق ما يمكن أن يكون أقرب المُمكن إليه! والمسؤوليّة تقتضي وعيًا ضميريًّا قاسيًا، يجلد الذّات، يعذّبها، يؤلمها، لتأتي محاسَبة صائبة. وتفترض نضجًا يحتّم على المحاسِب نفسَه الارتفاع فوق أيّ مادّة. وتتطلّب ثقة قويّة بالنّفس، تستصغر أيّ مَيْلٍ أو هوًى. ولا تغرب عن البال ضرورة وجودِ شموليّة النّظرة، فهذه النّظرة تجعل صاحبَها واسعَ الآفاق، منفتِحًا، غيرَ متعصِّب. ما يحتّم جعْلَ المسؤوليّة تطغى على كلّ ما عداها، فتصفو، وتُصيب، وتقوّي. تكون حازمة. ما يستدعي الالتزام. والالتزام يعني أن يراقب المسؤوليّة ويلازمَها فلا يتخلّى عنها لسبب. اَلالتزام تطبيقٌ يوميّ، دائم، حازم، للمسؤوليّة. أيّ مسؤول حقيقيّ، وفي أيّ مجال، خاصّ أو عامّ، ملتزم. وإلاّ فمسؤوليّته ناقصة، مُضلِّلة، مُنافِقة، مدّعية، كاذبة. فهل إنّ أهل السّياسة، عندنا، يلتزمون مسؤوليّاتهم؟
أحبُّ أن أعتقد. أقلّه أن أظنّ! لكنّ الواقع لا يستجيبني، إلّم أقل: يكذّبني! نراهم على محطّات التّلفزة، ونسمعهم، ونقرأ تصاريحَ لهم، يعلنون آراء، يطلِقون وعودًا… ولكن: مَن منهم يلتزم ما يقوله أو يَعِد به؟ كأنّما كلامهم مجرَّد كلام في الهواء، لا يعتدّون به، هم أنفسُهم. مَن لا يعتدّ بكلامه، هل يلتزم؟ وإن لم يلتزم، فما معنى كلامِه، وما قيمتُه؟ والكلام اللاّمعنى له، ولا قيمة، هل يبقى “كلماتٍ”!؟ “اَلكلمات” تحمل معاني، أمّا ما “يُتحِفوننا” به، وما “يُقرئوننا” إيّاه، فهو فارغٌ من أيّ مضمون؛ إن هو إلاّ لَغْو فُسَيفَسائيّ، سَفسَطائيّ، مُدَّعٍ! لَغْوٌ هَشّ! ما لهذا خُلِقتِ الكلمات!
وبعدُ، هل، من بين سياسييّنا، سياسيّون بالمعنى الحقيقيّ؟ هل بينهم مَن يُمكن اعتبارُه مسؤولا وملتزمًا، بالمعنى الحضاريّ؟ كم، من بينهم، هو كذلك؟ كم، من بينهم” مِن مُطالع حقيقيّ، مثقَّفٍ حقيقيّ، واسع الآفاق حقًّا؟ كم، من بينهم، مَن وضع كتابًا ذا قيمة، ولو في أيّ مجال؟ وتاليًا: أيحكمُنا قومٌ من الأمّييّن، أم نخبةٌ من المثقَّفين!؟
ونحن في القرن الواحد والعشرين، لا نزال نسير وراء مثل هذه الجماعات! فحتّامَ؟ ولماذا؟ وإلى أين!؟ فعلا! إنّه السّؤال الآلَم: إلى أين!؟
…عن موقع جماليا…اَلاثنين1/4/2013