يمكن أن تقرأ خطوة دونالد ترامب إلى الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمةً للدولة الصهيونية بوصفها (الخطوة) واحدةً من الثمرات المرة لما سمي «الربيع العربي» ، وأولى قطاف ما ازدرعته، في بلادنا العربية، سياسة «الفوضى الخلاقة» التي أطلقها أسلافه المحافظون في «البيت الأبيض»، واستمر ثنائي أوباما – هيلاري كلينتون في تطبيقها. وليس من وجه تزيد في الربط بين جريمة الاعتراف وكبائر «الربيع العربي»؛ إذ كان تمزيق أوصال الكيانات العربية، وتفجير وحداتها الوطنية، وزعزعة استقرارها وإنهاء حال السلم المدنية فيها، وجر شعوبها إلى حروب داخلية: طائفية ومذهبية، والإتيان على السياسات الوطنية والجيوش الوطنية بمعاول الهدم… الخطوات الأولى المقطوعة على طريق القرار بنقل السفارة الأمريكية من «تل أبيب» المحتلة إلى القدس المحتلة.

لقد تكفلت هذه الحقبة من السنوات السبع العجاف بإنهاك عناصر القوة في الجسم العربي كلها، وترويض السياسات الرسمية على النزول أمام الإملاءات الأمريكية، وإغراق شعوب (عربية) كاملة في هموم اللجوء والنزوح وفقدان الأمن والخصاص والحرمان والعوز. وهي إلى ذلك (أي الحقبة العجفاء) تكفلت بمهمة تبديل التناقضات والأولويات، وإعادة النظر – لدى بعض النظام العربي – في مركزية قضية فلسطين وقضايا الصراع العربي- الصهيوني، أو في الموقف العربي من الخطر الصهيوني على الأمن القومي!

ليس يعنينا في الموضوع أن ترامب اتخذ قراراً لا يقدر خطورته، كما قدرها رؤساء أمريكيون سابقون رفضوا تنفيذ قرار الكونجرس (الممسوك بأيد صهيونية)؛ ولا يعنينا الاحتفال بآثاره على صورة الولايات المتحدة في العالم؛ التي تتحدى الأمم المتحدة والقانون الدولي، وتطلق مسلسلاً من الاعتراضات الصاخبة عليها حتى من حلفائها في الغرب؛ كما لا يعنينا، في شيء، أن نبحث في ما عساها أن تكون تبعاته على أدوار أمريكا في أزمات العالم، ومنها أزمة «الشرق الأوسط»، وعلى دورها في «رعاية» التسوية السياسية.

ما يعنينا أن هذه الخطوة المغامرة، التي اصطادت في مياه عربية عكرة، وفي لحظة من الوهن والتنازل هي الأسوأ في كل تاريخ السياسة الرسمية العربية، منذ أربعين عاماً، هي خطوة تمتحن مصيراً عربياً برمته: شعوباً وأنظمةً وأحزاباً ونخباً. ويخطئ، ألف مرة، من يعتقد لحظة أنه سيفر بجلده من هذا الامتحان، أو سيكفيه بيان إبراء الذمة لتجنبه؛ وقطعاً سيخطئ، أكثر من ذلك، من يحسب أنه قد يتلقى ثمناً سياسياً مجزياً عن صمته عن هذه الجريمة التي يتوج بها ترامب جريمة سلفه بلفور في متمّ قرن على وقوعها!

ليس معلوماً لدى أحد كيف سيكون الامتحان السياسي -وربما المصيري- ذاك، ولا ما عساه أن يكونه ذلك الوجه الذي سيتخذه، ولا المديات التي يمكن أن يبلغها، ولا النتائج السياسية التي قد تتمخض منه، والتي قد يفتح مشهدها القادم على الاحتمالات كافة، بما فيها التبدل في معطيات السياسات والسلطة ونوعية الصراعات والنخب في «المنطقة» العربية…إلخ؛ ليس معلوماً ذلك لسبب بسيط، ولكنه مدرك في علم السياسة، هو أن الحدث في مقام الخطب الجلل، وصدمته مهولة، وهي صدمة تتجاوز – بجميع المقاييس- صدمة الغزو السوڤييتي لأفغانستان،، التي أنجبت تلك الموجة المخيفة والمدمرة من العمل المسلح الذي انتهى إلى الصيرورة إرهاباً يفتك بالبقية الباقية من عناصر «الاستقرار» و «التماسك» في بنيتي الاجتماع الأهلي والاجتماع السياسي في البلاد العربية!

الصدمة هذه ليست كالسابقات على -هول ما ترتب عن السابقات- وإنما أشد خطباً وفداحةً وأدعى، بالتالي، إلى توليد ما لا حصر له من التبعات والذيول والحقائق. إن كان من شبيه لها يشبهها في الحدة والأهوال فهو صدمة اغتصاب فلسطين في العام 1948 من قبل العصابات الأسرائيلية ، ووقوف السياسات الرسمية العربية متفرجةً على ذلك الاغتصاب، على الرغم من محاولتها ستر عورة عجزها وتقاعسها بإرسال «جيوش» رمزية للقتال في جبهة فلسطين. ونحن نعرف اليوم، بل منذ قرابة سبعين عاماً، ماذا كانت نتائج صدمة الاغتصاب تلك في الفضاء السياسي والاجتماعي العربي: الرسمي والشعبي؛ ولادة حقبة مديدة من التغييرات السياسية الهائلة في بنى السلطة، ونشوء حركة التحرر الوطني العربية، وفي جملتها حركة المقاومة الفلسطينية: التي سرعان ما صارت فصائلها مقصداً لجحافل من الشباب العربي.

فهل يعتقد أحد، من عرب هذا الزمان، أن الأمر سيختلف اليوم؟ من يذهب إلى مثل ذلك الظن، يعاني -قطعاً- قصوراً في الإدراك السياسي، وفي الوعي التاريخي وفي الاتعاظ بدروس التاريخ، والأنكى من ذلك والأدهى أن الذيول والتفاعلات قد تفاجئه -إما من الداخل أو الإقليم – على حين غرة، فلا يجد لكف أخطارها عليه سبيلاً!

ليس يعنينا، مثلما أشرت، ما المآلات التي تنتظر قرار دونالد ترامب في الداخل الأمريكي وفي الساحة الدولية،إنما يعنينا أن نفكر في ما سيتولد من موقف السلبية والعجز تجاه الحدث من نتائج وحقائق هائلة، قد تكون مزلزلة، في الداخل العربي. وهنا لا بد من أن يقول المرء بمرارة: إنه، من أسف شديد، يلحظ المتابع كماً خرافياً من أفعال الاستسهال في بعض السياسات يؤذن بعقابيل وخيمة: استسهال إدراك مكانة المقدس في الوعي (وفي المخيال) الجماعي؛ استسهال الاعتقاد بإمكان تغيير الثوابت التي عاشت عليها أجيال متطاولة من الأمة؛ استسهال تقدير التبعات من تبرئة ساحة عدو من جرائمه وتجريب تسويق الصلة به كـ«صديق» أو «حليف»!!! إن أخطر ما يعرض سياسةً للخطر (هو) فقدانها الذاكرة التاريخية، ووهمها إمكان اجتراح المستحيل بضربة ساحر؛ ولو كان المستحيل ذاك تغيير مزاج أمة!

 

الثلاثاء 19 دجنبر 2017./ 30 ربيع الاول 1439 هج.

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …