حَدَّثَنَا يَعِيشُ بْنُ يَحْيَى قَال: سَاقَتْنِي الأَقْدَارُ إِلَى مَدِينَة رُودَانَة، مَنْبَعِ الْأَدَبيَّاتِ الطَّنَّانَة، وَقَدِ ارْتَبَطْتُ بِهَا مُنْذُ زَمَنِ التَّمْرِين، بِمَرْكَزِ التَّرْبِيَّةِ وَالتَّكْوِين، وَقَصْدِي اغْتِنَامُ العُطْلَة، فِي زِيَارَةِ مَكْتَبَاتِهَا وَأَعْلاَمِهَا الْأَجِلَّة، فَلَمَّا دَخَلْتُ إحْدَاهَا، وَجُبْتُ بمُقْلَتَيَّ أَعْلاَهَا وَأَسْفَلَها، أَبْصَرْتُ كتَابَ “مُذَكِّرَاتُ حَيَاتي” للعَلاَّمَةِ عُمَرَ السَّاحِلِيِّ الْمُجَاهِد، خَبِيرِ العُلُومِ طَرِيفِهَا وَالتَّالِد، فَحَمَلْتُهُ رَافِضاً أَنْ أَعُودَ بِخُفَّيْ حُنَيْن، وَأُصْبحَ نَادِماً عَاضَّ الْيَدَيْن، فَاقْتَنَيْتُهُ وَأَنَا أُنْشِد:

هَذِهِ نَفْحَةٌ مِنَ الذِّكْرَيَاتِ * جُمِعَتْ فِي “مُذَكِّرَاتِ حَيَاتِي”
ضُمِّنَتْ من وحي البديع برودا * مُزِجَتْ بِالدِّمَاءِ وَالْعَبَرَاتِ
لَيْسَ يَبْخَسُ قَدْرَهَا غَيْرُ غُمْرٍ * غَارِقٍ فِي غَيَاهِبِ الظُّلُمَاتِ

فَلَمَّا غَادَرْتُ الْمَكْتَبَةَ وَسِرْتُ فِي الشَّارِع، لَمَحْتُ نَجْلَ الْمُؤَلِّفِ مُصْطَفَى الْأُسْتَاذِ الْبَارِع، فَفَرِحْتُ بِاللِّقَاءِ غَيْرِ الْمُنْتَظَرِ أَشَدَّ الْفَرَح، وغَادَرَنِي الْأَسَى وَالْتَّرَح، فَرَقَمَ عَلَى صَفْحَةِ الْكِتَابِ بِخَطِّهِ الرَّفِيع، وَأُسْلُوبِهِ الْبَدِيع، فَمَا أَتَمَّ الْأَسْطُر، حَتَّى سَالَتْ عَلَى لِسَانِي هَذِهِ الْأَشْطُر:

اِلْتَقَيْتُ بِمُصْطَفَى بْنِ عُمَر * فَكَسَا النُّورُ وَجْهَهُ كَالْقَمَرْ
وَتَلَقَّيْتُ مِنْ مَعَارِفِهِ جُزْ * ءاً فَكَانَتْ مَلِيئَةً بِالْغُرَرْ
وَحَظِيتُ مِنْ كَفِّهِ بِخُطُوطٍ * تُشْتَرَى مِنْ مَلِيكِهَا بِالدُّرَرْ

وَبَعْدَ لَحَظَاتٍ الْتَحَقَتْ بِنَا الْأُسْتَاذَةُ الْجَلِيلَة، زَيْنَبُ سَلِيلَةُ الْأُسْرَةِ الْخَيَّاطِيَّةِ النَّبِيلَة، فَجَادَتْ الْقَرِيحَةُ الْكَلِيلَة، بِأَبْيَاتٍ هَزِيلَة:

الْعِلْمُ أَجْمَلُ مَا يُنَالُ وَيُكْسَبُ * وَسِوَاهُ يَفْنَى وَهْوَ بَرْقٌ خُلَّبُ
فَلِقَاءُ هَذَا الْيَوْمِ أَجْمَلُ مِنْحَةٍ * يَحْظَى بهَا مَنْ فِي الْفَوَائِدِ يَرْغَبُ
لاَ سِيَّمَا مَعَ ثُلَّةِ الْفَضْلِ الْكِرَا* مِ فَأَبْشِرِي وَلْتَسْعَدِي يَا زَيْنَبُ

ثُمَّ انْضَمَّتْ إِلَى جَلْسَةِ “الْمُذَكِّرَات”، جَدَّدَ اللَّهُ عَلَى كَاتِبِهَا الرَّحَمَات، فَاغْتَنَى الْحِوَارُ بِشَذَرَاتٍ مِنْ تَارِيخِ الْمَدِينَةِ الْعَرِيقَة، وَأَخْبَارِهَا الْأَنِيقَة، فِي حَدِيثٍ خَالٍ مِنَ الْمِرَاء، إِلَى أَنِ افْتَرَقْنَا بَعْدَ الاِتِّفَاقِ عَلَى تَجْدِيدِ اللِّقَاء.

 

الخميس 14 دجنبر 2017. /27 ربيع الاول 1439 هج.

‫شاهد أيضًا‬

قصيدة للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش عن قطاع غزة :

تحيط خاصرتها بالألغام .. وتنفجر .. لا هو موت .. ولا هو انتحارانه أسلوب غـزة في إعلان جدارت…