يري بعض الناس أنه يجب فصل السياسة عن الثقافة، لأن المؤسسات السياسية، في اعتقادهم، قد تبتلع المثقفين وتقيِّدهم وتقضي على قدرتهم على الاستقلال والنقد والإبداع… لكن هؤلاء لا ينتبهون إلى أن للسياسة مفهومين مختلفين:

أولهما : يعني السياسة السياسية، أي السياسة العملية، في حين يعني المفهوم ..

الثاني:  السياسة بمفهومها اليوناني الذي يشير إلى بناء المجتمع والدولة. والمثقف معني بالسياسة بمفهومها اليوناني بقدر ما هو معني أيضا بالسياسة العملية باعتبارها تساعد على بناء المجتمع والدولة، أو تعرقل ذلك.

إن الهَوَس الايديولوجي هو كارثة بشرية خطيرة ومزمنة، بل هو العماء الذي هو وباء فتاك لا يكفُّ عن الانتشار في كل مكان.. ولا يشذ مجتمعنا عن ذلك،حيث إن الإيديولوجيات هي أكبر المساوئ في كل من الثقافة المغربية والعربية معا، نظرا لأنَّ الإيديولوجيتين الطائفية والقَبَلِية قد قلدتا البنية الدينية في قيامهما على فكرة الواحدية، وبذلك نقلتنا كل واحدة منهما من بنية تقليدية منغلقة ونهائية إلى بنية جاهزة وأكثر انغلاقا…. ونظرا لقيام فكرة الواحدية على إلغاء التعدد والتنوع والاختلاف، فهي قد قتلت الحياة الثقافية والسياسية في مجتمعنا وحالت دون تحقيق أي تقدم. فالثقافة السائدة في مجتمعنا تضع كلا من القبيلة والطائفة في مرتبة قبل الوطن،بل وفوقه، مما يعرقل تحقيق الوحدة الوطنية، بل وقد يمس الصراع الطائفي والقَبَلِي وحدة الوطن ويؤذيها عبر تفتيته. ولتجاوز ذلك، يجب العمل على الخروج من الواحدية الطائفية والقَبَلِية، لاسيما أن تحقيق ذلك سيمنح معنى لحياتنا الثقافية والسياسية.

بالإضافة إلى ذلك، يبدو لي أن بنيات أغلب الأحزاب المغربية، بيمينها ويسارها على حد سواء، هي بنيات شبه دينية، لأن كل تنظيم منها إلا ويعتقد أنه وحده من يمتلك سائر الحقائق، فيعتبر كل التنظيمات السياسية الأخرى هي دائما على ضلال،زائغة وحائدة عن جادة الصواب ما لم تتخل عن إيديولوجياتها الخاصة وتعتنق إديولوجيتها ذات الرؤية الواحدية. وفي ادعاء كل الأحزاب ذلك دليل على عدم اختلافها، من هذه الزاوية، في أي شيء عن البنى الدينية، إذ يدَّعي رجال كل دين هم الآخرون أن دينهم هو وحده الذي يحمل الحقيقة المطلقة، وأنه يلغي كل الأديان التي ظهرت قبله ويجردها من كل قيمة. وكون الأحزاب عندنا شبه دينية يؤدي إلى خلل أساسي في العلاقات بين أفراد المجتمع ومختلف مكوناته، فضلا عن خلل كبير في حياتنا السياسية، بل وقد يؤدي إلى العنف والإرهاب. فالزعامات السياسية وأعضاء الأحزاب عندنا لا ينظرون إلى العمل السياسي باعتباره عمل شراكة، بل طاعة وامتثالا لأوامر الزعيم ونواهيه، وولاء له،دون شق عصا الطاعة عليه، في حين يقتضي الوضع المنطقي والسليم ضرورة انفتاح الحزب عَلى الآخر، متحزبا كان أو غير متحزب. وبما أن الهم الوحيد والشغل الشاغل لكل الزعامات السياسية عندنا هو الدخول إلى الحكومة،واستلام السلطة،فهي لا تقدم أي خطاب ولا برنامج يوضح كيفية تغيير المجتمع مع أنَّ هذا التغيير هو الشرط الأساسي لإصلاح السلطة ومدخله الرئيسي.

وتجدر الإشارة إلى أن تسييس الدين وتديين السياسة يسقط في الصراع الطائفي الذي يؤدي إلى العنف.

والعنف، كما نعلم، هو لا إنساني ووحشي إذا دخل في السياسة أفسدها وفسد هو ذاته، لذلك يجب عليه أن ينأى بنفسه عن السياسة ويبقى بعيدا عنها وعن الاهتمام بها والتدخل في شؤونها. كما أنَّ تطور الأحداث في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يؤكد أن الصراع الطائفي والقبلي يفسدان العملية السياسية ويعرقلانها، ويهيئان الظروف المناسبة للتدخلات الأجنبية،فتتحول المعارضات القبلية والطائفية إلى شكل جديد من أشكال الاستعمار…

 

الثلاثاء : 12 دجنبر 2017./25 ربيع الاول 1439 هج.

 

‫شاهد أيضًا‬

ماجد الغرباوي: إشكالية النهضة ورهان تقوية الشعور الهوياتي العقلاني لدى العربي المسلم * الحسين بوخرطة

الدكتور ماجد الغرباوي، مدير مجلة المثقف الإلكترونية، غني عن التعريف. كتاباته الرصينة شكلت …