في خضم استشراء الفساد بمختلف أشكاله، وغياب تنمية اجتماعية شاملة، متوازنة وعادلة، تضمن العيش الكريم للضعفاء والمهمشين. وفي ظل فشل السياسات العمومية وعجز الحكومات المتعاقبة عن رفع التحديات المطروحة، والقيام بما يلزم من تخطيط محكم وتوجيه ناجع وتوفير مصادر التمويل، ووضع استراتيجية وطنية مندمجة وواضحة لتحقيق الإقلاع الاقتصادي المأمول. كان طبيعيا أن تتأزم الأوضاع، من حيث تفاقم معدلات الفقر والأمية والبطالة، تكريس الفوارق الطبقية والمجالية، إثقال كاهل الدولة بالمديونية ورهن مستقبل الأجيال الصاعدة للمجهول…

      وبالنظر إلى ما تلاحق من قرارات موجعة ولاشعبية، وما تعرضت له القدرة الشرائية من ضربة قاضية، أمام الزيادات المتوالية في المواد الأساسية وفواتير الكهرباء والماء، تجميد الأجور وانعدام فرص الشغل، لم يعد “الموقف” (بضم الميم) حكرا على الرجال وحدهم، إذ اضطرت عديد النساء اللواتي تعانين من شظف العيش، إلى الخروج بدورهن لمواجهة الظروف القاسية بما هو أقسى في سبيل إعالة أسرهن. ولعل أبرز مثال نستحضره هنا بحرقة عما آلت إليه أحوال الناس من بؤس وما باتت تعرفه الطبقات الفقيرة من مآس، هي فاجعة سيدي بولعلام بإقليم الصويرة، التي ذهبت ضحيتها 15 امرأة وإصابة أخريات بجروح بليغة، إثر تدافع شديد أثناء توزيع قفف مواد غذائية، قد لا تتعدى الواحدة منها مبلغ 150 درهما، وذلك يوم الأحد 19 نونبر 2017 في ليلة عيد المولد النبوي الشريف.

      وكلمة “الموقف” تحيلنا على الوقوف (مصدر وقف)، أي سكون بعد حركة في انتظار فرصة للانطلاق مجددا، وتعني أيضا اسم مكان خاص بتوقف الإنسان أو الحيوان أو السيارات. و”الموقف” بإيجاز تام ساحة عمومية يتم اختيارها بعناية، لتصبح معلومة لدى الكثيرين، حيث تعرض السواعد للقيام بمختلف أنواع الخدمات المنزلية، من تنظيف وطبخ وإعادة ترتيب البيوت، وإصلاح الكهرباء وقنوات الماء الصالح للشرب والصرف الصحي… بأثمان زهيدة لا ترقى إلى مستوى الجهد والوقت المبذولين…

      ومن هنا صار لكل مدينة مغربية “موقف” بل عدة “مواقف” معروفة، منها الخاص بالرجال ومنها الخاص بالنساء حسب الأحياء، لتيسير أمر الباحثين عن اليد العاملة بأبخس الأجور، وتتوزع هذه النسوة بين أمهات عازبات ومطلقات وأرامل… الخيط الناظم بينها هو الفقر والأمية. فهن شريحة مجتمعية مهمشة، توجد خارج مفكرة الحكومات وتقديرات وبرامج السياسيين، الذين لا يلتفتون إليها إلا إبان حلول مواسم الاستحقاقات الانتخابية، بهدف دغدغة عواطفهن والتلاعب بعقولهن من أجل الظفر بأصواتهن، وما عدا ذلك فلا أحزاب تؤطرهن ولا نقابات تدافع عن حقوقهن ومطالبهن، يعشن على الهامش بدون تأمين صحي ولا معاش ولا أبسط الحقوق الإنسانية والحماية الاجتماعية والقانونية…

      فأغلبية عاملات “الموقف” تغادر بيوتها مع بروز خيوط الفجر الأولى في اتجاه المجهول، ليس لها مقر عمل محدد ولا مشغل واضح، إذ تتغير الأماكن والزبناء من يوم لآخر. ولا ترجع أحيانا إلا بعد أن يرخي الليل سدوله، منها من تترك أبناءها لدى الجيران ومنها من تدعهم تحت رعاية الله، قد يأكلون وقد لا يأكلون، قد يذهبون إلى مدارسهم وقد لا يذهبون… وهناك في “الموقف” تصطف جميعهن على الرصيف في انتظار أن يجود القدر بفرص عمل تخفف من أوجاعهن، وبمجرد توقف سيارة أو شاحنة ولو بشكل عرضي حتى يتسابقن نحوها، يمضين أيامهن تحت قساوة الطبيعة صيفا وشتاء، تزجين أوقات الانتظار في تبادل حكاياتهن الأليمة مع الأبناء أو الوالدين أو الإخوة أو الأزواج، فضلا عما تكابدن من نظرة دونية وتتلقينه من ابتزاز ومضايقات ومطاردات أمنية واتهامات جاهزة بممارسة الدعارة المقنعة، أو سرقة بعض المشغلات أو المشغلين لإثنائهن عن المطالبة بمستحقاتهن. أليس من الجور و”الحكرة” قضاء بعضهن أزيد من عشر ساعات خارج البيت والعودة إليه مساء بخمسين درهما أو صفر اليدين، رافضات مد اليد أو بيع الجسد؟ ألا يفكر المسؤولون في ما قد يحصل لأبنائهن من انحراف واستغلال، خاصة من لدن المنظمات الإرهابية؟

     وإذا كانت فئة “خادمات البيوت” قد حظيت بالقانون رقم 12- 19 المصادق عليه من قبل البرلمان في يوليوز 2016، الذي يحدد شروط التشغيل والشغل المتعلقة بالعمال المنزليين، وينظم عمل آلاف النساء والفتيات ويوفر لهن الحماية من الاستغلال والانتهاكات، رغم ما عرفه من ثغرات وجدل واسع من قبل المعارضة وبعض الجمعيات الحقوقية والجمعيات المهتمة بالطفولة والمرأة، فإن عاملات “الموقف” مازلن مستبعدات من مدونة الشغل ومن الحقوق المرتبطة بالحد الأدنى للأجر أو الحد الأقصى لساعات العمل، والعطل الأسبوعية والتعويض عن حوادث الشغل…

      إننا أمام هذا الواقع المجحف لهؤلاء المستضعفات، نسائل وزيرة التضامن والمرأة والأسرة والتنمية الاجتماعية بسيمة الحقاوي، عن ماذا أعدت وزارتها خلال ولايتيها المتتاليتين من تدابير لرفع المعاناة عنهن وحسن رعاية أطفالهن؟ داعينها إلى استحضار البعد الإنساني لهذه الشريحة الجريحة وضرورة الاهتمام بأحوالها المزرية وفك العزلة عن ظروفها الصعبة، عبر إحداث مراكز تكوين خاصة بها وتأهيلها مهنيا في: الطبخ والخياطة وصناعة الحلويات… وتنظيم دروس محو الأمية لفائدتها، في أفق انتشالها من غياهب التهميش ودوامة الضياع، كما ندعو جمعيات المجتمع المدني والمنظمات النسائية والحقوقية، إلى مواصلة النضال من أجل تعزيز الترسانة القانونية لدعم قضاياها والدفاع عن كرامتها، حماية حقوقها والتصدي لما يمارس عليها من قهر واعتداءات متكررة واستغلال متعدد.

 

الجمعة 08 دجنبر 2017./ 21 ربيع الاول 1439 هج.

 

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…