ضعف العقيدة الديمقراطية

د. محمّد الرميحي

لا جماعة سياسية في عصرنا الحديث في الفضاء العربي تقع ضحية ظروف نشأتها كما هي جماعة الإخوان المسلمين، فظروف النشأة تكاد تقعد هذه الجماعة عن الإنجاز في أماكن مختلفة وصلت فيها إلى السلطة منها السودان وأخيرا مصر، وذلك بسبب خصامها مع العصر أولا، وثانيا ربط السياسة مع الأيديولوجيا، الأولى متغيرة والثانية جامدة. من هنا نجد أن (الحركة) في تجليتها المختلفة سرعان ما تصطدم بالواقع وتقدم الضحايا ثم تختفي تحت الأرض. ولم تُهيأ لها (مراجعات) حقيقية تخرجها من مأزق النشأة والتقوقع.

 

 

إخوان الخليج الأوائل كانوا ثمرة احتكاك المؤسس وجماعته بطليعة من سافر إلى مصر من أبناء الخليج للتعليم في نهاية العقد الثالث، وكل من الرابع والخامس من القرن الماضي، فعاد هؤلاء إلى أوطانهم مؤسسين فروعا صغرت أو كبرت لتلك الحركة السياسية الدينية الاجتماعية. ووجدت تلك الفروع حاضنة خصبة من جانبين، الأول هو أن المجتمع في الخليج بطبعه متدين، وثانيا بسبب الخلاف لاحقا مع عبدالناصر وجدت عناصر الحركة المهاجرة تعاطفا ما هيأ لها الاستقرار.

 

ولدينا وثيقة هامة كتبها أحد الرحالة العرب في بداية القرن العشرين الماضي تؤكد علاقة أهل الخليج بالإسلام، المؤرخ أمين الريحاني في كتابه ملوك العرب، وجد في ذلك الوقت أن الإرسالية المشيخية الأمريكية المسيحية، قد طوقت الجزيرة العربية بعدد من الإرساليات التبشيرية، في كل من البصرة والكويت والبحرين ومسقط، كتب وهو المسيحي العربي يقول: أنصح الإرساليات أن تهتم بالتطبيب والتعليم أما التبشير فعليهم أن يتركوه جانبا، حيث إن هؤلاء البدو الفقراء لن يتركوا دينهم قط!

 

في البداية كان لحركة الإخوان قبول من شباب المنطقة ومن سلطاتها التي لم تتبين البعد السياسي للدعوة، كما حرص الضيوف أن لا يثيروا كثيرا من الغبار السياسي حول نشاطهم، فكانوا بمعنى من المعاني (موالين) امام تهديد التيار القومي الناصري سريع الانتشار، والأفكار اليسارية التي أصبح بعضها مسلحا كما هو حال «حركة تحرير الخليج» التي حاربت بمعونة القوميين ثم اليساريين في اليمن الجنوبي وفي عُمان، وكانت مشكّلة من خليط من شباب الخليج، وقتها كانت الحرب ضد ما سمته النفوذ البريطاني والمؤسسات الحاكمة في وقت واحد، بالمقارنة بين التيار القومي اليساري المسلح بأفكار «انقلابية» وبين تيار سياسي إسلامي مسالم، كان تفضيل السلطات هو الأخير، خاصة أن أفكاره مقبولة في النسيج الاجتماعي المتدين الذي ينبذ كل الكافرين بالله وبأولي الأمر. هنا اختلط الهدف السياسي مع الدعوة الدينية وقليل تبين الفرق بينهما.

 

سقط الإسلام السياسي في الخليج في مغبة الضبابية إبان احتلال العراق للكويت، فقد اتخذ الإسلام السياسي العربي (القيادة الدولية للإخوان المسلمين ومرشد الإخوان في مصر) وعدد من تنظيماتهم المحلية، موقفا شبه مؤيد لصدام حسين في احتلاله للكويت، ما دعا إخوان الكويت – تحت نقد شعبي مرير- إلى التنصل من التنظيم الدولي، وهم مستمرون في تفاصلهم معه -على الأقل علنا- حتى اليوم. كما يشتبه كثيرون في ولاء ما من قبل الإسلام السياسي الشيعي إلى طهران وولاية الفقيه، الأمر الذي يرفع نسبة الشك بين مكونات المجتمع الواحد.

 

وصول إخوان مصر إلى السلطة جاء بالحقبة الثانية للإسلام السياسي السني في الذراع كما يقال (الأولى كان احتلال السوفيت لأفغانستان)، حيث إن مصر بلاد كبيرة ومؤثرة في فضائها العربي، وقد نشر كاتب هذا البحث مقالا في الخليج تايم -دبي- في الأسبوع الأول من شهر يونيو 2012 قال فيه بالحرف الواحد، بعد شرح مطول حول تأثير إخوان مصر على إخوان الخليج «مما لا شك فيه أن الموجة الأيديولوجية التي تصيب مصر الآن، سوف تصل إلى العقائديين من إخوان الخليج، إما من خلال تمتين الشبكة القديمة من المؤيدين، وإما من خلال توسيع تلك الشبكة بمناصرين جدد، يشجع ذلك انتصارهم في مصر وتونس وغيرها من بلدان الربيع، ما سوف ينتج عنه توتر عال في علاقتهم بالحكومات المحلية».

 

وفي ندوة نظمها مركز الدراسات الاستراتيجية في البحرين في 18 من يناير 2012، أشار قائد عام شرطة دبي ضاحي خلفان، في مداخلته من ضمن ما أشار اليه، «قوى الإسلام السياسي» التي قال عنها «إنها قوى انقلابية ترنو إلى الحكم المباشر والسيطرة على الأنظمة، وليس المشاركة السياسية معها» وكان ذلك أول تصريح علني لرجل خليجي مسؤول بهذا الوضوح، بعد أن بقي التحذير من الإسلام السياسي في الخليج حبيس الصالونات المغلقة بين بعض النخب، الأمر الذي أثار على الرجل زوبعة من النقد في وسائل الاتصال الجديدة، خاصة بعد إشارته إلى إخوان الكويت، لم ينفك منها لفترة طويلة، وذلك تأكيدا للانتشار والحشد الذي يتميز به محاربو الإسلام السياسي في الخليج في مدن الخليج المختلفة.

 

سبق نقد خلفان للإخوان تصريحات مشهورة للمغفور له ولي عهد المملكة العربية السعودية السابق الأمير نايف بن عبدالعزيز في نوفمبر وديسمبر عام2002 ، حيث أنحى بالائمة على حركة الإخوان التي احتضنت المملكة رجالها في الستينيات من القرن الماضي وقت مطاردتهم ، «فانتهزوا السماحة والكرم، وعملوا على بث أفكارهم التي لا تنسجم مع الإسلام الصحيح» إشارة إلى نشاطهم في المملكة العربية السعودية، وكان ذلك الخطأ الذي اكتشف متأخرا من السلطات السياسية الخليجية حيث تبين لها أن الإخوان كانوا دائما أكثر ولاء لمعتقداتهم السياسية، منهم إلى مراعاة المعروف الذي قدم لهم، أو العرف السائد. عطفا على ذلك، تصريح وزير خارجية الإمارات الشيخ عبدالله بن زايد في شهر أكتوبر 2012 الذي أشار إلى تورط التنظيم الدولي للإخوان، فيما أعلن عنه من اشتباه بعض مواطني الإمارات في الإخلال بأمن الدولة، وهو أمر ظهرت تفاصيله مؤخرا. إلا أن المتابع يرى أن علاقات الإخوان مع السلطات المختلفة في الخليج تمر بيوم بارد ويوم ساخن، حسب تقلبات النشاط السياسي في المنطقة والإقليم، بعض نشاطها يُسكت عنه بسبب التوظيف السياسي له، عندما يكون مرحبا بنتائجه، كحربه للأفكار اليسارية إن نشطت، وبعضها مسكوت عنه بسبب عدم الرغبة في إثارة الجوار مثل إيران (الإسلام السياسي الشيعي)، وبعض جماعته ملاحق عندما يشتد الصراع مع مؤسسة الدولة .

 

تيار الإسلام السياسي في الخليج -كما هو في بلاد عربية عديدة- ليس واحدا، كما أن الخلاف بين بعض فصائله بات معروفا، وهو ينقسم إلى عدد من الانقسامات بعضها ليس مسيسا بالمعنى الحديث للتسييس والآخر مسيس حتى العظم، ولكنه مرتكز على الإسلام ، فهو ينتمي إلى حركة سياسية سرعان ما يقول بنقيض ما تؤمن به سياسيا. هناك اليوم أيضا حركة سلفية مثلها مثل الإخوان ليست على «قلب رجل واحد» كما يقال، دخلت العمل السياسي في الكويت – على سبيل المثال في ثمانينيات القرن الماضي وفي البحرين أيضا. إلا أن نهاية ربط الإسلام بالسياسة، كما ظهر حتى الآن لم يتبلور تماما في الفضاء العربي، فلا يزال هناك صعود وهبوط ونقاش ساخن في كل من مصر وتونس، ليس كما حدث مثلا في تركيا، حيث وضعت السياسة على قواعد حديثة مرتكزة على صناديق انتخاب واستعداد لتبادل السلطة من أجل خدمة العمل العام.

 

قوى سياسية وصلت إلى الحكم في بعض البلاد العربية تدثرت بالإسلام السياسي وحصدت أُكلا مرا سيئ الطعم، كما حدث في السودان، حيث اختلط العسكري بالديني بالسياسي، فضاع نصف السودان ونصفها الآخر مرشح للضياع، ولم تكن التجربة الإيرانية -على خلافها المذهبي- بمشجع أيضا لحكم على خلفية إسلامية. تركيا هي الاستثناء، ولكن أيضا مرت بمراحل تشدد عمياء، أثناء صعود أربكان إلى الحكم – خرجت بتجربة أنهم في تركيا يشكلون تجربتهم، إلا أنها ليست خالية من المنقصات..

 

دول الخليج ليست على سوية واحدة من التطور السياسي، أي وجود دستور وفضاء انتخابي واضح وقوانين تنظم العمل السياسي، فالتيار الإسلامي السياسي بالضرورة سيكون على شاكلة الوضع الهلامي الموجود في كل دولة، فهو منظم وغير منظم، بعضه له علاقاته مع الدولة ولكن غير واضحة كما أن بعضه معارض، كما أن مطالبه العامة ليست على سوية واحدة. الخطورة في العمل السياسي القائم على ادعاء الإسلام كغطاء، أنه بالضرورة -مذهبي- في مجتمع تعددي، أي فيه أكثر من مذهب، سائد أو أقلية، يسبب الارتكاز السياسي على إسلام سياسي مخاطرة فوق أنه يسير باتجاه معاكس للتاريخ في شرذمة نسيج المجتمع أولا كما يجرح مبدأ تكافؤ الفرص الذي هو قاعدة أساس للعمل السياسي (احتكار فصيل للإسلام يجعل من الآخرين خارجين عنه بالضرورة). وبالتالي هو نقيض للعمل السياسي الوطني الحديث الذي يسعى إلى خدمة المواطن كونه مواطنا لا بسبب مذهبه.

 

بعد التطورات الأخيرة في مصر، خروج السلطة من يد فصيل مهم في الإسلام السياسي (الإخوان المسلمون) شعرت فروع الإسلام السياسي بالقلق، من المهم ملاحظة ردات فعل إيران من جانب وتركيا من جانب آخر على ما حدث في مصر، وكلاهما على اختلاف، ولكنهما متفقتان على إدانة ما حدث خوفا من (الموجة الثانية) أن تصيبهم. في الخليج لم يكن (الإخوان) مرحبا بهم في قطاعات واسعة من نخبة الخليج، إلا أنهم تحالفوا مع قطاعات وطنية في وقت ما (كما في الكويت) ومع السلطة في وقت آخر، فأتيحت لهم مواقع قيادية وتأثير اجتماعي، إلا أن قشعريرة يمكن ملاحظتها في صفوفهم وفي ردود فعلهم العصبية على ما حدث في مصر، ومن يراقب وسائل الاتصال الاجتماعي وطريقة تدخلهم في إدانة ما حدث وحتى استخدام ألفاظ غير لائقة وبعضها غيبية في تفسير الحدث المصري، يعرف أنهم مصابون بالقلق الشديد.

 

الصدام الذي يمكن أن يحدث في مصر إن تطور إلى عنف، خسرت هذه الجماعة كل الجهود التي بثتها، حيث يمكن القول وقت ذلك إنهم ليسوا فاقدي المشروع السياسي المعقول لبناء الأوطان فحسب، إنما أيضا إنهم ضعيفو العقيدة الديمقراطية التي تتوق إليها الشعوب في عالم يتجه إلى العولمة.

 

أرى أن إخوان الخليج في مأزق، كما هو الجناح الأكبر في مصر، أما الفرصة فقد سنحت لهم، ولكنهم أضاعوها.

عن موقع التجديد العربي

‫شاهد أيضًا‬

الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس يناقض أفكاره الخاصة عندما يتعلق الأمر بأحداث غزة * آصف بيات

(*) المقال منقول عن : مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية ألقى أحد الفلاسفة الأكثر…