ظهرت زيارة العاهل المغربي لقطر، قادما إليها من الإمارات، كما لو أنها محاولة أخلاقية في رأب صدع تجاوز فتقه كل حد. وفي أحسن الأحوال بدت، في آراء وتحليلات عديدة متسرعة، كما لو أنها زيارة سنونوة تطمح أن يكون حضورها وحده كفيلا بإعلان مجيء الربيع. والحال أن المسعى المغربي، في أشد ذروات الأزمة الخليجية – الخليجية، يسير، كما تقرأه نخبة الرباط ودبلوماسيوها، في انسجام تام مع منطق الخيط الناظم للمملكة، منذ تنبأ الملك بأزمة الخليج، منذ أزيد من سنة خلت على الأقل. ففي قمة الرياض، في أبريل 2016، والخليج مجتمع برمته حول مائدة نقاش ما بعد هدوء نسبي لعاصفة الربيع العربي، كان ملك المغرب قد وضع احتمالاتٍ كارثية لتطور الوضع، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، عندما وضع “جدول الأعمال” للفاجعة. ولعل الزاوية التي تحدث منها ملك المغرب، في ارتباط وثيق بتطورات الوضع الإقليمي لدول الشرق الأوسط وغربه، هي زاوية الاستقرار، والتوقعات الكارثية بالنسبة لها في هذه القمة الأولى من نوعها في تاريخ المنطقة، فعَمَّ تساءل العاهل المغربي؟
تحدّث وقتها إلى الملوك والأمراء بلغة واضحة، بما تحمله من حدّةٍ عن وجود “تحالفات جديدة”، قد تؤدي إلى التفرقة، وإلى إعادة ترتيب الأوراق في المنطقة، وهي تحالفات تمس، إقليميا، الوجود الإيراني في القرار الخليجي. ودوليا العودة القوية لأمريكا على أساس ضرب التماسك المحلي، واستراتيجيا تصفية القضية الفلسطينية وتغيير الخصومة التاريخية من عربية/إسرائيلية إلى سنية/ شيعية.
التحالفات المذكورة حرفيا عرّفها الملك بأنها في الحقيقة “محاولات لإشعال الفتنة، وخلق فوضى جديدة، لن تستثني أي بلد. وستكون لها تداعيات خطيرة على المنطقة”. وربما لن تقل هذه التداعيات عما جرى في حرب الخليج الأولى، وبعدها الثانية، ثم تزامن الحرب الثالثة ومخلفاتها مع تفكيك بعض الدول عقب الربيع العربي. وجاء التحذير المغربي من اقتراب وقوع “خريف كارثي” يضع اليد على خيرات باقي البلدان العربية، بعد تفكيك سورية والعراق وليبيا، ومحاولة ضرب التجارب الناجحة لدول أخرى.
وفي خطاب الملك تساؤل محوري: ماذا يريدون منا؟ يرد عليه هو نفسه بجواب محوري لا يقل جرأة: “نحن أمام مؤامرات تستهدف المس بأمننا الجماعي. فالأمر واضح، ولا يحتاج إلى تحليل. إنهم يريدون المس بما تبقى من بلداننا التي استطاعت الحفاظ على أمنها واستقرارها، وعلى استمرار أنظمتها السياسية”. و”إنهم” لا تعود إلى روسيا، ولا الصين، ولا الهند، ولا غيرها من الدول الصاعدة، لأن الملك تحدث عن تنويع العرض الجيواستراتيجي معها، كما دعا بوضوح إلى تجاوز التركيبة السياسية السابقة عن الوضع الحالي إلى أخرى أكثر تنويعا.
السيادة في القرار أمام أي تحالفات ممكنة، قد كان الملك محمد السادس، منذ سنة، يتوجه بالنقد إلى دول القوى العظمى، لكنه نقد ينسحب أيضا على القوى الإقليمية، في السياق الحالي، وهو ما يعني أن القرار لا يمكن أن يكون تابعا بدون أفق سيادي. ومن زاوية أخرى، يتحرّك المغرب ضمن خريطة طرق واعية، ومحدّدة المعالم. ومفادها بأن الزيارة المغربية ومساعيها تكشف بالفعل أن المغرب لا يرى أن الطريقة التي تعالج بها القضايا العالقة بين الدول طريقة سليمة، بقدر ما أنها تسرِّع المؤامرة!
هناك اليوم وضع جديد للدول التي تسعى إلى أن تكون صاعدة، يشكله التحدّي الكامن في عودة الجيوسياسة أو الجغرافيا السياسية، والمغرب، بنظر محللين عديدين، “ولكي يجد موقعه في النظام العالمي، لا بد لسياسته الخارجية من أن تكون قادرة على بناء وتقوية شبكاته العلائقية، إضافة إلى الانخراط القوي والمشاركة النشيطة في المنظمات والمؤتمرات الدولية”. ولا يمكن أن يتم ذلك بمعزل عن فهم الدوائر الأساسية في الديبلوماسية المغربية وسياسة البلاد الخارجية. وقد سبق للمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (ايفري) أن نبه إلى أن السياسة الدولية للمغرب، ولأسباب استراتيجية، “تركز أساسا على أربعة أبعاد جوهرية: تموقع إقليمي من أجل تقوية التوازن في منطقته (معالجة الأزمة الليبية مثلا). فضاء للموارد الاستراتيجية الكلاسيكية، والذي يضم الدول التي تربطها علاقات اقتصادية وسياسية تاريخية، وضمنها دول الخليج، وفي هذا الباب بالذات، أقرب إلى القوى الداعية إلى العمل السلمي والديبلوماسي. ومنها القوى الأوروبية الأساسية، ألمانيا وفرنسا، مع ما نعرفه منذ مدة عن مواقفها الحذرة، إن لم نقل محتاطة، من التوجه الأمريكي الجديد الذي يقوده دونالد ترامب.
ويدرك المغرب، في محصلة التحليل، أن تفكيكا جديدا لأي دولة في الشرق، سيكون له “دومينو” في الغرب الإسلامي العربي، لن يسلم منه أي كان، مهما كانت “القبة” الديبلوماسية التي يحتمي تحتها! كما أنه سيكون إيذانا بالفصل الثاني من الجحيم بعد جحيم الفترة الماضية.