في تراثنا القديم تكثر الثنائيات الموروثة مثل النقل والعقل، السمع والعقل، الأصل والفرع، التفسير والتأويل، النص والواقع، التنزيه والتشبيه، الإيمان والعمل ، الراعي والرعية، إلى آخر هذه الثنائيات المعرفية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية، وقد زاد الفكر الحديث ثنائيات أخرى: العلم والإيمان، الأصالة والمعاصرة، التراث والتجديد، السلفي والعلماني، الديني والمدني، ثم وقعنا، تالياً، في استقطاب حاد عندما تحولت بعض هذه الثنائيات إلى خصومة فكرية وصراع سياسي، بل وإلى سفك دماء متبادل أحياناً بين فريق يكفّر وفريق يخوّن.
وتقوم ثنائية الدين والسياسة على منطق «إما… أو»، إما التوحيد أو الفصل بينهما. وقد مرت المجتمعات بالتجربتين معاً، فما استراحت للحلين، لا التوحيد، ولا الفصل، وما زال النقاش مطروحاً إثر تجارب إنسانية جديدة في لاهوت التحرير في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية انطلاقاً من المسيحية وبعض الديانات الآسيوية مثل البوذية والهندوسية، والحقيقة أن هدفهما واحد في بعض الأحيان، وهو الصراع على السلطة، والخلاف فقط في الأداة، الدين أم السياسة.
وفي بدايات العصر الحديث، حدث رد الفعل، الفصل بين الدين والسياسة من أجل تقليم أظافر الدين في الغرب وحصر مجاله في العبادات، وترك المعاملات للسياسة. للدين مجاله الروحي، وللسياسة مجالها المادي. الدين يعد الإنسان للآخرة. والسياسة تعده للدنيا. قام الدين على مكتسبات العصر الحديث مثل العقل فأصبح العقل أساس النقل عند ديكارت واسبينوزا وليبنتز وكانط وهيجل. وكتب كانط أن «الدين في حدود العقل وحده»، واستند الدين إلى العلم والتجربة وقوانين الطبيعة من أجل تفسير المعجزات كظواهر طبيعية ما زلنا نجهل قوانينها.
كما تم إرجاع الدين إلى الإنسانيات بعيداً عن الإلهيات منذ الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر، وأصبحت العلوم الإنسانية، كعلم النفس والأخلاق، والاجتماع والسياسة والاقتصاد أي الأيديولوجيا بديلاً عن الدين. والسياسة تعطي الأولوية للمعاملات. وتترك العبادات أموراً شخصية لحريات الأفراد، واقتصر الدين على دور الوعظ والإرشاد داخل دور العبادة، والتبشير في العالم غير المسيحي خاصة في أفريقيا وآسيا في الخارج، فالدين يصبح خالياً من أي مضمون اجتماعي، وقد يمثل اغتراباً عن هذا العالم، والسياسة تصبح مصالح ومنافع خالصة بلا قيم ولا مبادئ. الرأسمالية تقوم على الاستغلال، استغلال الفرد للجماعة، والاشتراكية تقوم على القهر، قهر الجماعة للفرد، وقد تقوم على عنصرية مثل الفاشية والنازية والصهيونية.
والحقيقة أن الدين ليس مجرد عبادات أو أخرويات، بل هو تصورات للعالم، اجتماعية واقتصادية، فهي رؤية اجتماعية تقوم على العدل والمساواة وعدم استغلال الغني للفقير أو السماح بالتفاوت الطبقي الشديد.
والسياسة تتضمن مذاهب سياسية كالليبرالية والاشتراكية والقومية، وقد يتعصب الناس لها، ويحاربون من أجلها، ويقسمون العالم إلى معسكرات شرقية وغربية متخاصمة متعادية، بل ومتحاربة كما يفعل أهل الطوائف الدينية.
والخطورة إذن في خلط الدين والسياسة هي تبرير أحدهما للآخر لتحقيق نفس الهدف وهو السلطة، أو بمعنى أدق التسلط. الهدف واحد وإن اختلفت الوسيلة، مرة الدين، ومرة السياسة. وخطورة الفصل هي عيش الإنسان في عالمين لا صلة بينهما. الأول عالم يقال إنه روحي شخصي ذاتي رأسي، أقرب إلى التدين أو التزهد. والثاني عالم مادي اجتماعي موضوعي أفقي، أقرب إلى الدنيا أو الحياة الحلوة، ولا يمكن الجمع بين العالمين بدعوى «أعطِ لقيصر ما لقيصر، ولله ما لله». والنتيجة إما أن يتجه الإنسان إلى الرهبنة بدعوى، أو أن يكون علمانياً مدنياً بدعوى أن للبيت رباً يحميه، وأنتم أعلم بشؤون دنياكم.
في الدين رؤية اجتماعية كما حدث في اليهودية أيام موسى وفرعون، وتحرير اليهود من سيطرة من كان يقول أنا ربكم الأعلى. والمسيحية رؤية روحية ضد تحويل اليهود المعبد إلى متجر، والتلاعب بالشريعة، وأخذ الربا وخضوعهم للرومان.
وكما قال غاندي: يوجد في العالم ما يكفي كل إنسان، ولكن لا يوجد في العالم ما يكفي جشع إنسان واحد، والإسلام آخر مرحلة في تطور الوحي، والرسول، صلى الله عليه وسلم، آخر الأنبياء، والعلماء ورثة الأنبياء اعتماداً على العقل والعلم، على النظر والتجربة. الدين والسياسة يحققان أهدافاً مشتركة، تقدم الإنسانية ورقي المجتمع. يعملان معاً في لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا. وقد حاول الأفغاني ذلك قبل أن تنطفئ الجذوة بسبب فشل الثورة العرابية. التحدي هو الخروج من الثنائية التقليدية، الدين والسياسة، والحلين التقليديين، التوحيد أم الفصل إلى طريق ثالث يحافظ على المجتمع وحدته وعلى الثقافة فاعليتها، ولا يوظف الدين في أمور السياسة كما تفعل الجماعات المتطرفة.