الربا بين فقه الواقع وفقه النص: فصل المقال فيما بين وزر الدائن والمدين من انفصال

د.محمد إنفي

بداية، أستسمح أهل الاختصاص في العلوم الدينية والشرعية (علوم القرءان وعلوم الحديث وعلم أصول الفقه وعلم المقاصد وغيرها) وأعترف أني لست مؤهلا علميا لادعاء صفة مجتهد. لكن عدم اختصاصي في إحدى العلوم الشرعية لا يمنعني من التفكير والخوض في أمور المجتمع الذي أنتمي إليه وفي أوضاع الناس وأحوالهم (حتى وإن كان الأمر يتطلب الاختصاص والاطلاع الواسع، والذي لا أدعيه)، خصوصا وقد يسر الله لي حظا وافرا من التعليم (تعلما وتعليما) وقدرا محترما من المؤهلات الأكاديمية (دكتوراه الدولة في الآداب الفرنسي) . وقد أنال بهذا الفضول، على الأقل، أجر المجتهد حين يخطئ، وربما الأجرين إن كان في رأيي شيء من السداد وشيء من الفائدة للعباد.
وبما أن الموضوع متعلق بالربا، وبالضبط بما يطلق عليه بالقروض الربوية، كما يوحي بذلك العنوان، فإني أتصور أن أول شيء علي أن أواجهه هو مقولة “لا اجتهاد مع النص”؛ لذا أبادر بالقول بأنها دعوة إلى الخمول الفكري والفقر المعرفي والانغلاق الثقافي؛ وهي، على كل حال، مقولة لا تصمد أمام الوقائع التاريخية والدينية، كما سنحاول تبيان ذالك فيما بعد.
لن نغرق في التعريفات الأكاديمية ولن نسهب في التفاصيل المتعلقة بالعناصر المكونة لعنوان هذه المساهمة المتواضعة؛ ذلك أن هدفنا ليس سوى محاولة إبراز التناقض الحاصل بين الواقع الذي نعيشه وبين بعض الأحكام “الفقهية” التي تتغافل هذا الواقع وتتعالى عليه بحجة “ثبوت النص”. لذا، نكتفي، بالقول، فيما يخص تعريف “فقه الواقع”، بأنه، من جهة، علم ومعرفة بأحوال المسلمين وظروف عيشهم؛ ومن جهة أخرى، هو اجتهاد متواصل لتقديم الحلول الشرعية التي تتناسب ومستجدات الحياة العصرية بكل ضغوطاتها ومشكلاتها وتعقيداتها. أما فقه النص، فنعني به الفقه الذي يتعالى عن الواقع ويتجاهل المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية وغيرها ويجعل الأحكام كلها لا زمنية، بحيث يقدم لمشاكل مسلمي القرن الواحد والعشرين نفس الحلول التي أتت بها النصوص الدينية (القرءان والسنة) لمواجهة الأمراض الاجتماعية والأخلاقية لمجتمع ما قبل البعثة المحمدية؛ تلك البعثة التي كانت ثورة على الأوضاع السائدة آنذاك ليس فقط في مجال العبادات ولكن أيضا في مجال المعاملات، سواء كانت هذه المعاملات تتصل بمجال التجارة والمال أو بمجال العلاقات الإنسانية بين الأفراد والجماعات. ويكفي المرء أن يعرف بعض وجوه الحياة الاقتصادية والاجتماعية لمجتمع الجزيرة العربية قبل الإسلام ليدرك ما تحقق، بفضل الرسالة المحمدية، لصالح فئات اجتماعية كانت تعيش أقسى درجات الظلم والاستبداد والاستغلال (نكتفي بالإشارة إلى وضع الأنثى والعبيد بمجتمع الجاهلية)؛ كما يكفي المرء أن يتمعن في بعض النصوص القرآنية ليدرك أن هدف البعثة المحمدية، إلى جانب توحيد الله تعالى وعبادته، هو بناء مجتمع جديد قوامه العدل والحرية والكرامة، يحتل فيه العقل والعمل مكانة سامية؛ ذلك أن الله عز وجل قد كرَّم الإنسان وحمَّله مسئولية أفعاله، كما حمَّله مسئولية إعمار الأرض بالعمل البدني والفكري.
وقد اخترنا موضوع الربا (بمفهومه الشرعي: الزيادة في أشياء مخصوصة) لكون اللجوء إلى القروض البنكية أصبح واقعا يفرض نفسه على الأفراد كما على الدول، بحيث أصبحت المؤسسات البنكية تلعب دورا كبيرا وأساسيا في الدورة الاقتصادية في كل بلدان المعمور، سواء من حيث ترويج الأموال ومصاحبة رجال الأعمال أو من حيث كونها مجالا لتشغيل الكفاءات واستقطاب الخبرات. فالمؤسسات المصرفية أضحت جزءا لا يتجزأ من البناء العام للدول والمجتمعات. وقد أنشئت في العالم الإسلامي بنوك سميت إسلامية لكونها تقدم منتوجات بنكية، يقولون عنها بأنها غير ربوية.
لا جرم أن الربا محرم بنصوص قرآنية صريحة وواضحة وبأحاديث نبوية صحيحة؛ لكن إذا ما استحضرنا التطور العمراني الناتج عن النمو السكاني واستحضرنا ما وصلت إليه المجتمعات الحديثة في مجال تنظيم العلائق والمعاملات بين الأفراد والمؤسسات، بما فيها المعاملات المالية، واستحضرنا كذلك ما أصبح للحياة العصرية من متطلبات، أدركنا حجم الهوة بين النص والواقع. واعتبارا للدور الذي تلعبه المؤسسات البنكية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، نتساءل: هل، بالفعل، باب الاجتهاد مغلق في هذا المجال؟ وهل الاجتهاد المقاصدي المبني على جلب المصالح ودرء المفاسد، عاجز عن استلهام الدروس التي يقدمها “عمر ابن الخطاب” رضي الله عنه ويقدمها النص القرآني من خلال بعض الأحكام التي جعلها التطور التاريخي والمجتمعي في حكم الملغاة؟
لنتمعَّن في بعض مواقف “عمر بن الخطاب”، الخليفة الثاني لرسول الله (ص)، علَّنا ندرك ما عليه علماؤنا (أو الذين يعتبرون أنفسهم كذلك) من تقليد يكبِّل العقل ويوقف التفكير ويفسح المجال، واسعا، أمام التحجُّر والتعصب والانغلاق الفكري الذي يقود مباشرة إلى التكفير بدل التفكير. لم يتقَّيد “عمر بن الخطاب” رضي الله عنه، في تنفيذ الأحكام، بمنطوق النص القرآني بمعزل عن المصلحة الاجتماعية للدولة الناشئة؛ كما أنه لم يتقيَّد بتقليد الرسول صلى الله عليه وسلم وخليفته “أبي بكر الصديق” رضي الله عنه. لقد كان “عمر بن الخطاب” ينظر في العلل التي توجب الأحكام؛ وحين يتبيَّنُ له أن العلة لم تعد قائمة أو أن شروط تنفيذ تلك الأحكام غير متوفرة، كان يوقف العمل بها، حتى وإن ثبتت بآيات قرآنية صريحة. وقد تعامل بنفس المنطق مع أقوال الرسول وأفعاله.
ودون الدخول في تفاصيل علل الأحكام أو المصلحة التي من أجلها تم توقيف العمل بها، نورد تلك المواقف التي تميَّز بها “عمر” في تعامله مع النص القرآني. لقد منع الصدقات عن المؤلفة قلوبهم ومنع توزيع الغنائم على المقاتلين ومنع الزواج بالكتابيات وأوقف تنفيذ حد السرقة. وهي كلها ثابتة بنص قرآني صريح وواضح. ثم إنه، ولنفس العلة، أي استحضار المصلحة الاجتماعية، لم يتعامل بمنطق إكرام من أكرمه الرسول، بحيث نزع من “بلال المزني” ما زاد عن حاجته من الأرض التي أقطعه إياها الرسول (ص) قيد حياته؛ كما أنه، وبنفس الثقة في صواب رأيه، رد الاعتبار لمانعي الزكاة الذين حاربهم أبو بكر الصديق، وذلك بإعادة أموالهم إليهم والإفراج عن أسراهم.
وإذا تمعَّنَّا في بعض الأحكام القرآنية التي جعلها التطور العمراني والتقدم البشري غير ذي معنى، ندرك أن الباري عز وجل، الذي لا تخفى عليه خافية، قد جعل من ذلك حجة لأهل العقل للتَّمييز بين ما هو أزلي وبين ما هو زائل؛ وبتعبير آخر للتمييز بين العقائد والمعاملات. فإذا كانت العقائد لا تتغير بتغير الواقع، فإن المعاملات هي بنت الظروف التي تنتجها. وأستحضر هنا حكمين يتم ترديدهما، كما يفعل الببغاء: الأول يتعلق بمحظورات الحج، ونقصد به قتل الصيد خلال الحج والعمرة، والثاني بتعلق بعتق الرقاب. فلو سألت فقيها، بل وحتى عالما، أو أرست سؤالك إلى أحد المواقع الإليكترونية الإسلامية، عن محظورات الحج، كن متيقنا بأنك ستجد في الجواب، من بين ما ستجده، قتل الصيد، وكأن التاريخ توقف عند أسباب نزول الآيات التي تحرمه وأن الحجاج ما زالوا يسافرون مشيا على الأقدام أو على البعير وبإمكانهم مصادفة الصيد على الطريق أو في جوار مكة المكرمة والمدينة المنورة التين عرفتا تطورا عمرانيا مطردا، انتفت معه كل مظاهر البداوة. فأين سيجد الحاج الصيد حتى يقتله؟ هل حين تحط به الطائرة في مطار جدة أم في مطار المدينة المنورة؟
أما الحكم المتعلق بعتق الرقاب ( وينطبق نفس الشيء على ما ملكت اليمين)، وهو مثالنا الثاني، فقد انتفى من تلقاء نفسه بسبب التطور الحاصل في المجتمعات البشرية التي اهتدت إلى سن قوانين تحظر الرق. وحتى إذا كانت بعض الدراسات تؤكد استمرار وجوده في بعض البلدان، فإنه لم يعد بالشكل الذي كان عليه في الجاهلية وصدر الإسلام؛ فلا أظن أنه لا زال هناك أسواق لبيع وشراء العبيد؛ لذا، أعتقد أنه لم يعد ممكنا تطبيق كفارة قتل النفس بتحرير رقبة مؤمنة (وحتى غير مؤمنة). فهذا الحكم الرباني بنص قرآني لم يعد له وجود، من جهة، لكون الإسلام، بحكم سنه لسياسة تحرير العبيد والعمل على تجفيف منابع الرق قد يسر القضاء على الظاهرة؛ ومن جهة أخرى، بحكم التطور الحاصل في مجال حقوق الإنسان بمفهومها الكوني التي أصبحت تُعنى، إلى جانب الحق في الحياة والحق في الحرية…، بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية… للأفراد والجماعات. ومع ذالك، فسوف لن تعدم جوابا إذا سألت، في يومنا هذا، عن كفارة القتل الخطأ، بأنه عليك تحرير رقبة مؤمنة وكأنه لا زال هناك سوق نخاسة، يكفيك التوجه إليه لشراء عبد أو أمة ثم تحريره(ها)، فتكون قد كفرت عن خطئك.
وبما أن القياس يعتبر عند الجمهور أصل من أصول الشريعة، وبما أن الاجتهاد (أو على الأقل التأويل الذي أعتبره نوعا من الاجتهاد) لا يُمنع إلا في أمور العقيدة التي هي توقيفية، بينما يبقى مباحا في كل الأحكام الفرعية، فإني أردت، بكل ما سبق، أن أخلص إلى أن تحريم القروض البنكية، أو بالأحرى الفوائد المترتبة عنها، دون تمييز بين أنواع القروض، هو حكم يتقيد بالنص، في إلغاء كلي للواقع الذي أصبح يفرض تعاملا آخر غير ذلك الذي كان معمولا به في السابق. إنه ليس من المنطقي في شيء أن نجعل القرض من أجل الاستثمار أو القرض من أجل السكن في نفس مستوى ما يسمى بالقروض الاستهلاكية. وحتى في هذا النوع، هناك مستويات: فالذي تسمح له ظروفه المادية بشراء خدمة معينة (achat de service) دون أن يقع في ضيق (مثلا اقتناء سيارة للتنقل الشخصي والعائلي وتغييرها)، لا يمكن أن يُنظر إلى تعامله مع مؤسسات القروض بنفس المنظار الذي نرى به تعامل الموظف البسيط أو العامل الذي يلجأ لقرض الاستهلاك إما لقضاء عطلة أو لشراء أغراض منزلية أو غير ذلك.
شخصيا، لا أفهم لماذا كل المجامع الفقهية تجمع على عدم التمييز بين أنواع القروض بالفائدة، خصوصا وأن الربا يدخل في فقه المعاملات وليس في فقه العبادات. وبما أن الله سبحانه وتعالى لا يحلل ولا يحرم إلا لحكمة أو لنقول لعلة، فإنه من فضله على عباده أنه جعل في القرآن الكريم أحكاما ونصوصا تجاوزها التاريخ حتى في فترة الرسالة نفسها (ونقصد بذلك المنسوخ من القرآن)، فما بالك بالقرون المتوالية. فلو تمعَّنَّا جيدا في الآيات القرآنية المتعلقة بالربا، لوجدنا أن الخطاب موجه للأفراد وليس للمؤسسات؛ كما أنه موجه للذين يغتنون عن طريق الربا وليس للذين يضطرون للاقتراض بالربا ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً ؛ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ؛ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) ، بينما الفتاوى في الموضوع لا تميِّز بين الفرد والمؤسسة، ولا تأخذ في الاعتبار التطور الحاصل في المجالين الاقتصادي ولاجتماعي وما فرضه هذا التطور من بنيات وتنظيم لتسهيل تقديم الخدمات التي يحتاج إليها الاقتصاد والمجتمع؛ وفي هذا، إما قصور في الفهم وإما انغلاق في التفكير.
لا بد أن نشير إلى أن للربا تاريخ؛ وهو محرم في جميع الديانات السماوية، لكونه ظلم وجور وتحكم في أموال الناس بالباطل. ويعتبر في الإسلام من الموبقات السبع، أي من أكبر الكبائر لأنه مفسدة للحياة الاقتصادية والاجتماعية ومفسدة للحياة النفسية والخُلقية للأفراد المتعاملين به. لكن هل كل القروض البنكية هي ربا؟ وهل علم المقاصد القائم على جلب المصلحة ودرء المفسدة ليس له دخل في الموضوع؟ وهل التفكير المقاصدي قاصر على التمييز بين القروض التي تفيد، حقا وفعلا، المقترض وبين تلك التي تجعله عبدا للجهة المقرضة؟…
وإذا ما نظرنا إلى أنواع القروض من باب جلب المصلحة ودرء المفسدة، سنجد أن ما يسمى بقروض الاستهلاك، والتي أصبحت تؤسس من أجلها شركات، هي عين الربا، لأنها، من جهة، لا تستهدف إلا الربح، والربح السريع والفاحش، ومن جهة أخرى، كثيرا ما تتسبب في ضياع أفراد وتشريد أسر؛ بينما نرى أن للقرض من أجل الاستثمار والقرض من أجل السكن منفعة تعود ليس فقط على الفرد المستفيد من القرض، بل وأيضا على المجتمع.
يعرف الجميع أن الاستثمار يحتاج إلى رأسمال وأن الرأسمال قد لا يتوفر إلا باللجوء إلى المؤسسات البنكية. بالطبع، المؤسسات المالية لا تمول المشاريع بدون مقابل، لكنها، بالمقابل، لا تقدم القرض إلا على أساس دراسة الجدوى التي تبرز حظوظ نجاح المشروع وكذا على أساس ضمانات تكفل للبنك استرجاع أمواله واستخلاص فوائدها. وأعتقد أن البنوك الإسلامية تدخل شريكا في المشاريع الاستثمارية (وغير الاستثمارية)، بينما البنوك التقليدية تقدم القرض وتستخلص الأقساط بالفوائد المتفق عليها.
لست مؤهلا للحديث لا على النظام المالي الإسلامي ولا على النظام المصرفي التقليدي. لكني مهتم بهذا الموضع لما له من أهمية بالنسبة لما نحن بصدده. وقد وجدت ضالتي في مقال ذي قيمة علمية عالية للدكتور “أحمد الخمليشي” بعنوان”التمويلات البديلة هل تستحق وصفها بالإسلامية؟”(نشر بموقع حركة التوحيد والإصلاح)؛ ذلك أن هذا المقال يكشف، بالحجة والبرهان، التحايل الذي تمارسه البنوك المدعوة بالإسلامية لمراكمة الأرباح على حساب الزبناء، سواء المودعين لأموالهم عند البنك أو الذين يقترضون هذه الأموال لحاجتهم إليها: فهي تمنح للمودعين فائدة أقل من تلك التي تمنحها البنوك التقليدية وتأخذ من المقترضين لها فائدة أكبر؛ مما يجعل أرباح البنوك الإسلامية، حسب “الخمليشي”، تصل إلى أكثر من ضعف أرباح البنوك التقليدية؛ تلك الأرباح التي يستفيد منها، على شكل علاوات وامتيازات، مدراء البنوك الإسلامية ومساعديهم “الذين يكونون عادة من كبار المساهمين في البنك”. وقد بين الدكتور “أحمد الخمليشي” كيف أن ما يعرف ببيع المرابحة التي توصف بـ”معاملة إسلامية” هي مخالفة لكل المذاهب الفقهية، ولا يرى فيها مصلحة غير مصلحة رأسمال البنك (الإسلامي) الذي يرفع أرباحه إلى أكثر من ضعف الأبناك الربوية؛ ونفس الشيء ينطبق على المعاملة المسماة بـ”الـتأجير المنتهي بالبيع” الذي، كما يقول “الخمليشي”، “فيه من الشروط التعسفية ما لا يبرره إلا الرغبة الجامحة للرأسمال في الربح”.
وهذه المعاملة الأخيرة (أي “التأجير المنتهي بالبيع”) هي التي تهمني، بالأساس، من جهة، لارتباطها الوثيق بالقرض من أجل السكن، ومن جهة أخرى، لكونها موجودة في البنوك التقليدية وبشروط أيسر. وإذا أردت أن أبسط أمام القارئ دواعي هذه المغامرة بالكتابة في مجال له فرسانه وله أهله، فسأجد نفسي مضطرا للدخول في بعض التفاصيل التي قد يختلط فيها الذاتي بالموضوعي، والديني بالاجتماعي والاقتصادي…
شخصيا أصاب بالحيرة أمام البدائل التي تقدم على أساس أنها شرعية، إذ التمعن فيها يجعلك تتساءل إن كان الأمر فيه استغفال للناس واحتقار لذكائهم، أم أنه انغلاق وانفصال عن المجتمع ومتطلباته وعجز عن بذل ما يكفي من الجهد الفكري للتمييز بين ما ينفع الناس وبين ما هو محكوم عليه بأن يذهب جفاء. لقد شاءت الصدفة أن أستمع إلى خطيب جمعة وهو يتحدث، بسخرية، عن إحدى الوصالات الإشهارية (“الشراء بثمن الكراء”) للسكن الاقتصادي، قبل أن أقرأ مقالا، في موقع جماعة العدل ولإحسان، بعنوان “الشراء بثمن الكراء. دعوة للتأمل وأرضية للاستبصار” لصاحبه “عبد العظيم صغيري”. وكلا الموقفين يجعلك تتساءل عما إن كان هؤلاء الناس وأمثالهم يفكرون بالفعل في مشاكل صغار الموظفين ومحدودي الدخل، حين يقترحون بدائل مثل “البيع المؤجل” و”بيع المرابحة” و”عقد الاستصناع” و”الشركة المتناقضة”، بحجة أنها إسلامية، أو الاقتصار على الإيجار باعتباره الأيسر والأسلم!!. فحين تتأمل منعرجات وشكليات البدائل التي يقترحونها عليك لتصل إلى تملك شقة، لا يمكن لك أن تملك نفسك من التفكير في التحايل (ونحن نعلم أن لا حيلة مع الله) ليس على الشارع فقط، بل وأيضا على المواطن البسيط الراغب في امتلاك شقة تشعره بالاستقرار وبالأمان وبانتسابه إلى هذا الوطن.
لست أدافع عن القروض الربوية، لكني لست مقتنعا بما تقدمه البنوك الإسلامية من بدائل. ومقالة الدكتور “أحمد الخمليشي” المشار إليها أعلاه، والمشهود له بغزارة علمه وعمقه وبرجاحة عقله وحصافة رأيه، قد رفعت عندي كل غموض. فقد بيَّنت بكل وضوح تهافت ما يسمى بالبنوك الإسلامية على الربح الذي بسببه حرم الباري عز وجل التعامل بالربا. وإذا كان الأمر كذالك، فما العمل؟ وما الأفضل لمن ليس له مسكن في ملكه؟ هل البقاء تحت رحمة أصحاب العقار المعد للكراء الذي، حسب القانون، تتغير قيمته بنسبة مؤوية بعد كل ثلاث سنوات (8%)، أم تحت رحمة البنك الذي يقرض له ثمن الشقة على أن يسدد هذا القرض على دفعات لتصير الشقة في ملكه عند أداء آخر دفعة؟
بالرجوع إلى الآيات القرآنية المتعلقة بموضوع الربا (والتي أوردناها آنفا) والتمعن في صيغها وتركيبها اللفظي، نستغرب كيف أن أغلب المتحدثين عن الربا لا يميزون بين الدائن والمدين، أي بين المقرض الآكل للربا، وبالتالي الآثم شرعا، وبين المقترض الموكل للربا لحاجة، وبالتالي فهو معذور بحكم هذه الحاجة. وقد نهى القرآن الكريم الدائنين عن أكل الربا وحثهم على إمهال المدين إلى ميسرة، بل ورغَّبهم في العفو عن المدين المعسر والتنازل له عن الدين الذي عليه في قوله تعالى: “وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ”. فالمعني، إذن، بإثم الربا هو الذي يستفيد من عائداته، وليس المقترض الذي يوجد في وضع المحتاج (أي في موقع ضعف) ولا خيار له إلا الإذعان لشروط المرابي، إذا أراد أن يلبي حاجة من حاجاته الملحة، ومنها امتلاك سكن شخصي الذي يهمنا في هذا المقام. وقد سرني كثيرا أن أجد تناولا للموضوع عند أحد المشاييخ (وهو “الشيخ متولي إبراهيم صالح”)، يؤكد (بالحجج الفقهية التي، شخصيا، أعدمها، في مقال بعنوان “حرمة الربا على الآكل دون الموكل.. وعلى المقرض دون المقترض”، “اليوم السابع”، 2 سبتمبر 2012)، من خلاله، أن القرآن لا يحرم على المقترض إعطاء الربا للمقرض (الآخذ والآكل) ولا يتوعده بعذاب لا في الدنيا ولا في الآخرة. وقد اعتبر الحديث المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (“لعن الله آكل الربا وموكله”) افتراء عليه، مبرزا ذلك من خلال 10 حجج تثبت عدم صحة إسناده. وبدل أن ينتبه أصحاب العقول المتحجرة والمنغلقة إلى كون النصوص القرآنية لا تتحدث عن المدين، بل اقتصرت على الدائن الآثم بأكل أموال الناس بغير حق، ويفهموا أن النص النبوي لا يمكن أن يتعارض مع النص القرآني لأن الرسول الكريم لا ينطق عن الهوى، وبالتالي لن يحدِّث إلا بما يتناسب والنص القرآني، فإنهم راحوا يهاجمون الشيخ “متولي” ويتهمونه بالقول الفاضح.
وقد كان لعدم استحضار مصلحة “موكل الربا”( أي المدين) من قبل الفقهاء والعلماء آثار اجتماعية لا يقدر أهميتها إلا من خبر الإيجار وخبر التأجير من أجل التمليك. فمن يعتبر بأن امتلاك مسكن لا يعد ضرورة من الضروريات التي تجوِّز الاقتراض من الأبناك التقليدية، هو دون شك لم يعان من مرارة الإيجار ومشاكله؛ وهذا هو، في غالب الظن، حال العلماء والفقهاء (بمجامعهم الرسمية ونواديهم المذهبية) الذين لا يبذلون مجهودا لتيسير الأمور أمام شبابنا المسلم الذي يتوق إلى الاستقرار العائلي والاجتماعي ولا يُتعبون أنفسهم في التفكير في المشاكل الاجتماعية الحقيقة (المثل الشعبي المغربي يقول: “الكرش الشبعانة ما كتفكر في الكرش الجيعانة”) التي يواجهها شبابنا والتي لن تحل لا بالوعظ والإرشاد، ولا بإقفال أبواب الاجتهاد. فالشباب المتدين الذي يوجد بين مطرقة الحاجة إلى السكن الشخصي وبين سندان الفتاوى التي تحرم الاقتراض من الأبناك، يحتاج إلى الاستقرار النفسي والاجتماعي الذي يعتبر ركيزة أساسية في الاستقرار الروحي. فترغيب الشباب في الاكتفاء بالكراء، بحجة أن مدة الاقتراض تكون طويلة؛ مما يجعل المقترض يعيش، كما يقول “عبد العظيم صغيري”، “مهموما ومنشغلا بكيفية أداء هذا القرض دون أن يؤثر ذلك على مستوى عيش أسرته؛ وهذا ما يصعب تحقيقه مع عدم استقرار الأسعار وتنامي مطالب الحياة اليومية”(المقال المشار إليه أعلاه، ص 2)، هو تغرير بهم وخداع لهم؛ ذلك أن الكراء هو الذي يمثل الهم الحقيقي عند نهاية كل شهر ويشكل عبئا ثقيلا على ميزانية الأسرة. وهذا لا يفهمه إلا الذين عانوا منه.
ولتقديم مثال ملموس، أشير إلى أنني، شخصيا، قضيت 15 سنة تنقلت فيها بأسرتي الصغيرة بين أحياء المدينة ومنازلها. وكان الانتقال من منزل إلى آخر لأسباب مختلفة؛ فيها ما هو ذاتي وفيها ما هو موضوعي ( ومن بينها المطالبة بالزيادة في سومة الكراء) . لكن ما هو مؤكد هو أننا لم نذق طعم الاستقرار (المادي والمعنوي) ولم نشعر بالاطمئنان إلا بعد أن يسر الله لنا الاشتراك في مشروع سكني من إنجاز شركة تابعة للدولة وبفضل قرض من بنك تساهم فيه الدولة أيضا. ورغم أن الفترة التي أتحدث عنها لم يكن فيها ما هو متاح الآن من تسهيلات في مجال القروض التي تقدمها المؤسسات البنكية، فقد استطعنا أن نمتلك شقتنا في ظرف 10 سنوات وأقمنا فيها 16 عشرة سنة قبل أن نبيعها بثمن السوق (الذي لم يقل عن ضعف مبلغ القرض والفوائد المترتبة عنه)، مما يمكن اعتباره سببا كافيا لتبرير الفوائد التي استخلصها البنك على القرض الذي قدمه لنا. وإذا احتسبنا المدة التي قضيناها في تلك الشقة والسعر الذي بعناها به، سيتضح، بالملموس، بأن الكل مستفيد من هذه العملية: البنك والزبون. وهو، على كل حال، نوع من الاستثمار.
لكن حين أقرا الكلام الوارد في هذه الفقرة (“إن التجربة العملية بيَّنت أن المقترض بالربا يدخل في طاحونة الدُّيون المُرَكَّبة، فيرهن عمره وذمَّته ومستقبل أسرته لمؤسسات الربا التي لا ترحمُ فيه إلاًّ ولا ذمَّة. ولكم أن تسألوا الذين استفادوا- والأصح أن نقول الذين اكتووا- بهاته القروض كيف يعيشون حياتهم اليومية؟ ما ذا عن مصير أبنائهم؟ كيف هي علاقتهم الزوجية؟ ما ذا عن نسبة المشاكل المادية والمعنوية قبل القرض وبعده؟ سلوهم عن التوتر والضغط بل والرعب الذي يخيم عليهم هَمّاً بالليل وذلا بالنهار”، ص.3) من مقال السيد “عبد العظيم صغيري” المنشور بموقع جماعة العدل والإحسان ، قبل أن يحيلنا على ما سماه بـ”البدائل الشرعية” والتي هي، في واقع الأمر، “حيل شرعية'”، كما بينا ذلك آنفا، أسأل نفسي: من منا يعرف الواقع أكثر وأجدر بالحديث عنه؟ أنا الذي مررت بتجربة الإيجار لمدة 15 سنة وتجربة تسديد القرض من أجل السكن لمدة 10 سنوات، أم هو الذي ربما لم يعرف الإيجار ومشاكله وذله وليس بحاجة إلى تبعات القرض للحصول على سكن؟ الشيء المؤكد هو أن هذا الكلام يبيِّن الفرق الشاسع بين من يفكر في مشاكل المجتمع ويحاول أن يسهم في حلها وبين من ينظر إلى هذه المشاكل من الزاوية الضيقة التي سجن نفسه فيها ناسيا أو متناسيا قول الرسول الكريم: إن ” أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس”. والنفع هنا قد يكون ماديا، حين نيسر لمن هو في حاجة إلى مسكن أسباب الحصول عليه؛ وقد يكون معنويا حين نرفع عن ذلك الشاب المسلم الملامة في طلب السكن بواسطة القرض وهو مطمئن بأنه غير آثم وغير مأزور. فالذنب، إن كان هناك ذنب، تتحمله الشركات العقارية والمؤسسات البنكية، سواء التقليدية منها أو الإسلامية، التي تتعاون على استغلال حاجة الناس إلى السكن، فتجني من ورائها أرباحا طائلة.
إنه لا يسعنا، في ختام هذه المقالة، إلا أن نسجل، من جهة، النفاق الذي يطبع المؤسسات المالية (ومناصريها) التي تستغل الدين الإسلامي بوصف معاملاتها بإسلامية، وما هي بالإسلامية في شيء، تماما كما تفعل الأحزاب السياسية التي تدعي (في استغلال فاضح للدين) المرجعية الإسلامية فقط لتستميل أصوات الناخبين؛ ونسجل، من جهة أخرى، عجز علمائنا وفقهائنا (بالمفهوم العلمي وليس بالمفهوم الشعبي)عن استحضار رجاحة عقل “عمر بن الخطاب” وحصافة رأيه (والتي ما أحوجنا إليها!) في تعامله مع قضايا المجتمع، حتى وإن خالف فيها نصوصا قرآنية صريحة. أيعجز علماؤنا عن استيعاب كل التطورات التي عرفتها المجتمعات البشرية، فيُعوزهم الإدراك بأن “عمر بن الخطاب”، كان، قبل 14 قرنا، ليس فقط أكثر منهم قدرة على فهم قضايا ذلك العصر، بل وأيضا على تأسيس منهج التعامل مع قضايا المستقبل من منظور تحقيق المصالح ودرء المفاسد؛ مما يجعلنا نعتقد بأنه الأجدر بالإفتاء لعصرنا من علمائنا، سواء الرسميين منهم أو غير الرسميين ، الذين يسجنون أنفسهم في نصوص، مثل من يقبع في برج عاجي، علَّمنا القرآن الكريم نفسه أن ننظر إليها من باب التطور والتاريخ، ما لم تكن متعلقة بالأمور التوقيفية، أي العقدية .
فلو أمعنا النظر في ألآية الكريمة “الذين يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا”، لفهمنا لماذا أحل الله البيع وحرم الربا الذي إثمه عظيم لدرجة أن آكله لا يقوم (يوم القيامة، بالطبع) إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس؛ لما ذا؟ لأنه أكل أموال الناس بالباطل، مبررا فعله هذا بكون ذلك مثله مثل البيع، ما دام الأمر يتعلق بالربح. لكن الربح المستخلص من البيع حلال والربح الناتج عن الربا حرام. لماذا؟ لأن عملية البيع يكون فيها البائع والمشتري في مستوى الند للند (فهما طرفان يبحثان عن عقد “صفقة” بشروط متفاوض بشأنها ومتراض عنها). فالبائع يطلب السعر الذي يناسبه والمشتري يبحث عن السعر الذي يرضيه؛ وليس للبائع أية سلطة على المشتري الذي إذا لم يرقه الثمن راح يبحث عن هدفه عند تجار آخرين. وليس ملزما بالشراء من أحد؛ وقد يعدل عن الشراء أو يؤجله، الخ؛ بينما المرابي يفرض شروطه المجحفة على “زبونه”، مستغلا، في ذلك، حاجته وضعفه، بحيث لا يكون أمامه من خيار سوى قبول تلك الشروط. فالربا هو، إذن، استغلال وظلم وابتزاز…
وإذا أخذنا في الاعتبار هذا الفهم المتواضع لعمليتي البيع والتعامل بالربا، أدركنا العلة في تحريم الربا (كما ندرك أيضا العلة في تحليل البيع). وبما أن مصلحة الطرف الضعيف (المحتاج) في التعامل بالربا، هي السبب في التحريم، فإننا، باسم هذه المصلحة بالذات، ندافع عن جواز القرض من أجل السكن، لما للسكن من دور في الاستقرار النفسي والعائلي، رغم ما يمكن أن يتطلبه ذلك من تضحيات مادية تستفيد منها الشركات العقارية والمؤسسات البنكية، في إطار ما يمكن اعتباره تبادلا للمنافع وتحقيقا لشرط البيع. وبهذا، نكون قد أوَّلنا الآية الكريمة “وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا” بما يتماشى ومصلحة الناس، سواء عملا بمقولة “حيثما توجد المصلحة فثم شرع الله” أو بمقولة “حيثما يوجد شرع الله فثم المصلحة”. وعلى الله قصد السبيل.

يوليوز2013

‫شاهد أيضًا‬

الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس يناقض أفكاره الخاصة عندما يتعلق الأمر بأحداث غزة * آصف بيات

(*) المقال منقول عن : مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية ألقى أحد الفلاسفة الأكثر…