موضوع انتهاك حقوق الإنسان واقع في كل مجتمع. تختلف أسبابه من مجتمع إلى آخر. كما أن الأسس النظرية لحقوق الإنسان تختلف أيضاً طبقاً لثقافات المجتمعات ، وبنيتها وتطورها. وتندر هذه الكتابات لأنها لا تهدف إلى نتيجة سريعة ومباشرة. ولا تصب في المصالح العاجلة لكل المراكز والهيئات التي تعمل دفاعاً عن حقوق الإنسان. تعمل على الأمد الطويل لتأصيل حقوق الإنسان في الثقافة الشعبية بعد إعادة بنائها بحيث ترتكز على الإنسان وليس على الله تحقيقاً للقصد الإلهي الذي هو الإنسان، مخاطبته ومحاورته. فالإنسان هو موضوع العلم الإلهي، خلق العالم له، وسُخرت قوانين الطبيعة لصالحه. فانتهاك حقوق الإنسان في الواقع إنما سببه غياب مفهوم الإنسان كبعد مستقل في تراثنا القديم، الرافد الرئيس في الثقافة الشعبية التي تقوم بدور الأيديولوجية السياسية في المجتمعات التراثية مثل المجتمعات الإسلامية. ليست القضية إذن قضية نصوص من أجل قراءتها من منظور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فيحدث التطابق بينهما إذا حسنت النية كما يفعل الوعاظ المثاليون أو لبيان الاختلاف كما يفضل العلمانيون الغربيون وبعض المستشرقين. إنما القضية في هذه النصوص عندما تحولت إلى ثقافة عبر التاريخ، ثقافة السلطة في مقابل ثقافة المعارضة.
لقد غاب الإنسان كمفهوم مستقل في تراثنا القديم. وإذا حضر فإنه يكون باستمرار في علاقة مع الله وكأنهما طرفان متبادلان في علاقة “إما… أو”. ولما كانت الإرادة الإلهية هي الأقوى توارت الإرادة الإنسانية وأصبحت معلقة على الإرادة الإلهية ومشروطة بها. ظهر ذلك في علم أصول الدين أي في علم العقائد. فأساسه نظرية الذات والصفات والأفعال والأسماء الإلهية. ثم تأتي الموضوعات الإنسانية كطرف لها مثل الحرية الإنسانية فتصبح مشروطة بالإرادة الإلهية كما هو الحال في الكسب الأشعري، والعقل الإنساني يأتي مشروطاً بالنقل أي بالنص أو بالنبوة التي تهدي العقل أو تكون وصية عليه. ويكون ماضي البشرية في تاريخ الأنبياء، ومستقبلها في المعاد، والبعث بعد نهاية العالم وانقضاء الزمان. والثواب والعقاب ليس قانوناً إنسانياً للاستحقاق بل هو رحمة إلهية، شفاعة للبعض وبشارة للبعض الآخر.
صحيح أن النسق الاعتزالي أكثر قرباً من الإنسان. فهم أهل التوحيد والعدل. وأصولهم الخمسة أكثر اتجاهاً نحو الإنسان في خلق الأفعال، والحسن والقبح العقليين، والوعد والوعيد طبقاً لقانون الاستحقاق، والمنزلة بين المنزلتين في اعتبار مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً وليس كافراً بل عاصياً، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رقابة على الإمام وتوجيهاً للحكام. وقد استمر ذلك حتى الحركات الإصلاحية في العصر الحديث مثل محمد عبده الذي ظل أشعرياً في التوحيد وإن أصبح معتزلياً في العدل.
وانقسمت علوم الحكمة أي الفلسفة ثلاثة أقسام: المنطق والطبيعيات والإلهيات كما وضعها ابن سينا وغابت الإنسانيات كمبحث مستقل. الإنسان نفس وبدن، البدن في الطبيعيات، والنفس في الإلهيات في نظرية الاتصال بالعقل الفعال.. وكان الفارابي قد بحث من قبل السياسة المدنية ووضع أسس المدينة الفاضلة. وهي أقرب إلى السياسة الإلهية. فرئيس المدينة هو الإمام أو النبي.
النفس الإنسانية أكثر تطوراً من النفس الحيوانية التي هي أكثر تطوراً من النفس النباتية. فإذا كان للنفس النباتية ثلاث قوى: الغاذية والنامية والمولدة، فإن النفس الحيوانية تزيد عليها الحس الخارجي، الحواس الخمس، والحركة، الحركة الحيوانية. ثم تزيد النفس الإنسانية على النفس الحيوانية، الحس الداخلي، الحواس الخمس الداخلية، التذكر والتوهم والتخيل والحفظ، والحركة الإرادية والنفس الناطقة المفكرة القادرة على الاتصال بالعقل الفعال. لم يؤد تحليل النفس إذن في علوم الحكمة القديمة إلى أن تصبح نفساً مستقلة. عالماً إنسانياً فريداً، وليست مجرد ظاهرة طبيعية أو وعاء لاستقبال المعارف. وأدى تميزها عن البدن إلى أن تصبح نفساً طائرة بلا استقرار ولا وطن.