كثيرة هي الأسئلة المحيرة التي تثيرها فاجعة السوق الأسبوعي بسيدي بوعلام بإقليم الصويرة، التي أودت بحياة 15 امرأة (والعدد مرشح للزيادة)، بسبب التدافع الذي حصل خلال عملية توزيع بعض المساعدات الغذائية التي لا تسمن ولا تغني من جوع. فهي، من جهة، مساعدة سنوية، حسب ما هو مكتوب في لافتة الجمعية المشرفة على العملية؛ ومن جهة أخرى، فقيمة المساعدة لا تتعدى 160 درهما، حسب ما جاء في بعض المواقع الإليكترونية.
وما وقع بسيدي بوعلام يسائل السلطات المحلية والإقليمية (والوطنية أيضا) والمنتخبين والجمعية المشرفة على توزيع المساعدات المذكورة. فهل أرواح المواطنين رخيصة عند هذه الجهات إلى هذا الحد حتى يتم إهمال التنظيم والاستهتار بأمن المواطنين وسلامتهم؟ ثم لا بد من التساؤل عن الأهداف الحقيقية لهذه العملية.
وكيفما كانت الأجوبة التي يمكن أن يقدمها التحقيق القضائي والإداري، فإن فاجعة سوق سيدي بوعلام بإقليم الصويرة، قد عرَّت، من جهة، حجم الفقر والهشاشة، الذي تعاني منه فئات عريضة من مواطنينا؛ ومن جهة، فقد كشفت عن الوجه الحقيقي والبشع للذين يستثمرون، سياسيا، في هذا الخصاص المهول. ومما يزيد من هول الفاجعة، أن هذا الاستثمار في الفقر والهشاشة يتم باسم العمل الخيري والإحساني.
ما نعرفه عن العمل الإحساني، هو أنه عمل يُتَقَرَّبُ به إلى الله. ولن يقنعني أحد بأن الأسواق هي المكان المناسب لمثل هذا النوع من العمل. فليس وجه الله هو المقصود من توزيع بعض المساعدات الغذائية على النساء (فقط) بالسوق الأسبوعي من قبل جمعية يرأسها مقرئ وخطيب؛ بل المقصود هو شيء آخر، خاصة وأن المعني بالأمر كان حريصا على توثيق عملية التوزيع بالفيديو؛ ناهيك عن كون اختيار المكان لإنجاز هذه العملية (الجماعة الترابية لسبت سيدي بوعلام التي يسيرها “البيجيدي”) ليس لا بريئا ولا مجانيا.
نعرف جيدا أساليب محترفي الرشوة الانتخابية، الذين يراهنون على الزبناء، سواء كان هؤلاء الزبناء عرضيين (أي الذين يبيعون أصواتهم بمقابل مادي خلال الانتخابات) أو كانوا دائمين؛ أي أولائك الذين يتم ضمان تبعيتهم بواسطة عمل خيري أو مساعدة اجتماعية أو غيرها من الوسائل المستعملة لاستمالة الفئات الهشة والمستضعفة. فهؤلاء يشكلون خزانا للأصوات الانتخابية المضمونة. لذلك، تجد تجار العمل الإحساني (أو تجار الدين) دائمي الارتباط بهذه الفئات من خلال مساعدات لا تسمن ولا تغني من جوع، لكنها تضمن ولاءهم وأصواتهم الانتخابية بسبب الدفع المقدم.
لقد سبق لي أن كتبت مقالا بعنوان “تجار الدين والاستثمار في الغفلة” (انظر “أنوار بريس”، 2 يونيو 2016). والغفلة نوع من أنواع الهشاشة؛ فهي تعني، من بين ما تعنيه، غياب الفطنة واليقظة والحذر، الخ. وبمعنى آخر، فالغفلة تعني غياب الفهم الصحيح للواقع؛ أي غياب الوعي في بعده السياسي والثقافي والفكري والسيكولوجي والسوسيولوجي… مما يجعل المُغفَّل أو المُستغفَل، ليس فقط سهل الاستغلال، بل وأيضا يشكل ضمانة حقيقية لاستمرار هذا الاستغلال، شريطة أن لا يتحسن وضعه الاجتماعي والثقافي (أو يتحسن بمقدار).
لقد أصبح الاستثمار السياسي في الفقر والهشاشة، معطى سوسيولوجيا يستحق الدراسة والتفكيك من قبل المختصين. ويتوجَّب على الدولة التي ساهمت، بإرادة ووعي، على انتشار هذه الظاهرة خلال ما يعرف بسنوات الجمر والرصاص، أن تواجه بحزم- إن كانت تريد، بالفعل، القضاء على الفساد- الذين يستغلون بؤس المواطنين لبناء مجدهم السياسي.
فتجار الانتخابات (وتجار الدين أو تجار العمل التضامني، هم أيضا تجار انتخابات) لا يعملون (ولا يشجعون) على خلق المشاريع المدرة للدخل التي يمكن أن تضمن للفرد أو المجموعة دخلا قارا يحفظ الكرامة ويضمن الاستقلال المادي والاستغناء عن المساعدات؛ بل يشجعون على التبعية بحيث يفضلون إعطاء المواطن المحتاج السمكة بدل أن يعلِّموه كيف يصطادها.
وإن حدث وتمت مساعدة بعض الأشخاص على كسب قوتهم اليومي (تقديم قروض صغيرة للباعة المتجولين، مثلا)، فذلك لا يتم أبدا لوجه الله؛ بل من أجل ضمان تبعيتهم وأصواتهم الانتخابية وأصوات ذويهم. فالعمل الإحساني، عند تجار الدين، ليس إلا غطاءا لأهدافهم السياسية. وبهذا، يجعلون منه وسيلة من وسائل تعطيل البناء الديمقراطي الحقيقي ببلادنا.
إن الاستثمار السياسي في الفقر والهشاشة هو عمل مذموم أخلاقيا وسياسيا ودينيا. وعلى الدولة أن تحصِّن مؤسساتها بمحاربة كل أشكال الريع؛ بما في ذلك الريع الانتخابي الذي ليس إلا وجها من وجوه استغلال معاناة المواطنات والموطنين.
مكناس في :