في تأصيل مفهوم العلمانية .. قراءة مقارنة في التجربتين النهضويتين العربية و التركية |
الخميس, 20 حزيران/يونيو 2013 |
إذا عدنا إلى قراءة التجربة الإسلامية، من منظور تاريخي، فإننا نجد أن الإسلام تجربة دينية و ليست البتة تجربة سياسية، و القرآن يؤكد ذلك (و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، و العالمين هنا تأكيد على كونية الدين الإسلامي لا على ربطه بنظام سياسي معين، و ذلك لأن رسول الإسلام )عليه السلام( لم يكن رئيس دولة أو ملكا و لكن كان نبيا. أما الدولة التي تأسست في عهده فلم تكن غاية بل وسيلة فقط. فلا يرببنك هذا الذي ترى أحيانا في سيرة النبي صلى الله عليه و سلم، فيبدو لك كأنه عمل حكومي، و مظهر للملك و الدولة، فإنك إذا تأملت لم تجده كذلك، بل هو لم يكن إلا وسيلة من الوسائل التي كان صلى الله عليه و سلم يلجأ إليها تثبيتا للدين و تأييدا للدعوة ” و يضيف العالم الإسلامي الجليل (علي عبد الرازق): و الحق أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، و بريء من كل ما هيأوا حولها من رغبة و رهبة، و من عزة و قوة. و الخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا و لا القضاء و لا غيرهما من وظائف الحكم و مراكز الدولة، و إنما تلك كلها خطط سياسية صرفة. (1) إن مفهوم الدولة الدينية، التي تحتكر السلطتين المادية و الروحية، غير قائم في الأدبيات السياسية الإسلامية الأولى، بل هو نتيجة للعصور التالية، التي اعتمد خلالها النص الديني كوسيلة في الصراع السياسي، عبر تأويله لخدمة مصالح المتصارعين. و لعل هذا، هو ما جعل الثقافة الإسلامية من بين الثقافات المؤهلة للفصل بين السلطتين الروحية و المادية، و بالتالي التأسيس للدولة المدنية في مقابل الدولة الدينية. إن هذا المدخل، هو الذي ينطلق منه حزب العدالة و التنمية، في التأسيس للنهضة التركية على أساس اعتماد روح العلمانية بعد تخليصها من الإيديولوجية، و هذا المدخل، في الحقيقة، هو نفسه الذي انطلقت منه النهضة العربية إبان مرحلة القرن التاسع عشر، قبل وأدها على يد التيار السلفي النصي؛ الذي اعتلى المنصة مدعوما بأموال البترودولار. و لعل إطلالة خاطفة على ما تركه جيل النهضة، من المشرق العربي و مغربه، لتجعلنا ندرك قيمة المنجز الفكري و السياسي الذي خلفه الفكر النهضوي، سواء مع محمد عبده و علي عبد الرازق، أو مع علال الفاسي و محمد بن الحسن الحجوي … و كلها أسماء فكرية رائدة، ساهمت بقوة في التأسيس للنهضة العربية، من منظور إصلاحي يقوم على أساس الاجتهاد في قراءة النص الديني ليستجيب لحركية الواقع. و قد خلف هذا الجيل أعمال فكرية رائدة تسعى إلى ترجمة روح الإسلام، من منظور علمي رصين يستفيد من منجزات علم أصول الفقه، و خصوصا ما ارتبط منه بالفكر المقاصدي. و قد ترجم العالم الأزهري الرائد (علي عبد الرازق) هذه التطلعات النهضوية، القائمة على الاجتهاد في قراءة النص الديني، بقوة في كتابه الذي قلب الموازين الفكرية و السياسية السائدة في الفكر الإسلامي (الإسلام و أصول الحكم) و الذي كان ما بعده مخالفا تماما لما قبله. فقد تناول الكتاب مبحث الخلافة و الإمامة في الفكر و التاريخ الإسلامي، ثم خلص إلى نتيجة مفادها أن هذا النظام غريب عن الإسلام، و لا أساس له في الأصول و المصادر المعتمدة للدين عند المسلمين، من كتاب و سنة و إجماع. كما أن الكتاب صدر خلال مرحلة انتقالية في التاريخ الإسلامي، عرفت سقوط نظام الخلافة العثمانية، و تعويضه بنظام قومي علماني يقوده أتاتورك، فقد ألغي نهائيا نظام الخلافة العثمانية في 3 مارس 1924 و ذهب بآخر صورها التي استمرت أكثر من أربعة قرون، و خلا العالم الإسلامي السني، للمرة الأولى من تاريخه، ممن يحمل لقب الخليفة أو حتى لقب سلطان المسلمين (..) و تطلعت لتجديد هذه الخلافة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي دوائر و أوساط متعددة الاتجاهات و متمايزة في الأهداف (2) إن ما يبدو هو أن الفكر الإسلامي، بمختلف اتجاهاته، كانت تحدوه نفس الرغبة في تحقيق انتقال فكري و سياسي، يعتبر ضروريا للقطع مع مجموعة من الأنماط الفكرية و السياسية القائمة على روح الاستبداد الشرقي القديم، و المدعومة زورا و بهتانا بالنص الديني المقدس، الذي يتم تأويله على المقاس لخدمة مصالح سياسية ضيقة. و بالعودة إلى جذور النهضتين العربية و التركية، نجدها ترتبط بمرحلة تاريخية واحدة؛ توحدت خلالها الطموحات في التأسيس لنموذج فكري و سياسي جديد، مع اختلاف في المنطلقات طبعا، فإذا كان التيار السلفي المطعم بروح ليبرالية، هو الذي قاد معركة بناء النهضة العربية، من منظور يسعى إلى تجاوز الوضع السائد عبر العودة إلى الأصول النقية للإسلام، مع تطعيمها بروح العصر القائمة على العلم و العقلانية، فإن التيار القومي العلماني المرتبط بالعسكر هو الذي قاد النهضة التركية، من منطلق مغاير يقوم على تحقيق قطيعة تامة مع إرث الإمبراطورية العثمانية، و منه تحقيق نفس القطيعة مع الانتماء الإسلامي لتركيا، و استبداله بانتماء جديد لأوربا . و من مكر التاريخ، يبدو أن مصير التيارين معا كان مصيرا تراجيديا، حيث تم الحسم مع كل المنجز الفكري و السياسي النهضوي عربيا، و تحقق نكوص خطير نحو الخلف عبر إعادة صياغة الواقع الفكري و السياسي المتردي القائم على ثبات النص ضدا على حركية الواقع، و هذا ما جسده الفكر السلفي النصي، الذي تحكم في تصورات الكثير من الحركات الإسلامية على امتداد العالم العربي. أما في تركيا فإن النهضة الاتاتوركية كانت تحمل معها، منذ البداية، عوامل نهايتها و ذلك، لأنها عملت من منطلقات إيديولوجية تحكمت في منجزاتها الفكرية و السياسية. لقد عمل أتاتورك على تطبيق شكل من العلمانية لا يستجيب للمقومات الحضارية للشعب التركي، لقد كان الداء الذي تسرب إلى الجسد العثماني مرتبطا بالدين، حسب أتاتورك، لذلك يجب استئصال أصل الداء، عبر استئصال المكون الديني من المجتمع. لكن، إذا كانت النهضة التركية قد قامت على أسس خاطئة، منذ البداية، الشيء الذي تطلب إعادة صياغة هذه الأسس كي يستقيم مسار النهضة، و هذا ما تحقق مع الجمهورية التركية الثالثة، التي يقودها الآن بثبات تيار إسلامي جديد، فإن النهضة العربية لم تكن خاطئة المنطلقات، في الحقيقة، و لكنها جاءت خلال مرحلة فكرية و سياسية و اجتماعية دون مستوى التطلعات الفكرية و السياسية النهضوية، حيث يمكن التأكيد على أنها جاءت سابقة لأوانها، و تفسير ذلك أنها كانت نهضة يغلب عليها الطابع الفكري، الأمر الذي كرس طابعها النخبوي، و لم تتسرب إلى البنية الاجتماعية العربية. و لعل ما يدعم طرحنا هذا، هو أن المحاولات الإصلاحية التي يقودها حزب العدالة و التنمية، الآن في تركيا، تنسجم بشكل كبير مع الطرح النهضوي العربي، سواء على مستوى تصوره لعلاقة الدين بالدولة، أو على مستوى تصوره لتموقع تركيا كدولة مسلمة في العالم؛ أو على مستوى تصوره لحضور المكون الديني في المجتمعات المسلمة. و هذا، ما يقيم مسافة شاسعة بين تصوره و تصور الحركات الإسلامية العربية، ذات الطابع السلفي النصي الذي يتناقض مع التصور النهضوي العربي، قبل أن يتناقض مع التصور الإسلامي-الحركي التركي، الذي يجسده حزب العدالة و التنمية. و إذا كان حزب العدالة و التنمية التركي قد نجح في صياغة ديمقراطية و علمانية محافظتين تستجيبان معا لمكانة تركيا الإستراتيجية في العالم، فإن الحركات الإسلامية/السلفية، في العالم العربي، ما تزال لحد الساعة عاجزة عن استيعاب هذه المنظومة الفكرية و السياسية الجديدة، و ما زال الكثير من رموزها يرفضون منطلقات الفكر النهضوي العربي الذي أسس، منذ القرن التاسع عشر، لمنظومة فكرية و سياسية واضحة لسير الدولة و المجتمع. و لعل هذا العجز، هو ما ينعكس على أرض الواقع، حيث تقف مجموع حركات الإسلام السياسي العربية عاجزة عن زحزحة الواقع، بل إن بعضها دخل اللعبة السياسية السائدة، و تماهى معها حتى أصبح من أهم عوامل المحافظة عليها، و على الواقع المتردي السائد . إن ما نسعى إلى تحقيقه من خلال عرضنا للتجربة الفكرية و السياسية لحزب العدالة و التنمية في تركيا، يتجاوز العرض التقريري إلى رسم معالم طريق واضحة، و ذلك بهدف رد الاعتبار لامتدادنا الحضاري الإسلامي، الذي يعد كنزا لا ينضب، لكن من منظور جديد و متجدد قائم على أبعاد إستراتيجية واضحة، من منظور يسعى إلى تجاوز إعاقات الماضي، التي رمت بأمتنا في أتون التخلف ضدا على منجزاتنا الحضارية العظيمة التي تضاهي أكبر الأمم . الآن، و على ضوء هذه المنجزات، فإن الفرصة سانحة لتدشين سلسلة من المراجعات الفكرية و السياسية، التي يمكنها أن تؤهلنا لخوض معارك المستقبل. هي مراجعات لم ننجح في تدشينها سابقا، لان المعطيات الفكرية و السياسية والاجتماعية و الاقتصادية، لم تكن مؤهلة لتقبلها لكن، ما يبدو الآن هو أن وعينا الجماعي وصل إلى مستوى تقبل مثل هذه المراجعات، التي أصبح الجميع من نخب فكرية و سياسية؛ و من قاعدة شعبية، أصبح الجميع مدركا لضرورة تدشينها. و يمكن تلخيص هذه المراجعات؛ في اتجاهين أساسيين: 2- ضرورة تجاوز السلفية النصية فكريا و سياسيا. نقصد بالسلفية النصية كل ما يرتبط بالقراءة الحرفية للنص الديني، و التي تتعامل معه كنص جامد خارج الزمان و المكان، فتلغي طابعه التاريخي الذي يربطه بحركية الواقع و الناس. و لعل الداء الفكري و السياسي و الاجتماعي، الذي نعاني منه في واقعنا، يرتبط بهذا الفهم السلفي النصي، الذي يقتل الحاضر باسم الماضي، و يجمد حركية الواقع والناس بادعاء ثبات النص الديني. و هذه آلية في التفكير، لا تمت بصلة إلى روح الإسلام النقية، التي تقوم على العقلنة و التفكير الحر؛ بل تعتبر من ترسبات عصور الانحطاط، التي عرفها التاريخ الإسلامي، حيث تراجعت الحركة الفكرية، و تم تجميد المنجزات العلمية، التي أسس لها عصر التدوين. فمنذ القرن السابع الهجري، أدت عملية إعادة إنتاج القديم إلى تكلس و تقوقع و اجترار، قاد فيها ما سبق أن عبرنا عنه بالفهم التراثي للتراث (3) و قد كانت الحصيلة كارثية بكل المقاييس، حيث تراجع الاجتهاد و عم التقليد، و تراجعت بذلك المنجزات العلمية التي تأسست طوال مراحل الازدهار الإسلامي. و قد أفضى هذا التراجع المريع، الذي عرفه الفكر الإسلامي، إلى نكوص فكري و سياسي قائم على التفكير من منطلق نموذج سالف، في تحد سافر لحركية الواقع و سيرورة التاريخ. كل هذا، رسخ في قضايا الفكر كما في قضايا السياسة و المجتمع؛ رسخ نوعا من النزوع نحو الماضي الجامد، باعتباره يمتلك حلولا سحرية لإنقاذ الحاضر من أزماته . خلال مرحلة القرن التاسع عشر، كان المجهود الفكري النهضوي متوجها نحو استئصال هذا النزوع السلفي النصي، و استبداله بنزوع سلفي تجديدي قائم على استعادة روح النص الديني، و من خلاله استعادة روح التجربة الحضارية الإسلامية لكن، من منظور قائم على الاجتهاد، الذي يربط النص الديني بحركية الواقع السياسي و الاجتماعي … و قد أدى هذا النزوع الابستمولوجي؛ الذي يستبدل النص الجامد بالنص المتحرك، أدى إلى تدشين حركية كبيرة في الفكر و السياسة و المجتمع . و لعل اللافت في هذه الحركية، هو أنها جمعت بين تيارين فكريين في بوثقة واحدة، إلى الحد الذي لا يجعلك تفصل فصلا تاما بين كتابات محمد عبده و جمال الدين الأفغاني و علال الفاسي؛ ذوي النزوعات السلفية الجديدة؛ و بين كتابات قاسم أمين و رفاعة الطهطاوي و محمد بن الحسن الحجوي و ابن المواز، ذوي النزوعات الليبرالية . كل هذا، أدى إلى تدشين مرحلة جديدة في تاريخ الفكر الإسلامي، و فتح باب التفكير و الاجتهاد على مصراعيه، و قد كانت الحصيلة مشرفة للغاية، حيث تم طي صفحة أليمة من تاريخ الانحطاط، و في المقابل تم فتح صفحة جديدة مشرعة على آمال نهضوية عريضة مبنية على العقلانية و التحرر و الديمقراطية و مشروع الدولة المدنية … كلها منجزات فكرية و سياسية، كانت تبشر بعهد جديد ينقلنا إلى مرحلة جديدة لكن، أيدي الاغتيال تسللت خفية و تم الإجهاز على جميع هذه المنجزات العظيمة، التي كانت البداية الحقيقة لمشروع حضاري إسلامي جديد. وأيدي الاغتيال هذه، تحالفت فيها قوى الداخل مع قوى الخارج؛ و تم تحقيق الغاية الخبيثة. 3- ضرورة تجاوز الحداثوية التغريبية فكريا و سياسيا إذا كان الفكر السلفي النصي المنغلق قد أدى إلى كوارث فكرية و سياسية؛ في عالمنا الإسلامي، فإن الإيديولوجية الحداثوية التغريبية لا تختلف في منهجها عن النموذج السلفي، فحتى و هي تدعي أنها نقيض للفكر السلفي، فإنها من الناحية الابستمولوجية لا تختلف عنه في شيء، حيث تتحكم فيها نفس آليات إنتاج المعرفة التي يعتمدها الفكر السلفي. و بذلك، فهي تحقق نسبة كبيرة من الاغتراب في المكان لا تختلف عن الاغتراب في الزمان الذي يحققه الفكر السلفي. (4) و إذا كان النهج السلفي النصي قد أدى إلى كوارث فكرية و سياسية في العالم العربي، حيث تم القضاء على كل المنجزات الفكرية و السياسية التي تحققت مع عصر النهضة، فإن النهج الحداثوي التغريبي، في تركيا الأتاتوركية مثلا، قد أدى إلى نتائج ليست بالأقل كارثية من سابقتها، حيث تم استئصال تركيا من امتدادها الحضاري الإسلامي و الرمي بها في امتداد حضاري مزور، و قد أدى الأتراك ثمنا غاليا نتيجة هذه الخيارات الراديكالية، التي لا تلتزم أبسط معايير الحس التاريخي، كما لا تلتزم أبسط مقومات الحس ألاستراتيجي. هكذا، يبدو أن البديل الحد اثوي التغريبي الذي قدمه أتاتورك للأتراك، بهدف ربط تركيا بأوربا، لم يتجاوز الفرقعات الإيديولوجية بعيدا عن المقاربة العلمية الرصينة . لقد دفع رجل دولة تركي بقوة أبناء وطنه، لتبني أسلوب الحياة الغربي و بدون تحفظ، غير أنه في الفصل الأول من قصة تبني تركيا للأساليب الغربية، فإن الأتراك الذين كانوا مقتنعين بسياسة تحديث تركيا، لم يكونوا –قلبيا- يحبون الحضارة الغربية، التي كانوا يدخلونها مجبرين (5) و يخلص المؤرخ البريطاني (أرنولد توينبي)، من خلال تحليله، إلى خلاصة كبيرة الأهمية، بخصوص النموذج الحد اثوي التغريبي الذي قاده أتاتورك، يقول (توينبي) : كان حكم التاريخ على مثل هذه المدرسة الغربية من أنصار التحديث الأتراك هو ” في كل مرة القليل جدا و المتأخر جدا “ (6) إنها شهادة دالة من (ابن خلدون بريطانيا) الذي درس و حلل الحضارات البشرية فيما يقرب من عشرين مجلدا، و هو عندما يحكم على تجربة التحديث على النموذج الغربي في تركيا، حينما يحكم عليها بالفشل فهو يعرف ما يقول، لأن منطلقه، كمؤرخ، منعه من أن يكون بوقا إيديولوجيا، يهلل –كما هلل الكثير من الغربيين- للثورة الأتاتوركية الفاشلة باعتبارها بداية التاريخ التركي. لقد كان منطلق (توينبي) واضحا، في دراسته و تحليله لصعود و سقوط الحضارات، لا يمكن لأي حضارة أن تتقدم من خارج جلدها، الذي يشكله امتدادها في التاريخ و الجغرافية؛ و في هذا الصدد فإن (توينبي) لا يكتفي بالنموذج التركي الأتاتوركي، بل يتجاوزه ليقدم نموذجا آخر مشابها للنموذج التركي، إنه نموذج روسيا، التي يقول عنها المؤرخ البريطاني أنها الجزء الوحيد من العالم الذي يضم أغلبية غير أوربية، و رغم أن الروس أصبحوا مسيحيين و ما زال الكثير منهم مسيحيين، إلا أنهم لم يكونوا أبدا مسيحيين غربيين .(7) و سواء مع النموذج التركي أو مع النموذج الروسي، يخلص توينبي إلى أن محاولة تغريب الدولة و المجتمع لا يمكنها أن تفضي إلى نتائج إيجابية، و ذلك لأن الغرب أسلوب في الحياة كل لا يتجزأ، حيث يعتمد فيه كل جزء على الآخر . و من هذا المنظور، فإن أي تجربة في نسخ النموذج الغربي في دولة غير غربية سيكون مصيره الفشل، لا محالة، و التاريخ يؤكد هذه الحقيقة، من خلال نماذج عدة . لذلك، يبقى حضور التجربة الحضارية للشعوب مقوما أساسيا في تشييد نهضتها، و أي محاولة لتحطيم هذه الخصوصية، بغرض بناء كونية موهومة، يكون مصيره الفشل. لذلك، تبدو بعض الأطروحات الفكرية و السياسية التغريبية في الثقافة الإسلامية عامة، تبدو خالية من أي حس تاريخي، و هذا ما يعيق أي إمكانية في تجسيدها على أرض الواقع، و حتى إذا تم فرضها بوسائل العنف الرمزي و المادي فإنها تحمل عوامل نهايتها معها. إن التجربة الأتاتوركية في تركيا، تحضر باعتبارها نموذجا دالا في هذا الإطار، كما أن الفشل الذريع الذي انتهت إليه يقدم إلينا درسا كبير الأهمية، و يؤكد أن أي محاولة تغريبية للشعوب و الدول، الموجودة خارج الانتماء الجغرافي و التاريخي و الحضاري الغربي، بادعاء التحديث لا يمكنها أن تسير إلا في اتجاه محتوم نحو الفشل. |