يقوم اتجاه الوعظ التوفيقي على البداية بالغرب، بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وقبوله نفسياً وذهنياً، ثم قراءته قراءة دينية من أجل إثبات أن هذه الحقوق قد أثبتها الدين من قبل إعلانها في الغرب بأكثر من أربعة عشر قرناً، منذ ظهور الإسلام حتى الآن.
فهي لا تمثل جديداً، ولا تعلن عن شيء لا يعرفه الإسلام من قبل. ويكشف هذا الموقف عن نوع من الكسل الفكري وعدم القدرة على فهم الوثائق والنصوص على رغم التوفيق بينها. فهذه القراءة تسلم بالإعلان العالمي، وتعزله عن سياقه، وتعجب به، وتستسلم وجدانياً له دون أن تفكر فيه. فالبريق وهّاج، والإعجاب بالآخر لا يتعارض مع فطرة الذات.
هكذا فعل الحكماء من قبل مع الفلسفة اليونانية إعجاباً بها. فتأكيد الذات عن طريق الآخر هو اعتراف بفضل الآخرين حتى ولو كانوا من الأمم القاصية عنا كما يقول الكندي. فالحق في متناول الجميع، والكل يشرفه الحق، والحق يوافق الحق ويشهد له. وهو موقف نفسي إنساني، يحاول أن يتجاوز ثنائية المعرفة بين الوافد والموروث، بريق الوافد وظل الموروث حتى لا ينبهر الناس بالأول ويخشوا الثاني. وهذه بضاعتنا ردت إلينا. فالكل يعلم أثر الحضارة الإسلامية في تكوين الحضارة الأوروبية في بدايات العصور الحديثة عندما ترجمت ثقافة الحضارة الإسلامية إلى اللاتينية مباشرة أو عبر العبرية.
وقد أتيح لهؤلاء الوعاظ المستنيرين معرفة روح الإسلام كما عبرت عنها الشريعة التي تقوم على المصالح العامة ومعرفة ثقافة الاستنارة في الغرب الليبرالي ووجدوا اتفاقاً بين الاثنتين كما فعل الطهطاوي بل والأفغاني نفسه عندما رأى في الغرب إسلاماً بلا مسلمين!
والحقيقة أن هذا الموقف أيضاً يُخرج الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن سياقه وفلسفته التي قام عليها وكأنه نص خارج الزمان والتاريخ. ويضحي بتاريخية النص من أجل قراءته، وينسى زمانيته من أجل بيان خلوده. فموقف الدين أيضاً خالد مثله، بل يسبقه أيضاً بألف وأربعمائة عام أو أقل قليلاً. وما أسهل أن يجد العالم الحافظ للنصوص الدينية والقارئ للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في ترجمته العربية الرصينة، التوافق بين النصين في مرآة مزدوجة يعكس كل من جانبيها صورة الآخر. فيظهران على أحسن وفاق وأجمل صورة. وهكذا عبّر قدماء الحكماء والمعتزلة عن الإسلام بلغة اليونان، الجوهر والعرض، والمكان والزمان، والعلة والمعلول، والصورة والمادة، والكيف والكم. ويعبر كذلك المتكلمون المحدثون عن الإسلام بلغة الغرب الحديث، الحرية والديموقراطية، والمساواة والعدالة الاجتماعية، والمعرفة والسلام.
أما اتجاه المثالية النصية فهو موقف نصي خالص، يعتمد على انتقاء النصوص الدينية الأكثر تعبيراً عن حاجات العصر في الحرية والديموقراطية والعمل والحق العادل في توزيع الثروة والتكافل الاجتماعي. وفي الدين كل شيء. والإسلام رسالة عامة خالدة للناس جميعاً. وفي الذهن المواثيق الدولية لحقوق الإنسان وعلى أساسها تتم قراءة العلوم الإسلامية. فهي قراءة موجهة عن طيب خاطر وبحسن نية من أجل إعطاء صياغة عصرية للنص، تزيد رونقاً عن المواثيق الدولية وتنبثق من نفس الروح. وتقوم بذلك بعض المنظمات المسلمة في الغرب المطالبة بالإجابة على هذا السؤال: هل هناك حقوق للإنسان في الإسلام؟ وممثلوها أهل قانون وأصحاب شريعة. يعيشون في الغرب. ومضطرون للدفاع عن الإسلام. ولذلك قد يظهر في التأويلات لعديد من القراءات، مثالية وواقعية، فردية واجتماعية، رأسمالية واشتراكية. ولما كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مثالي النزعة، يعبر عن فلسفة التنوير وعن حلم الغرب بعد الحرب العالمية الثانية وأمله في مستقبل أفضل، فقد انعكست هذه الروح أحياناً في قراءة النصوص الدينية.
وقد حاول بعض المنظمات المسلمة في الغرب الإجابة على ذلك السؤال بصياغته إعلان عالمي إسلامي لحقوق الإنسان يقوم على مقاصد الشريعة الخمسة كما صاغها الشاطبي وهي: الحياة (النفس)، العقل، الحقيقة (الدين)، الكرامة (العرض)، والثروة (المال). ويمكن تفصيل كل منها في عدة حقوق مستنبطة من الحق الكلي.
وما يحاوله المسلمون يحاوله أيضاً باقي الثقافات. فهناك ميثاق أفريقي لحقوق الإنسان يقوم على نفس المنهج، جعل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نابعاً من داخل الثقافة الأفريقية وليس وافداً إليها من الغرب. والنتيجة واحدة. إنما الخلاف في المنهج والمصدر والقصد، قصد الأصالة في مقابل التغريب. ويمكن أن يقال نفس الشيء أيضاً في الثقافات اليهودية والمسيحية والآسيوية.