من سمات عصرنا، تفجر الاتصال وتطور وسائل الإعلام والصحافة وتعاظم دورها في تشكيل الوعي، واتساع استعمال الأجهزة الذكية (الشبكة العالمية، أجهزة الكمبيوتر، الهواتف المحمولة..)، وسهولة استعمالها وشروط عملها وتراجع كلفتها وكلفة الاشتراك فيها، وانتشار مفاهيم الحداثة ومعاييرها بلا حدود، وإيمان المجتمعات بالحاجة إلى تطبيق مفاهيم ومعايير الدولة الحديثة، كالحرية والديمقراطية وتداول السلطة.
ورافق ذلك، أو توازى معه، سقوط النظام السوفييتي والأنظمة المشابهة في أوروبا الشرقية، وبسبب ذلك هيمنت الرأسمالية على العالم وأنظمته وتوجهاته وقيمه، وانفتحت الأسواق الاقتصادية بعضها على بعض (اقتصاد السوق، التبادل الحر، تنميط التجارة الدولية.. الخ).
كما بدأ تطبيق معايير العولمة على حساب الخصوصيات، وهبت على مجتمعات الأرض جميعها رياح ثقافة نمطية، وقيم جديدة، تتواءم مع الظروف الاقتصادية والسياسية التي فرضت نفسها، فتعمقت ظاهرة الاختراق الثقافي بين المجتمعات، وتم تهميش الخصوصيات الثقافية والروحية والاجتماعية، وأخذت المفاهيم الجديدة تغزو المجتمعات الإنسانية، وتؤسس مفاهيم ومضامين جديدة عن الدولة والوطن والأمة، وللنظم السياسية والعلاقات بين الدول.
وكذلك الأمر بالنسبة للمفاهيم الأخلاقية والقيمية والاجتماعية، كمفاهيم الربح والخسارة والسلوك والتعايش، وفهم الآخر وتقويم العلاقة به، والتواصل بمختلف أشكاله (الأسري والمجتمعي والعابر للقارات).
وقد اعتبر بعض الدارسين (والسياسيين) أن هذه التطورات تشير إلى الصيغة النهائية للتطور الإنساني، وسماها بعضهم «نهاية التاريخ»، وبدأنا نسمع اصطلاحات الوصول إلى النهايات (نهاية الأيديولوجيا، نهاية الخصوصية، نهاية التاريخ.. الخ).
وكان من البديهي وجود رأي آخر يهتم بالخصوصية الروحية والثقافية والوطنية والاجتماعية للشعوب، ويحرص عليها، ويدعو إلى فهم التطورات التي حصلت في عالمنا، واستيعابها، وتطوير القيم والثقافات القائمة لتواجه سلبيات العولمة وما بعد الحداثة.
وهذا يقتضي بالضرورة تغيير الأساليب وطرق التعبير والتواصل، وصولاً إلى تبني مضمون ينسجم مع المحاكمة العقلية والبحث والمسؤولية الأخلاقية والاجتماعية والدينية.
وفي ضوء ذلك تنبغي إعادة النظر في الخطاب الإسلامي القائم الذي أنشأه الفقهاء، وتطويره وصولاً إلى خطاب إسلامي معاصر، ينسجم مع صحيح الإسلام ويعبر عنه بدقة.
يلاحظ الدارس المتعمق في فهم الإسلام والمخلص له، وجود فجوة بين الخطاب الإسلامي التقليدي وبين صحيح الدين واحتياجات المسلمين ومصالحهم.
ولا نحتاج كبير عناء لنكتشف ضعف الخطاب الإسلامي التقليدي، الذي راكم الفقهاء أسلوبه ومضمونه خلال مئات السنين، ولم يواجهوا بأي موقف نقدي يشير إلى السلبيات التي يسقطها على الدين الإسلامي وعلى المسلمين، وتُرك أمر الإشراف على هذا الخطاب وعلى الدين والدعوة له، لدعاة ووعاظ وخطباء ودراويش ومدّعي تدين ومن في حكمهم، ومعظم هؤلاء قاصرون عن تطوير هذا الخطاب بحكم مستواهم الثقافي المتواضع، وغياب المؤسسات المختصة التي من المفترض أن تساهم في تحقيق هذا الهدف.
ويستمر هؤلاء في الإصرار على تبني مصطلحات وتعريفات خاطئة وعتيقة في هذا الخطاب التقليدي، ورفض استخدام العقل وتطبيق الاجتهاد بعد وضع منهجية علمية له، على مقاصد الشريعة والحكم، ومبدأ الحاكمية، ومصطلحات التكفير والمجتمع الجاهلي، والحاكم والسلطة، والديمقراطية، وعلاقة الدين بالدولة، وتحديد مفهوم الجهاد حسب صحيح الدين.. وغير ذلك.
ويلاحظ في أسلوب بعض الدعاة أن خطابهم يتبنى أسلوب الترهيب والترغيب، ويخاطب العواطف دون العقل، ويميل إلى التشديد على المسلمين، ويتغافل عن المقاصد، حتى كأنه ـ في الخلاصة ـ يتحدث عن إسلام آخر بعيد عن صحيح الإسلام.
أدى هذا الخطاب الذي أنشأه بعض الدعاة والفقهاء خلال التاريخ، بما حمل من مفاهيم وطبق من أساليب، إلى إيجاد فجوة بين الإسلام والحياة، بين كتاب الله المسطور (القرآن) وكتاب الله المنظور (الطبيعة).
والآن، لم يعد أمام المسلمين خيار سوى إصلاح الخطاب الإسلامي التقليدي، وصولاً إلى خطاب معاصر قادر على استيعاب التطور والحفاظ على صحيح الدين وجوهره، وذلك من خلال احترام العقل والمحاكمة العقلية، وإطلاق حق الاجتهاد، ونقد التراث القائم وغربلته، وتطبيق الأساليب العلمية لتقويمه، وصولاً إلى وضع مفاهيم ومصطلحات تتواءم مع صحيح الدين، واعتماد أسلوب جديد للتعامل مع الدعوة وشرح فلسفة الدين وتعاليمه، والتأكيد على أن تعدد الأديان والشعوب والثقافات إنما هو مشيئة الله وتنزيله، وكذا التأكيد على وحدة الأصل الإنساني، ووجوب التواصل والتعارف والتراحم، وقبول التنوع والتعدد، والعودة للقاعدة الفقهية بهذا المجال التي تقول «إن لا تكليف إلا بمقدور»، وعلى القواسم المشتركة مع الأديان والشعوب الأخرى، وإعادة النظر في المصطلحات السائدة ومنها: الحاكمية، الجهاد، الجاهلية، العدالة.. الخ، بما يتناسب مع صحيح الدين ومصالح المسلمين.
موقع الشبكة العربية العالمية …