مشاهد تاريخية …بقلم: فاروق القدومي “ابو لطف ..
ان اتفاق اوسلو نقطة البداية التي شكلت عددا من المواقف السياسية، التي لم تحظ بموافقة جزء كبير من الشعب الفلسطيني، بالاضافة الى عدم التزام اسرائيل بهذه الاتفاقات وممارساتها الارهابية المستمرة مع المماطلة والتعنت لكسب الوقت، فقد قام المجتمع الاسرائيلي باغتيال رئيس الوزراء اسحق رابين (الشريك الاسرائيلي في اتفاق اوسلو)، بذلك دللت اسرائيل على عدم رغبتها في السلام، وان الحالات النفسية والاوضاع السياسية والحزبية للمجتمع الاسرائيلي لم تنضج بعد لقبول فكرة ومتطلبات عملية السلام، وبدا ذلك واضحا في ممارسات الحكومات الاسرائيلية المتتابعة، بدءا بنتنياهو فباراك فشارون فأولمرت وانتهاء بنتنياهو.
رافق هذا الوضع فشل المفاوضات السياسية وعدم التوصل الى اي نتائج ملموسة، فشلت المفاوضات وبدأ الحصار على الشعب الفلسطيني مع تزايد العمليات العدوانية لجيش الاحتلال الاسرائيلي، كالاغتيال والقتل الجماعي وتدمير المنازل والبنى التحتية، وحرق المزارع وقلع الاشجار واغلاق المعابر وتكثيف الحواجز العسكرية بين المدن والقرى، بل وبين الاحياء وفرض المزيد من الضغوط السياسية لتقديم التنازلات ومطالب التهدئة ووقف المقاومة، ثم وقف مساعدات الدول المانحة لتنتشر البطالة والمجاعة.
نتيجة المفاوضات الطويلة الفاشلة نشأت حالة من التعايش بين السلطة الفلسطينية القائمة واسرائيل، وأدمن البعض على مطلب التعايش في اطار الاحتلال، واصبحت المنفعة الفردية هي التي تحكم تصرفات المسؤولين في السلطة، فانتشر الفساد واستتب الامن الخادع.
وبعد ذلك نادت فتح السلطة بعدم عسكرة الانتفاضة، وقامت بعد استشهاد الاخ ابو عمار باستبدال اصحاب التجربة النضالية واحالتهم الى التقاعد، وجيء بشباب حديثي التجربة النضالية والسياسية، ولم يؤخذ بعين الاعتبار اننا ما زلنا نعيش تحت الاحتلال. وهنا لا بد من التذكير بحداثة التجربة لدى قيادة حركة حماس، مما دفعنا الى اللقاء بقياداتهم في دمشق لشرح التطورات التي مرت بها المقاومة الوطنية، والصعوبات التي مررنا بها منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية عام 1965، والمناورات الاسرائيلية التي واجهناها والتي عطلت مسيرة السلام، فكان علينا ان نذكر الجميع بضرورة اخذ الحذر والاستمرار بالمقاومة، لانها تجمع بين المواطنين ولا تفرق بينهم، فالمقاومة تضحية وعطاء.
لقد فوجئنا بقرار مشاركة الاخوة في حــــركة حماس في انتخابات السلطة التي افـــرزتها اتفاقات اوسلو، مع انهم اعلنوا منذ البدء رفضـــهم لهذه الاتفــــاقات والاعتراف باسرائيل، كمن وضع قدما في البور واخرى في الزرع.
هنا كانت بداية التناقض، عندما فازوا في الانتخابات التشريعية فظنوا انهم حققوا انجازا كبيرا، وان تسلمهم لهذه السلطة المحلية سيمنحهم القبول وحرية الحركة باسم الشرعية والديمقراطية. علما بان السلطة مضطرة للتعامل مع سلطات الاحتلال التي تسيطر على جميع مرافق الحياة في الضفة الغربية والقطاع، فهي سلطة محلية جاءت من خلال اتفاق حكم ذاتي محدود، هذه الاتفاقات تعتبرنا اقلية اثنية لا نتمتع بالسيادة والاستقلال او حق تقرير المصير، اي انها تنكر كل حقوقنا الوطنية.
شكلت حركة حماس حكومة من اعضائها وبرزت التباينات والخلافات بين رئاسة السلطة وحركة حماس حول برنامج العمل السياسي، وازدادت الخلافات وتفاقمت العلاقات في ما بينهما. ولم تقم هذه الحكومة بتحقيق اي انجاز خلال فترة حكمها، وزاد الطين بلة ان قامت اسرائيل والولايات المتحدة والحكومات الاوروبية المانحة بفرض الحصار المالي عليها بحجة وجود حركة حماس على رأسها، واشترطت اسرائيل اعتراف حركة حماس بها وباتفاقات اوسلو، ووقف الارهاب ‘المقاومة’.
كانت هذه الشروط الثلاثة هي موضع خلاف بين ‘فتح السلطة’ و’حكومة حماس′، وقد بذلنا جهودا مستمرة لاقناع قيادة حماس بالتمترس في المجلس التشريعي فقط بعيدا عن المشاركة في الحكومة، وان تمارس الرقابة على اعمال وقرارات اية حكومة تشكل من خلال ممارسة معارضتها في المجلس التشريعي، ولكن لم يؤخذ برأينا، واستمرت الحوارات والخلافات الثنائية بين اطراف السلطة وجرت محاولات للتوفيق بينهما الى ان خرجوا بوثيقة الاسرى التي اضيفت عليها المحددات الثمانية، ولكن الفلتان الامني والصدامات بينهما زادت الاوضاع سوءا وتدهورت الحالة الاقتصادية والمعيشية لشعبنا الفلسطيني. فكانت مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز، حيث دعا الطرفين الى مكة المكرمة وتم التوقيع على اتفاقية مكة، وقبل الطرفان التقاسم الوظيفي في ما بينهما، ولكن سرعان ما نشأت صدامات مسلحة بين اجهزة الامن في قطاع غزة، وكانت البعثة الامنية المصرية تبذل جهودا مضنية لاحلال الوفاق بينهما، ولكن كان هناك اصرار من كلا الطرفين للتحكم بالشؤون الامنية في قطاع غزة، وفي النهاية وصلنا الى ما وصلنا اليه من سيطرة حركة حماس على الاوضاع في قطاع غزة. وهكذا اُستخدمت الاجهزة الامنية من الطرفين للاستيلاء على السلطة وليس الحرص على أمن المواطن وحمايته والاستمرار في الدفاع والمقاومة.
ولا بد لنا من ان نشير الى ان تشكيل جهاز امني كان مطلبا اسرائيليا منذ توقيع اتفاق اوسلو لضبط الوضع الامني ومنع التحرش بأمن اسرائيل.
هنا نستطيع القول ان بوصلتنا السياسية فقدت اتجاهها الصحيح، وباتت قضية فلسطين في منعرج خطير، واصبح الشعب الفلسطيني حائرا امام هذه التطورات القاسية التي ادت في النهاية الى الابتعاد عن المقاومة ضد العدو الاسرائيلي والتوجه نحو الصدام الداخلي.
اصبحت الارض الفلسطينية المحتلة محاصرة برا وبحرا وجوا من اسرائيل، وتحيط بها دول شقيقة قيدتها اتفاقات سلام مع اسرائيل، واصبحت الدول العربية والاسلامية تميل الى تطبيع العلاقات مع اسرائيل ايضا بسبب الضغوط السياسية المستمرة التي تفرضها الولايات المتحدة الامريكية على الانظمة العربية والاسلامية، من خلال مخططاتها السياسية ومشاريعها التسووية، مما اضعف وسائل دعم المقاومة ودعم صمود الشعب الفلسطيني.
بعد هذه التجربة المريرة التي مرت بها القضية الفلسطينية، تراكمت الاحقاد بين الطرفين المتنازعين حول المنافع السلطوية، ولذا لا بد من توجيه النصح العربي لهما لكي يلتزما بوقف الاتهامات واصدار بيانات التحريض في ما بينهما كمرحلة اولى، لتتوفر الفرصة لاجراء حوار فلسطيني شامل باشراف عربي مخلص.
ولا شك ان استمرار جهود فصائل المقاومة والشخصيات الوطنية في تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني والمرجعية السياسية والتشريعية للسلطة الفلسطينية، واعادة بناء دوائر منظمة التحرير الفلسطينية بكل مؤسساتها المركزية وميثاقها الوطني وبرنامج عملها السياسي، سيعزز الوحدة الوطنية ويدفع الطرفين المتخاصمين الى الانضواء تحت رايتها.
ان اصرار العرب على مبادرتهم التي خرجت عام 2002 ورهانهم المستميت عليها وتشبثهم بالمسار السياسي، رغم رفض اسرائيل لها تعيد ولا شك انسحابا من دعم المفاوض الفلسطيني، لان المفاوضات لا تدور الا في ضوء حقائق الواقع ومعطياته، وان توقع الحصول على مكاسب من الطرف المقابل مجانا وفي شكل هبة ضرب من السذاجة السياسية، فالمتفاوضون لا يأخذون الا على قدر ما يمتلكون من اسباب القوة، والتجربة الفيتنامية شاهد على ذلك.
ان التفاوض في هذه المرحلة المتميزة بالضعف العربي في كل المجالات خطر على القضية الفلسطينية، بل يهدد بضياعها ومن ثم ستحمل المفاوضات بذرة حرب بدل ان تكون مدخلا للسلام، فالاجيال الفلسطينية والعربية الصاعدة اذا امتلكت القدرة والقوة فلن تكون ملزمة بما تم التفريط فيه في مرحلة الضعف العربي.
لا يملك العرب في وضعهم الراهن من اسباب القوة ما يمكن ان يدعموا فيه الفلسطيني في مواجهة اسرائيل، حيث ان فاقد الشيء لا يعطيه، فالعرب يفتقدون لوحدة الصف وليس لديهم اي وزن سياسي على الساحة الدولية، ولا يقدرون على ترجمة ورقتهم الاقتصادية الى عامل قوة.
رغم كل هذه القيود وهذا الوهن العربي والحصار الاقتصادي والسياسي وارهاب اسرائيل المنظم والمتواصل فان شعبنا الفلسطيني لم يستسلم، بل يقاوم باصرار وعناد.
أليس عجيبا بعد تكالب كل هذه القوى على شعب لا معين له ان يختصم مع نفسه احيانا؟
*رئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية
عن القدس العربي
13/7/2013