اهتزت مشاعرنا ليلة الخميس، مع أولى طلقات حادثة مراكش، وقبلنا أن تنحصر القضية في حادثة إجرامية.. ولو كانت غير مسبوقة، على أن نساير مخاوفنا وتصبح حادثا إرهابيا…
فضلنا الحادثة على الحادث..
ولو كانت النتيجة واحدة :قتل ودم ورصاص..
كنا نشبه مريضا أخذت عينات من نسيجه الخلوي، من أجل التحاليل، فصار يدعو الله : اللهم اجعله سرطانا يا رب ولا تجعله سيدا! على حد ما كتبه ذات سيرة ذاتية الشاعرالفلسطيني مريد البرغوثي في (رأيت رام لله)…
«اللهم لا تخيرنا فضرار،» كما يدعو المغاربة، ولا تجعل مجال حريتنا الوحيد هو أن نختار بين الطاعون والكوليرا!
غير أن ما وقع، ودرجة الاهتزاز التي مستنا في صميم وجودنا هو أن قضية الأمن اليوم في صلب الانشغال العام
لم تعد قضية دولة ولا قضية أجهزة، ولا معيارا مبتسرا للحكم على طبيعة السياسة والدولة، إنه كما قال القاضي دونيس سالاس الفرنسي: أولى الحريات… البديلة!
دونيس هذا ليس من العينة التي يمكن الانصراف عن رأيها. فهو قاض، وهو رئيس جمعية تاريخ القضاء، وأستاذ جامعي في جامعة باريس 1 وباريس 2، وهو من يشرف على دفاتر العدالة، صدر له من بين ما صدر كتاب عن «الأخطاء القضائية» في: 2015… وهو مثل الكثير من الفرنسيين، كان عليه أن يواجه استسلام «الفرنسيين لحالة الطوارئ طيلة سنتين متواليتين بدون أن يطرح ذلك إشكالا على دولة كانت مهدا للثورات الحديثة ومهد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان…..
فقد أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلغاء حالة الطوارئ في البلاد، والتي تم فرضها بعد سلسلة الهجمات الإرهابية في باريس عام 2015.
وذكرت وسائل إعلام محلية، أن نظام الطوارئ ألغى اعتبارا من 1 نونبر 2017 بعد أن تم تمديده 6 مرات منذ لحظة إعلانه.
وفي الوقت نفسه، وقع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قانونا حول توسيع آليات مكافحة الإرهاب، وهو القانون الذي يعطي الشرطة مزيدا من الصلاحيات لمواجهة التطرف.
وتمنح الوثيقة الجديدة الهيئات الأمنية إمكانية تنفيذ عمليات تفتيش وإغلاق المنظمات الدينية، وكذلك تقييد تحركات الذين يشتبه بوجود علاقة لهم بالمتطرفين.
وكانت العاصمة باريس وضواحيها قد شهدت منذ سنة 2015، سلسلة من الأعمال الإرهابية راح ضحيتها مئات الأشخاص.
و القاضي سالاس هو من الكثيرين الذين تساءلوا عن السلبية والخنوع، والامتثال لدى البرلمانيين والسياسيين وعموم المواطنين أمام قرار يكشف عن ضعف كبير في ثقافة الحق لحساب ثقافة القانون كما تجسد في قوانين حالة الطوارئ..
فقد سأله الصحافي جان بتيست جاكان، كيف تفسر أن فرنسا قبلت بدون تردد أن تعيش تحت حالة الاستثناء طوال سنتين، فكان رده مدرسيا لا يمكن أن نكون محايدين نحوه:«وضعت العمليات الإرهابية المتكررة منذ سنتين الساكنة في وضعية تشعر فيها بالخوف من الموت العنيف. ففوضت للدولة طلبا للحماية قويا بقدر ما أن بنية التهديد مثيرة للقلق ، أي عمليات عمياء يمكن أن تمسنا وأطفالنا في أماكن الحياة اليومية، وهذا أمر يلوث مخيالنا الجماعي، …نحن نتخلى عن الدفاع عن أنفسنا ونوكل للدولة هذه المهمة»..
هناك إحالة صريحة إلى العقد الاجتماعي، بل اعتبار هذا هو أصل العقد الاجتماعي كما يراه هوبز، الذي تحدث في القرن 17 عن الدولة الوحش /الليفياتان والذي يوجب الامتثال من لدن الشعب مقابل الحماية… والأمن..
قاعدة توكيل الحماية للدولة هنا هي قاعدة الدولة في فرنسا. وفي فكر جزء من منظريها ..
وتزداد الحاجة إلى الأمن مع تزايد وتنوع الخوف والشعور بعدم الأمان، وتنوعت مصادر الخوف اليوم، حتى عاد موضوعا ليس فقط للتفكير السياسي الأمني بل الاجتماعي والوجودي والعقائدي..
وقد نخطئ أحيانا بألا نشعر بالخوف!
ولو كان ذلك من باب التفكير في سياسة مضادة للخوف.. وكما كتب أستاذ الكوليج دوفرانس، باتريك بوشرون،«إننا نعرف منذ طوماس هوبز بأن فكرة وجود إدارة للمخاوف الجماعية – أنتم خافوا ونحن علينا الباقي- تكاد تكون فكرة مكررة، فلا سياسة إلا سياسة الخوف…
وعلينا ألا نرتجل تفكيرا حسب درجة الخوف والقلق بل لا بد من مصاحبة دائمة للحاجة إلى الأمن، في سياق مركب، ما بين الإجرامي والإرهابي والسقوط السياسي وعودة الماضي الرهيب، قريبا كان أو بعيدا!
قد يتساءل الواحد منا: والديموقراطية في كل هذا؟
عندما توضع قواعد الديموقراطية وتستقر في البلاد يتم تنظيم السلطات المضادة حتى لا تسحق الدولة القوية مواطنيها…، يقول القاضي سالاس:«نحن نعطي للقانون مكانة بارزة، وذات أولوية، بمعنى الأسبقية للسلطتين التشريعية والتنفيذية، ونركن السلطة القضائية في المستوى الثاني»…، وبهذا المعني فإن روسو، منظر القوة ينتصر على مونتيسكيو منظر الحق، أي منظر الإرادة العامة للأمة، كتمثيل للقانون ينتصر على منظر الحق وتوازن السلط..!
لانأخذ من فرنسا ولا فيها ولا نحب فيها هذا الاختلال، ولكنها، في شخص قضاتها، منظريها، لا تخاف من طرح الأسئلة، ولو كانت شائكة ومقلقة، طرحا عميقا يتجاوز الاكليشيهات والخطاطات السريعة… إلى عمق تشكل الدولة «كتوأم للخوف».