لا تتعلق إشكالية الثابت والمتغير في الدين بدائرتي العقيدة والشريعة حصراً، كما يمكن أن يظن، وإنما هي تطال مجال الأخلاق والقيم الأخلاقية الدينية أيضاً ، فمساحة النسبي في هذه واسعة نظير مساحته في التشريع للأمور الدنيوية، أو لعلها قد تكون دونها جغرافيةً إن شئنا الدقة، أو إن أخذنا في الحسبان أن مجال القيم (مجال) يتوسط حدين هما: العقيدة والشريعة، الدين والحياة.
صحيح أن الزمن القيمي، أو زمن القيم، لا يطابق الزمن التاريخي (الوقائعي)، فهو أفقي عابر للأزمنة كما للأمكنة، وهو قد يبدو -للسبب هذا- بطيئاً في التطور، ومتعصياً على التبدل إلى حد كبير قد يوحي فيه بأنه زمن عقائدي لا أحكام عليه من الحياة والتاريخ. لكن بعضاً من التمعن في منظومة قيم الدين يطلعنا على أن الثابت فيها ليس مطلقاً، وعلى أن أشكالاً متفاوتة من التغير والتكيف تطرأ عليها فتضفي بعض النسبية على ما يعد قطعيًا. وهذا يسمح لنا بالحديث عن تاريخية للأخلاق الدينية. وهي تاريخية تكوينية، من جهة، وصيرورية متجددة من جهة ثانية، فكما تكونت الأخلاق الدينية من جدلية التفاعل بين نواتها الدينية، المنصوص عليها في الكتب المقدسة، و(بين) الموروث القيمي السابق للدين، ولكن المستحسن منه، كذلك تقطع شوط تطورها كأخلاق متغذية من موارد قيمية جديدة يفرضها قانون الخبرة والتراكم الإنسانيين. ومع أن الثنائيات الأخلاقية المتفرعة من ثنائية الخير/ الشر نسبية، كما أكد التحليل الفلسفي لمفاهيم الأخلاق منذ القرن السابع عشر، ولا تنطوي على معنى واحد ثابت مفارق، إلا أن حد الخير في الأديان يترجح معناه بين ما لا يطرأ عليه تغيير في الدلالة، وما يكتسب أكثر من دلالة في امتداد تعدد السياقات وتغايرها. وهكذا، في ما يقدمه الدين من منظومات أخلاقية الكثير مما هو ثابت لا يتغير، ومن ذلك بعض المبادئ القيمية العليا مثل العدل، والمحبة، والصدق، والأمانة، والإحسان، والإيثار، والبر، والتضامن، والتكافل… إلخ، وهذه جميعها، وغيرها، لا تحمل إلا على معنى أصل وحيد، هو المعنى عينه الذي شددت عليه تعاليم الأديان وحثت عليه. ولكن فيه، أيضاً، ما يطرأ على معناه الأصل تغيير، أي ما يمكن حسبانه نسبياً، ومن ذلك، مثلاً، قيم مثل المسالمة، أو الوفاء بالعهود، أو الطاعة… إلخ. فلقد تقتضي الظروف تعطيل مبدأ المسالمة إن كان في الحرب مصلحة لجماعة اعتقادية ما، وما أكثر الحالات التي عطل العمل فيها بهذا المبدأ والتجئ إلى نقضه.
ويصدق على مبدأ الوفاء بالعهود ما يصدق على هذا، فلقد تقضي الحاجة بنقضه. ولقد حصل شبيه ذلك في تاريخ الإسلام في فتح مكة، فرأى القرشيون في الفتح نقضاً للعهود المكتوبة في نص الصلح المبرم في الحديبية. وإذا كانت الطاعة من ضرورات النظام وحفظ وحدة الجماعة، التي حثت عليها الأديان، فإن في التزام الطاعة، أحياناً، ما لا يكون في مصلحة الدين، مما يقضي بنقضها وخاصة حينما تقترن بالمعصية. وهكذا يتبين ما في أحكام الدين، في المجال الأخلاقي، من تعدد في الدلالات مبناه على التمييز بين فضائل عابرة للزمان، بحيث لا تبديل فيها ولا تعديل، وأخرى تفضل بوظيفتها، أي تقرر المصلحة العينية ما إذا كان إتيانها يقع في حكم الفضيلة أو في حكم نقيضها. والتعدد هذا قرينة أخرى على اتصال أحكام الدين بالتاريخ، وعلى مركزية مبدأ المصلحة في النظام الديني.
غير أن أكثر ما يبدو فيه تجلي الثابت والمتغير الدينيين وضوحاً هو ميدان السياسة، حتى إن مساحة المتغير والنسبي فيها أعلى، بما لا يقاس، من مساحة الثابت التي تنكمش إلى مجرد مبادئ عامة محدودة. والتفاوت هذا في الدين (بين مساحتي الثابت والمتغير) مفهوم، تماماً، بالنظر إلى طبيعة الدين، فالأديان ليست رسالات سياسية أتت من أجل التنظيم السياسي للناس، في كيانات ودول، حتى تتفرغ لتقديم تعليم ديني خاص بالسياسة والدولة ونظام الحكم، (تماماً كما أنها ليست كتباً في الفيزياء والفلك والبيولوجيا والطب كي تقدم معارف وحقائق في العلم الطبيعي: على نحو ما يزعم «مفسرون» «علميون» للنص القرآني تكاثروا كالفطر!)، وإنما هي رسالات سامية تهدف إلى رسم طريق الخلاص للبشر، وإلى تعليمهم أقوم القيم (مكارم الأخلاق في لغة الإسلام) التي تؤهلهم لقطع تلك الطريق نحو الخلاص.
لكن غياب التشريع القرآني ذاك ما منع المسلمين من التماس الأنظمة السياسية التي تناسب أحوالهم ومصالحهم، فكانت دولة المدينة، التي أسسها النبي الكريم، جزءاً من أدوات الدعوة ومن الانتقال بالجماعة الاعتقادية الوليدة إلى جماعة سياسية، وهي (أي دولة المدينة) ما قامت بنص أو أمر قرآني، وإنما اجتهد في إقامتها نبي الإسلام والقائد السياسي للجماعة الأولى المسلمة ضمن نطاق ما اجتهد فيه من أمور دنيوية، ليس في شأنها نص صريح من القرآن، وهي كثير. ثم كان نظام الخلافة (الراشدة) اجتهاداً زمنياً من كبار الصحابة، حيث لا نص عليه في القرآن الكريم، واستقر سلطانه لفترة قاربت الثلاثين عاماً (بين تولية الخليفة أبي بكر واغتيال الإمام علي بن أبي طالب). وحين وقع الانتقال من نظام الخلافة إلى الملك العضوض، مع قيام دولة بني أمية ثم بني العباس، ثم مع قيام السلطنة في أعقاب انهيار الخلافة العباسية، لم يكن المسلمون يفعلون بالشأن السياسي إلا ما فعلوه به منذ نشأة دولة المدينة: التماس مصلحة الأمة والجماعة. نعم، تناقص، مع الزمن، معدل حضور الديني في السياسي بالانتقال من الدولة النبوية، إلى دولة الخلافة، إلى الدولة السلطانية، ولكن السياسي ظل هو هو: المبدأ الحاكم الذي يؤتى من باب الاجتهاد، ويشهد على ألوان شتى من التغير الذي تقتضيه الظروف ولا يقيده ثابت مرجعي من دين.