إذا استثنينا المسيحية، في حالة الأديان الكتابية، حيث لا شريعة فيها بالمعنى الذي يفيدُه لفظ الشريعة، كنظامٍ كامل من قواعد الإلزام الديني للسلوك الإنساني، وحيث لا محلّ لمقارنتها بالشريعتين الموسوية والمحمّدية في تقرير مكانة الدنيويِّ من الدينيّ، أو في إحكام بناء الصلات بين الشريعة والعقيدة، ألفينَا أنّ الدين ليس محضَ نظامٍ للعقيدة، يُخبِر البشر -من طريق الوحي- بما عليهم أن يعتقدوه في مسائل الخَلْق والوجود والمصير، وإنما هو -فوق ذلك- نظامَ شريعةٍ يرسم للمؤمنين به قواعد المعاملات الشخصية والعامّة في شؤون الحياة كافة. قال السيد المسيح لتلامذته وأتباعه إنّ مملكته ليست من هذا العالم، وإنما تقوم بعد الحساب، وأنّ عليهم أن يتّبعوا الشرائع القائمة لحكّام الأرض. ولم يكن ذلك شأنُ نبيَّيْ اليهودية والإسلام، فلقد زوَّدا أتباعهما بشريعةٍ كاملة تبدأ من أحكام الطهارة والأنكحة والمواريث، والمآكل والمشارب، ولا تنتهي بأحكام البيوع والتجارات . وعلى الأتباع أولاء أن يلتزموا الشريعة تلك لأنه ما من دينٍ وإيمان يثبُتان من دونها. ومع ذلك، ظلّتِ اليهودية والإسلام -والأخيرُ خاصة- تراعيان التدرُّج في فرض أحكام الشرائع وتقديم منظومتها إلى المؤمنين. وفي المراعاةِ تلك تسليمٌ بأنّ من مقتضيات الإيمان، والترغيب فيه، أن لا يجترع المرءُ كَرْهاً ما ليس من عوائده والمألوفات، بل أن يتمرَّن عليه بالتكييف المستمرّ على النّحو الذي يُسْتَدخل في جملة عوائده فيصير شيئاً من «الطبيعة الثانية»، كما يقال، أو بهذه المثابة.
على أنّ مراعاة الحاجة إلى التدرُّج في تقديم منظومة الأحكام الشرعية كانت تلْحظ، في الوقتِ عينِه، إمكانات التطوير والتعديل، بل التغيير الكامل، في الأحكام الشرعية تلك. هذا، مثلاً، ما يفسّر ظاهرة النَّسخ في الأحكام القرآنية، حيث تأتي أحكامٌ جديدة تَنْسَخ ما قبْلها وتُبْطِل العمل به، حتى أنّ ثقل الظاهرة في الإسلام تأدّى بعلماء القرآن إلى إحداث علم خاصٍّ بالمسألة، هو علم الناسخ والمنسوخ. وإذا كان لظاهرة النَّسخ أن تعنيَ شيئاً، فهي أنها تُفْصح عن صلاتٍ لم تنقطع بين التشريع والاجتماع الإنساني، بين الوحي والتاريخ، وبيانُ ذلك أنّ مبنى الشريعة ومبدأَ قيامها إنما على مصالح الناس (العباد)، وهذه ليست ثابتة وإنما تتغيّر تبعاً لتغيُّر الأحوال، فتأتي الأحكام الشرعيةُ مستجيبةً لحاجات ذلك التغيُّر. والشريعة في هذا مثل القانون في الدولة الحديثة، هو، مثلها، حُرمٌ وموضعُ احترامٍ وامتثال، لكنه ليس ثابتاً أبديًّا، وإنما يأتي عليه حينٌ من الدهر يصبح تعديلُه أمراً لا مهربَ منه، لأنّ في التعديل مصلحةً جامعة.
وإذا كان الفارق بين فعليْ النَّسْخ الديني و«النَّسخ المدني» أنّ الأوّل يجري على نحوٍ لا دخْل للناس (المؤمنين) فيه، لأنه يقع داخل خطاب الوحي، وأنّ الثاني يَحْصُل بالتوافق داخل المجتمع، أو بإرادة صاحب السيادة، فرداً كان أو مجلساً (أرستقراطياً، ديمقراطياً)، فإن الجامع بين فِعْليْ النَّسخ أنهما يقعان استجابةً لـ -وتفاعلاً مع- معطىً تاريخيّ متغيّر يفرِض أحكاماً مطابِقة أو مناسِبة.
ليس من تغييرٍ يطرأ على العقيدة في أيّ دين، فحقائقُها مطلقة، من جانب، ومقتضياتها ثابتة وثابتٌ التزامُ أحكامها على المؤمنين بها، من جانبٍ ثان. وتفسير ذلك أنّ الحقائق الوجودية، التي تقدّمها العقيدة لمعتنقيها، ليست خاضعة لأحكام التاريخ خضوع المصالح لها، ولذلك فلا تبديل فيها، ثم إنّ مبنى العقيدة على حقوق الله على الخلق، الذين مُنِحوا نعمة الوجود، وهذه حقوق لا يمسّها تغيُّر. وليست تلك حال الأحكام الشرعية (التشريعية)، لأنّ هذه تتغيّر، كما أشرنا، بل إنّ بعضَها المتقرّر، بقوة أحكام التشريع، قد يتعطَّل العملُ به من المؤمنين أنفسهم -لا بنَسْخٍ من الوحي فحسب- وكم جرى مثل ذلك في الأديان. إنْ أخذنا الإسلام مثالاً، نلاحظ أنّ بعضاً غيرَ قليلٍ من الأحكام الشرعية عُطِّل العمل به في تاريخ المسلمين وفي منظومات قوانين دُوَلهم: قديماً وحديثاً، فما لبِث التعطيلُ ذلك أن صار مألوفاً حتى أنه بات في حكم القاعدة لا في جملة الاستثنائيّ أو الشاذّ، ومن ذلك، مثلاً، الأحكام الخاصة بتطبيق الحدود، أو المتعلقة بقسمة الفيء، أو الخاصة بضريبة الجزية على رؤوس أهل الكتاب، أو المتعلقة بالقوامة…إلخ. فهذه، وغيرُها كثير، ممّا اقتضتْ مصلحةُ المسلمين تعطيل العمل به لتغيُّر الظروف التي كانت تَحْمِل على التزام الأحكام والتشريعات تلك، ولنشوء مصلحة/مصالح جديدة تقتضي أحكاماً أخرى تناسِبُها. وليس في التغيُّر هذا ما يبعث على الغرابة لأنّ مبنى الأحكام تلك على مصالح العباد، لا على واجباتهم تجاه الله، ولأنّ للمصالح تلك حاكمية في الشؤون الدنيوية.
لو أخذنا مثاليْن، فقط، لذلك التعطيل الذي طال بعضَ الأحكام الشرعية، المتعلقة بالعقوبات أو بالالتزامات العامّة، في عصرنا الحديث، لتبيَّنَا ما كان للمصلحة من حاكميةٍ في التشريع الإسلامي. المثالان ذيناك هما: وقف العمل بتطبيق أحكام الحدود (حدّ السرقة، حدّ الزّنا.. إلخ)، ووقف العمل بنظام جباية ضريبة الجزية على غير المسلمين من أهل الكتاب، وهي الأحكام التي ظلت مألوفة، لقرونٍ، في تاريخ الإسلام (قبل العصر الحديث)، مثلها مثل أحكام قسمة الفيء التي عطَّلَ العملَ بها الخليفة عمر بن الخطاب في الأراضي المفتوحة. إن دول العالم الإسلامي (حوالي 54 دولة) أوقفت تطبيق الحدود، وأدخلتِ العقوبات في نطاق القانون المدني، واستعاضت عن الجَلْد وقطع الأطراف بعقوبات أخرى -جُنْحية أو جنائية- مثل الحبس والغرامة المالية والتجريد من الحقوق السياسية، على نحو ما تُقِرُّهُ أحكامُ النظامِ القانوني في العالم كلِّه، وعلى نحو ما تفعله الدول كافة. كما أنّ الدولة الحديثة في العالم الإسلامي أبطلتِ العملَ بتصنيف قسمٍ من مواطنيها بما هُم «أهل ذمة»، وتركيب ضريبةٍ على تصنيفهم ذاك (هي الضريبة الشرعية) يدفعون بمقتضاها جزيةٍ عن رؤوسهم لقاء حماية دولة الإسلام لهم، على نحو المألوف في الماضي، فقد ألغى مبدأُ المواطنة -وهو مبدأ سياسيٌّ حديث- مثل ذلك التمييز بين رعايا الدولة على أساس الدين، مثلما فرضت وحدةُ التشريع القانوني توحيداً للنظام الضريبي في نظامٍ وطنيّ واحدٍ جامع يتساوى أمامه الرعايا جميعاً، في الواجبات والالتزامات، من دون تمييزٍ بينهم في الجنس أو الدين.
أثبتتِ المصلحة مكانَتها كمبدأ رئيسٍ في التشريع، خاصة حينما تقتضيها دواعٍ تتحرَّك في دائرة ما هو متغيِّرٌ في الدين، لا في ما هو ثابت لا يَقبل التغيير.