بعد محاكمة مراكش الشهيرة أحضر المناضل سعيد بونعيلات ورفاق له إلى سجن القنيطرة المركزي، فأصبحت أتردد على زيارتهم لأزودهم بالأكل، كان عددهم حوالي عشرة أشخاص، ـحمد بن جلون الفرقاني بن حمو، البشير ….ولقد كنت شخصيا أول من اتجه إلى باب السجن مباشرة بعد بث خبر العفو الملكي بالراديو حوالي الساعة الواحدة بعد الزوال، ووجدت أن المدير لا علم له بالأمر.
وفي انتظار توصله بتأكيد من الرباط نودي على مناضلي القنيطرة حيث استطعنا توفير استقبال مشرف للأخ سعيد عند خروجه من السجن صحبة المرحوم المقاوم بن موسي. أركبتهما سيارتي واندمجنا في مسيرة تلقائية سارت في شارع محمد الخامس بالقنيطرة ومرت بالقرب من السجن العسكري الذي كان يأوي محكومي انقلاب الصخيرات. في اليوم نفسه استقبلتهما في منزلي حيث سنبقى الليلة مع بعضنا، كما توجهت معهما إلى المدينة في اليوم الموالي لاقتناء بعض الملابس..
اتصل بي الأخ اليازغي باسم الكتابة الإقليمية للرباط (آنذاك) وأخبرني بتاريخ وبرنامج دخول الأخويين إلى الرباط.
في الوقت المناسب أركبت الأخوين سعيد اجار و بن موسى سيارتي(بوجو 404 حمراء) وما إن بلغنا بوقنادل حتى بدأت حشود كثيرة من المستقبلين تملأ جنبات الطريق، وأصبحت تزيد كلما اقتربنا من سلا أولا ثم من الرباط ثانية إلى أن عرجنا نحو حي يعقوب المنصور، مكان مقر الحزب الذي تقرر القيام فيه بالاستقبال السياسي.
من بوقنادل إلى سلا ثم إلي الرباط ومقر الحزب بيعقوب المنصور كان قد تكون موكب طويل من سيارات المناضلين والمتعاطفين، ومن بينهم أعضاء القيادة الإقليمية يقودها الأخ اليازغي والأخ الحبيب الشرقاوي وآخرون.
وأقر هنا وأعترف أنني في مرحلة ما من هذا “السير البطيء “وسط الازدحام البشري وتحت وطأة الجو “السريالي” الطارئ وعنف الحدث المفاجئ، أقر أنني وأنا وراء المقود كدت أفقد السيطرة على قيادة سيارتي التي تحمل الأخوين العظيمين المحتفى بهما: الفرحة، المفاجأة، الدلالة السياسية والتأثير النفسي، و التدافع والاندفاع، الشعارات الحماسية، كل هذا ساهم في إنهاكي وأضعف قوتي على التركيز وقدرتي على مستوى رؤية واضحة،على الخصوص.
عند وصولنا إلى مقر الحزب لم يسمح لنا الوجود المكثف للجمهور المتظاهر بأن ننزل وندخل دون تدافع.. وباقتراح من سعيد فتحت النافذة السطحية للسيارة (ديكابوطابل) الشيء الذي مكنه من الوقوف وتوجيه التحية قبل أن يغفل الجميع ويقفز بسرعة من الأعلى نحو الداخل. ربما هو الحس الأمني الذي أوحى له بذلك، أو ذاكرته التي أعادته إلى تجربته في «لجنة التزيين» التي كان يعمل بها كوطني في الخمسينات أو ربما هو ماضيه كقائد مقاتل بجيش التحرير.
بإمكاني أن أقف هنا لو أردت الإيجاز، لكن هنالك أشياء مهمة لم يذكرها الحاج سعيد، ربما لأن الصحفي لم يسأله عنها، وأريد اليوم أن أقدمها إلى القراء الراغبين، وهم كثر، في معرفة السيرة الكاملة للمناضل سعيد بونعيلات.
و قبل ذلك،وبتلخيص، يمكنني أن أؤكد، حسب تقدير عدد من المناضلين، أن دخول الرباط هذا لسعيد، لا يضاهيه، نسبيا طبعا وبكل تواضع، إلا استقبال محمد بن يوسف بعد المنفى أو المهدي بن بركة يوم دخوله من منفاه الإرادي.
على إثر هذا عقد بدار الشرقاوي بمارسا لقاء ليلي ترأسه المرحومان عبد الرحيم بوعبيد وحسن الأعرج وحضره عمر بن جلون واليازغي وقيادات اتحادية من الرباط والبيضاء، وكانت مناسبة تم فيها الاحتفال بالأخوين المحررين أولا، وثانيا إبلاغ رسالة مشفرة إلى من يهمه الأمر مفادها “إننا نحن القواعد” قد تجاوزنا الحدود باستقبالنا للأخوين بتلك المظاهرات التي كادت أن تقلب موازين الأمن والاستقرار، لاسيما وأن قرار الملك وهو بأكادير جاء نتيجة ديبلوماسية ذكية حبك خيوطها عبد الرحيم وحسن. كلامها كان موجها “لنا” في شبه نقد و نقد ذاتي عن التجاوزات التي كادت تبدو استفزازا، موقف ملؤه لوم واعتذار في آن، والكل بصيغة التلميح.
تناوب الأخوان اليازغي وعمر على أخذ الكلمة، وكأنهما قد قرآ خطاب عبد الرحيم على مستوى الدرجة الأولى و ليس الثانية، بردود عنيفة وبالوضوح الاتحادي الذي لا وضوح فوقه. للتاريخ يمكن أن أقول إن هذا نوع من المسرحيات التي كان المرحوم عبد الرحيم يتقن إعادة اللعب فيها كلما اقتضى الأمر، كما كان المرحوم حسن يمثل فيها أدوارا مقنعة، وكل هذا خدمة لأهداف الحركة الاتحادية وتطبيقا لبرغماتية خلاقة. وعلي أن أضيف أنه قد حضر هذا اللقاء نفسه ثلة من أصدقاء المحررين من قدماء المقاومين، منهم من كان يشتغل في مهام قريبة من القصر الملكي.
إذن” إياك أعني واسمعي يا جارة ” كان هو لسان حال اللقاء الذي انتهى في منتصف الليل ورجعت بعده إلى القنيطرة بمعية سعيد في سيارتي.
بعد أيام قليلة طلب مني سعيد بونعيلات الذهاب إلى الدار البيضاء نحو شقة يملكها في عمارة ما بالحي العصري كانت من ملاجئه أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات، قبل أن يغادر المغرب إلى الجزائر..ففعلت عن طيب خاطر وبدون حساب، لأن قوة الاندفاع أصبحت لدي لا تتأثر بكبح الفرامل.
عند وصولنا فتح الباب بعفوية تامة ودخلنا بسلام. كانت هناك طبقة كثيفة من الأوساخ والغبار والأتربة تغطي الأرضية، تجمعت لمدة تزيد عن عشر سنوات. أخذ بعض الأشياء التي كان قد نسيها هناك قبل سفره الاضطراري، والتي تدخل كلها في خانة الأدوات والتجهيزات الأولية والضرورية للمناضل الثوري والنشيط مثل العم سعيد بونعيلات. ثم خرجنا. قدرت بعد ذلك و اقتنعت أننا ارتكبنا، بدون شعور، خطئا فادحا، لأن المفتاح كان له أن يدخلنا إلى شقة ملغمة… لو لم يطمس سعيد في سريته أعين أصحاب الحال لمدة سنوات.
توجهنا معا إلى المدينة – درب الفداء ربما- ودخلنا بيتا لنجد والده ذا الثمانين أو التسعين عاما، والذي بدا رحمه الله وكأنه وصل للتو من الجنوب السوسي. أخذ منه سعيد مفتاحا لملجأ ما في حي ما كان قد تركه عنده منذ مدة. وبعد ذلك رجعنا إلى القنيطرة أي إلى منزلي حيث أصبح يستقر. نظمت لقاءات مع أصدقاء مقاومين ومع الدكتور عمر الخطابي رحمه لله والذي أصبح، منذ شهور، طبيب جميع المسجونين السياسيين، أي الاتحاديين، بالسجن المركزي.
التحقت السيدة زوجة سعيد بالمغرب بعدما اتصل بها هاتفيا من منزلي ليلة تحريره – الشيء الذي أوقعها، نظرا للمفاجأة، في حالة حادة حيث أغمي عليها وهي على الخط – حسب ما أخبرني به الأخ سعيد- فبقيا عندنا بالقنيطرة إلى أن زين بيتنا بمولودة فحضرا حفلة ” السابع ” ضمن الإخوة الاتحاديين الآخرين، كان هذا أواخر شهر يونيو 1972 ، وأصبح بحكم الواقع حفل الوداع بالنسبة إلي. لا أنسى تحركا طريفا قمت به نحو المعتقلين الآخرين (منهم أحمد بن جلون وبن حمو والقائد البشير وآخرون) لإشراكهم في فرحة «السابع» حيث قدمت لهم خرفانا مشوية فسمح لي المدير بإدخالها لهم بنفسي (فقلت مع نفسي، سبحان مبدل الأحوال، لقد كان علي من قبل كلما أتيت بمأكولات لهم أن أمررها على الإدارة ثم أنصرف).
في النهاية قرر الأخ سعيد أن يستقر في الدار البيضاء بمنزل الأخ عبد الرحمان اليوسفي. نقلتهما من القنيطرة وكانت لي يومها مناسبة من أسعد المناسبات حيث التقيت بتلك الوالدة الشامخة النبيلة والفاضلة التي كانت ‘تحرس’ دار ابنها السي عبد الرحمان الذي طال انتظارها له ليعود وتراه. حاولت أن أقوم، حسب المستطاع، بحل بعض المتطلبات المادية وانصرفت دون أن تنقطع أبدا علاقاتي المتميزة مع العم سعيد.
واقعة أخرى بسيطة لابد لي من ذكرها: بتوجيه من سعيد التقيت ب”مول الحانوت ” المتواجد قرب السجن القنيطري لتأدية فاتورات مستهلكات عادية كان قد أرسلها هذا الأخير لسعيد وهو في زنزانته، وهكذا وجدت نفسي وبدون نية داخل الشبكة التضامنية التي تربط أصحاب “البيسريات ” من أهل سوس المتاجرة -لا ننسى أن بونعيلات كان له متجر ناجح بالبيضاء أيام المقاومة – لكن يبقى السؤال :هل من العادي أن يرسل صاحب متجر بضائع مع وسيط و بدون دفع إلى مسجون محكوم بالإعدام لم يلتقه سابقا، وربما لن يلتقيه مستقبلا؟ الجواب يكمن في قوة العلاقات التنظيمية التي تطبع حضارة أهل سوس.