قديما عرف ابن جني اللغة بأنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم . وهو تعريف ، على قدمه يقترب اقترابا شديدا من تعريفات علماء الألسنية المحدثين . فاللغة أصوات متى اجتمعت في نسق منظم ألفت وصلات صوتية تسمى الكلمات ، والكلمات لها صور تنطبع في الذهن بمجرد سماعها أو قراءتها . وبهذا الترابط الطبيعي بين الكلمات والصور أمكن نقل الأفكار والمعاني والتصورات إلى الغير بشكل صحيح ، ما يسهل التواصل بين أفراد البشر .
وحين تنفصل الكلمات عن صورها ، والألفاظ عن معانيها تتحول اللغة إلى لغو يرمي بالناس في دهاليز الفوضى التواصلية ما يؤدي إلى ضياع المعنى وتأزم المواضعات .
إن الجزء الأكبر من لغتنا السياسية يصعب فهمه بمنطق اللغة وحده ، لأنه موضوع أصلا بكلمات مجردة من الصور أو مقرونة بصور مزيفة بقصد التعمية وإشاعة الفساد في مجال التواصل . فالعدالة الاجتماعية ، والديموقراطية ، وحقوق الإنسان ، والمحاسبة ، والشفافية ، وغيرها من عشرات العبارات والمفاهيم المتداولة في لغتنا السياسية ترد بدلالات لا نكاد نجد لها صورا تنطبق عليها في الواقع ما يجعلها مجرد أصوات فارغة أهم ما فيها أنها تعفي من يستعملها من واجب التفكير .
لقد فرق الناقد الإنجليزي أيفور أرمسترونغ في كتابه ” معنى المعنى ” بين استعمالين للغة :
الاستعمال الرمزي والاستعمال الانفعالي
والفرق بينهما أن الأول فيه تقرير للقضايا ، أي تسجيل الإشارات وتنظيمها وتوصيلها إلى الغير ، والثاني مجرد استعمال الكلمات ولو بدون صور ثابتة للتعبير عن الهيجانات الانفعالية ، والأحاسيس الداخلية ، ولا يتضمن قضايا يمكن التحقق من صدقها بالمعايير المنطقية الدقيقة .
ولا شك أن لغة السياسة يجب أن تستعمل بالطريقة الرمزية الإشارية لأن الغرض منها هو التواصل المعقلن في إطار الواقع ، وليس التعبير عن تجربة صوفية أو عاطفية أو وجدانية . لذلك من حق الناس اختبار الخطاب السياسي بمنطق جون ستيوارت ميل الذي لخصه بقوله :
” البرهان الوحيد الذي يمكن تقديمه على أن شيءا ما موجود ومحسوس هو أن الناس يرونه فعلا ويحسون بوجوده ، والبرهان الوحيد الذي يمكن تقديمه على أن شيءا ما مسموع هو أن الناس يسمعونه فعلا .”
فالتماسك المنطقي للغة السياسية ، على فرض وجوده ، لا يضفي عليها مزية معتبرة لأن قضاياها مرتبطة بالواقع ومزيتها الكبرى في مطابقة محمولاتها لما يراه الناس موجودا في الواقع . وقد أكد الفيلسوف هينري ليفيفر في كتابه ” ما وراء الفلسفة ” أن العمل والفعل والتطبيق هو حقيقة الإنسان ، وتطور الإنسان رهين بتطور العمل والفعل والتطبيق . والكلام السياسي ما لم يترجم إلى التطبيق يبقى هراء وثرثرة وتهريجا رخيصا ينم عن ضعف في الشخصية وفساد في التربية والتكوين .
إن السياسة لا تزال في تصور بعض المشتغلين بها مجرد ” بوليتيك ” بمعنى فن الخداع المبتذل يجوز فيه ما لا يجوز في غيره من الكذب والاحتيال والسفسطة والهرطقة والنفاق . و