الولايات المتحدة الأمريكية بصفتها اللاعب الغربى الأساسى فى إدارة الصراع على لوحة الشطرنج الكبرى ما بعد الحرب الباردة وسقوط الشيوعية، وبعد أن حددت المحاور الأربعة الجيواستراتيجية المهمة والتى تحقق لها المصالح الجيوبوليتية لضمان السيطرة على رقعة الآوراسيا.

وبنجاح التمدد بالنفوذ السياسى والعسكرى الأمريكى على المحيط الآوراسى الغربى عبر دول أوروبا الغربية، حان الوقت لفرض الهيمنة والتمدد بالنفوذ السياسى والعسكرى الأمريكى فى منطقة الشرق الأوسط، بعد أن تم تجهيز مسرح العمليات، وفُتحت أبواب المنطقة على مصراعيها بحرب الخليج الثانية أحد إفرازات حرب الخليج الأولى، ثم الغزو الأمريكى لأفغانستان والعراق. فالتكتيكات متشابهة، والهدف الاستراتيجى واحد.

ومثلما طوعت إمكانيات الاتحاد الأوروبى ليمدد النفوذ الأمريكى على وسط وشرق أوروبا، فبنفس ديناميكيات الأجندة السياسية والاقتصادية للأورومتوسطية والاتحاد من أجل المتوسط، سيتم تطويع منطقة الشرق الأوسط لصالح اللاعب الغربى الأساسى، عبر مشروع الشرق الأوسط الكبير.

ارتكز مشروع (بوش الابن) على أهداف نبيلة فى مواجهة التدهور الكبير فى الأوضاع العربية بمختلف مجالاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما يدفع إلى ضرورة البدء فى إصلاح هذه الأوضاع، قبل أن تتفاقم أكثر مما هى عليه.

استعان المشروع الأمريكى فى مجمله بفقرات ومعلومات استقاها من تقرير التنمية البشرية العربية الصادر عن الأمم المتحدة لعام 2002، والذى يشير أغلبه إلى سلبيات المجتمعات فى العالم العربى.

تم الإعلان عن نص المشروع فى مارس من عام 2004، بعد أن طرحته الإدارة الأمريكية على مجموعة الدول الصناعية السبع، وقد اعتمدت آليات تنفيذه على ثلاثة محاور رئيسية:

المحور الأول: تشجيع الديمقراطية والحكم الرشيد، فظهرت منظمات المجتمع المدنى غير الحكومية بدولاراتها البرتقالية، تحت غطاء نشر الديمقراطية، ودعم ظهور الصحف المستقلة، وتكريس جهود الشفافية ومكافحة الفساد.
عملت هذه المنظمات تحت حماية الاتفاقيات الدولية المذيلة بتوقيع المجتمعات المستهدفة، تسطر أهدافًا نبيلة، وشعارات براقة، ولم ينتبه أحد، آنذاك، أن هذه الشعارات ضمت بين جنباتها خطط اختراق طويلة المدى للمجتمعات العربية، عبر تنظيم ندوات، وزيارات، وتدريبات تستقطب الشباب، وتضمن الولاءات، وتجند العملاء، وكلما زادت الدولارات البرتقالية، اتسعت مساحة التوغل والاختراق داخل جدران الصحافة والإعلام، وطبقات النخب والمثقفين والأدباء والساسة والفنانين، الذين تحولوا بمرور الوقت إلى فئران تتسلل ببطء لتقرض جدران ومؤسسات الدول، وتختصم الشعوب مع حكامها ومؤسسات دولها لليلة الموعودة.

وبصورة أعمق، عملية استنساخ لتجربة «تفكيك الاتحاد السوفياتى»، أفصحت عنها الكاتبة البريطانية (فرانسيس سوندرز) فى كتابها «من يدفع للزمار- الحرب الباردة الثقافية» عن دور المخابرات الأمريكية فى تجنيد الفنانين والكتاب، وكيف استطاعت المخابرات الأمريكية أن تشترى كتابًا وصحافيين ومثقفين وفنانين ومنشقين، وكيف أصدرت مطبوعات متنوعة لإسقاط الشيوعيين نهائيًّا، فيما عُرف بربيع أوروبا الشرقية، أو ربيع براغ.

المحور الثانى: بناء مجتمع المعرفة عبر مبادرة التعليم الأساسى، ومبادرة التعليم على الإنترنت، ومبادرة تدريس الأعمال إذ لم تكن التمويلات البرتقالية لبرامج الأمم المتحدة الخاصة بتطوير البنى التحتية لهذه المجالات سوى خطط تطمس الهوية العربية والقومية، ولم تكن عمليات تغيير أُطر المناهج التعليمية إلا لتتواءم مع تعاليم وقيم الغرب، وتدمج أجيالًا ناشئة بالفضاء الثقافى الغربى، ولم تكن مبادرة التعليم على الإنترنت سوى وسيلة لتكوين شبكات عنقودية على شبكات الإنترنت تستطيع التأثير فى مريديها، وتخصيم قطاعات عريضة منهم مع مؤسسات الدولة. المحور الثالث: توسيع الفرص الاقتصادية، وتتضمن مبادرة تمويل النمو الاقتصادى، بإنشاء مؤسسة المال للشرق الأوسط، وبنك تنمية الشرق الأوسط، وإقراض المشاريع الصغيرة، وكذلك مبادرة التجارة التى تتضمن إنشاء مناطق تجارية بين دول الشرق الأوسط الكبير، والانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، وهى برامج لم تجنِ شعوب المنطقة من ثمارها سوى القليل، لكنها شهدت سيطرة اقتصاد السوق الحرة على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية.
هكذا قدم مشروع الشرق الأوسط الكبير إلى المجتمعات العربية «رسول المحبة» الذى يحمل الخير للأمة، فالديمقراطية والحكم الرشيد يشكلان الأُطر التى تتحقق داخله التنمية، والأفراد الذين يتمتعون بتعليم جيد هم أدوات التنمية، والمبادرة فى مجال الأعمال هى ماكينة هذه التنمية. لكن رسول العولمة الجديد لم يتحدث عن إشكالية المديونية وعبئها على الاقتصاد، ولم يقترح إعفاء الدول العربية من ديونها، كما تفعل الصين اليوم، عبر مبادرة الحزام الاقتصادى وطريق الحرير، ولم يتناول التشجيع على البحث العلمى بهذه الدول، لم يتناول التطور التكنولوجى وأهمية بناء مراكز أبحاث متطورة، ولم يتناول مسألة الحواجز الجمركية وحرية رأس المال، كما لم يتناول انعكاسات الضغوط السياسية التى تمارسها الولايات المتحدة على الحكومات العربية لمنع أى تطور مناهض للغرب. وفى النهاية تسقط الدول فى شباك القاتل الاقتصادى بقروض صندوق النقد الدولى، وحينما تعجز عن سداد مديونيتها تسقط رهينة فى قبضة الاحتلال الناعم للعولمة الغربية.

 

الجمعة 6 صفر 1439 هجرية / 27 أكتوبر 2017.

‫شاهد أيضًا‬

اليسار بين الممكن العالمي والحاجة المغربية * لحسن العسبي

أعادت نتائج الانتخابات البرلمانية الإنجليزية والفرنسية هذه الأيام (التي سجلت عودة قوية للت…