ارتقى إلى جوار ربه ليلة الثلاثاء المقاوم والمناضل الكبير محمد أجار الملقب بسعيد بونعيلات ، بإحدى المصحات بالدار البيضاء، والرجل من طينة الوطنيين الكبار الذين كرسوا حياتهم خدمة للوطن والدفاع عنه، سواء في مواجهة الاستعمار أو معركة الديمقراطية والتقدم، وساهم في دعم كفاح الشعب الجزائري، خبر المنافي والسجون والتعذيب ولم يلن أو يهن، وظل صامدا وفيا ، وظل احد أركان النضال ومرجعا في الصدق والوطنية.
وبقلوب خاشعـة وأفئدة مكلومة، ودعت أسرة الحركة الوطنية والمقاومـة وجيش التحريـر، رئيس المجلس الوطني لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.
وقد نعته المندوبية السامية، وذكرت بمناقبه وخصاله الحميدة. وجاء في النعي أن الفقيد «اصطف في صفوف حزب الاستقلال مبكرا على يد بناصر حركات، وعقب تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، عين مسؤولا عن التنظيم الحزبي بكريان سنطرال، حيث تعرف على قادة الحزب بالدار البيضاء، منهم محمد الزرقطوني وعبد الرحمان يوسفي وبوشتى الجامعي وبناصر حركات ومحمد منصور. امتد نشاطه إلى مدن عديدة خارج مدينة الدار البيضاء خلال أسفاره، لنقل السلع على متن شاحنة خاصة بمدن تافراوت واكادير وتزنيت وتندوف، حيث كانت أسفاره مناسبة لاستقطاب المناضلين الجدد لصفوف الحزب، ونشر توجيهات وتعليمات القيادة الحزبية «، كما أشارت المندوبية إلى تميز عمل الراحل العزيز أيضا بالتنسيق مع المجاهدين الجزائريين، حيث شارك في مهمة الإشراف على إفراغ باخرة «دينا» من شحنة السلاح القادم من مصر رفقة حمدون شوراق ورجاله من أبناء المنطقة وجزائريين قدموا خصيصا لهذا الغرض، ثم شارك من جديد في استقبال الباخرة الثانية «النصر »
. وكان أيضا حاضرا في الاتصالات العديدة التي تمت مع أبناء أقاليم الشمال لوضع لبنات أنوية جيش التحرير. ولما تقرر انطلاق العمليات المسلحة لجيش التحرير بالشمال، تولى توزيع قطع السلاح على مختلف الفرق والتنظيمات في الجبهات المفتوحة بشمال الوطن.
وثق كتاب حواري أجراه الزميل عزيزالساطوري مع الراحل تحت عنوان مسار مقاوم ، لمحطات هامة وأساسية، بحيث وقف الكتاب على أن كل الذين كتبوا عن هذه المراحل من تاريخ المغرب ، ذكروا أن «سعيد بونعيلات» واحد من الأبطال الكبار الذين يحق لكل المغاربة أن يفتخروا بهم· وقد أكد ذلك غير ما مرة ، منذ التحاقه المبكر بصفوف الحركة الوطنية ، ثم بالقيادة المركزية لحركة المقاومة المسلحة رفقة الشهيد محمد الزرقطوني ومحمد منصور وسليمان العرايشي وعبد لله الصنهاجي وغيرهم·
هذا المناضل الكبير ، أو الرجل الخفي الذي دوخ مخابرات الاستعمار ، وكان يبيت في العراء رفقة الشهيد الزرقطوني ، عندما أصبح ملاحقا، كان نصيبه من مغرب الاستقلال ثلاثة أحكام بالإعدام·
وعندما أطلق سراحه سنة 1972، خصص له المغاربة استقبالا منقطع النظير ، من سجن القنيطرة إلى الرباط مرورا بسلا · وقد ظل طيلة هذه السنوات وفيا لأفكاره ومبادئه ، يراقب -عن كثب- تطورات الأوضاع، إلى أن أقنعناه بفتح صدره، وكشف أسرار عديدة تخص مراحل هامة من تاريخ المغرب، كان أحد صناعها الكبار ·
حين تحدث الراحل عن مؤامرة 1963 حيث تم الزج بهم في مواجهة، قال بالواضح «أشير إلى أن أولائك الذين خططوا وحاولوا توريطنا أنذاك، كانوا غير أذكياء، وربما أن السرعة التي تم بها طبخ الملفات جعلتهم لا ينتبهون إلى نقطة أساسية، وهي أن الشاهد الذي جلبوه لتأكيد تلك الأكاذيب، لم يكن يعرفنا، كان يكفي أن يطلعوه على صور كل واحد منا ويلقنونه الأسماء، حتى لا يخلط بينها أمام قاضي التحقيق، الذي كان نزيها وأدرك أن الملفات مطبوخة. هكذا، عندما وقف الشاهد «الزيتوني» أمام قاضي التحقيق، كنت أنا بالنسبة إليه شخصا آخر، وغيري كان بالنسبة إليه محمد آجار الملقب بـ «اسعيد بونعيلات»·
خلال أطوار هذه المهزلة وبعدها، أدركنا أن هناك مخططا خفيا، يهدف إلى الإساءة إلينا أمام محمد الخامس، وتوجيه ضربة إلى جيش التحرير بالجنوب، وتوريط الاتحاد الذي كان تأسيسه والزخم الجماهيري الذي واكبه، قد أحدث رجة سياسية في المغرب كله، وأصبح يمثل القوة السياسية الرئيسية في البلاد، لذلك، ومنذ ذلك الوقت المبكر، بدأ التفكير في ضرب الحزب والقضاء عليه·
ويحكي الكتاب أحداثا مؤثرة عن دور الفقيد ومحطة أخرى من مشواره النضالي والكفاحي، حيث واصل نضاله في شمال المغرب الذي – كما أوضح أخونا عبد الرحمان اليوسفي – كان يتردد عليه، لكنه في النهاية كان من جملة الثلة المجاهدة المناضلة التي أسست جيش التحرير في شمال المغرب لمواجهة الاستعمار، ومواجهة ثانية في الحرب المباشرة في البوادي وإدخال البادية المغربية لمعركة انتزاع استقلالنا وإرجاع جلالة المغفور له محمد الخامس إلى عرشه·
وكانت لسعيد بونعيلات في هذه الأثناء مساهمات بطولية ومشرقة في دعم الثورة الجزائرية كما أوضح أخونا عبد الرحمان اليوسفي وتزويدها بالعتاد والسلاح·
ولن ينسى الشعب المغربي وكذلك الشعب الجزائري أنه حمل بومدين على أكتافه لإخراجه من الباخرة إلى الشاطئ المغربي على البحر الأبيض المتوسط ليتسلم الحصة من السلاح التي قررت المقاومة المغربية أن تمد بها شقيقتها الثورة الجزائرية·ومن شمال البلاد إلى أقاليمنا الجنوبية سيكون حضور الأخ سعيد بونعيلات حضورا متميزا وسيكون له باع طويل في كفاح جيش التحرير في الصحراء. وتطرقت السيرة أيضا إلى معانقة الراحل للحرية بعد عفو ملكي « لكم أن تتصوروا كيف احتضنته الجماهير الشعبية بمدينة القنيطرة وسلا والرباط التي حج إليها الآلاف لتحيته وإبراز دوره النضالي· كانت صورة حية ورائعة لتعاطف ووفاء الجماهير مع ذلك النضال التحرري، وذلك النضال الديمقراطي·
وبالطبع، ظل أخونا في خندق النضال الديمقراطي يعمل بتفان وإخلاص من أجل الديمقراطية، ومن أجل حقوق الإنسان، ومن أجل العدالة الاجتماعية والحرية، ومن أجل الوحدة الترابية، ملتزما بخط الاتحاد الذي هو أحد مؤسسيه·».
وعن مرحلة الجزائر، يحكي الكتاب عبر شهادة لأحد مجايلي الراحل، حيث وصفه بأنه «رجل يتميز بيقظة فائقة وحذر كبير في التعامل مع اللاجئين الجدد· كان سعيد بونعيلات حينها مستقرا بالعاصمة الجزائر، ويقوم على الأقل بزيارة واحدة لنا في الشهر بوهران، ليتفقد أحوال اللاجئين، باعتباره أحد قادة التنظيم·
أذكر أنه كان يأتي وحده في سيارته، ويضعها في كراج تابع للمنظمة في سانت أوجين، كما أنه عندما غادر المغرب كلاجئ، كانت له شبكة مهمة من العلاقات مع تنظيمات أخرى بالجزائر كابن حمو المسفيوي قائد جيش التحرير بالجزائر، الذي كانت له مجموعة تابعة له من الضباط، ثم مجموعة شيخ العرب، إضافة إلى علاقاته بالقادة الجزائريين كالهواري بومدين وأحمد مهري، وذلك في إطار عمل المقاومة أولا، ثم بحكم الظروف السياسية لما بعد الاستقلال ثانيا·
وقد عملت المخابرات غير ما مرة على اختطاف بونعيلات من الجزائر، لكن محاولاتها كانت تؤول إلى الفشل نظرا ليقظته والاحتياطات التي يلتزم بها، وذلك بفضل تجربته وخبرته الكبيرة· وعن علاقة الراحل بالمقاومة الجزائرية، تتحدث شهادة من داخل الحوار السيرة».
ومن المعلوم أن الثورة الجزائرية كانت تستعمل شرق وجنوب المغرب، الذي كان قاعدة استراتيجية لجيش التحرير الذي مر أبرز قادته من المنطقة كهواري بومدين وعبان رمضان، حيث كانت المنطقة ممرا للأسلحة نحو الجزائر، وكذلك لدخول المقاومين.
في هذا الاطار، كان بونعيلات يقدم لهم كل المساعدات الممكنة، وكان أحد أبرز حلفاء هذه الثورة·· لكن بعد الانقلاب الذي عرفته الجزائر في 19 يونيو 1965 والأحداث الأخرى التي عرفها المغرب العربي، منها اختطاف المهدي بنبركة، تغيرت الوضعية، وأصبح العديد من المناضلين يتعرضون للاستفزازات من طرف الأمن الجزائري، وأصبحت الوضعية متدهورة، مما دفع سعيد بونعيلات إلى المغادرة نحو اسبانيا، لأن بعض أصدقاء المقاومة من الجزائريين كانوا بالسجن مع بنبلة،أو في المنفى أو ابتعدوا عن السياسة، وهو ما أضعف وضعية المغاربة المقيمين بها·
وعلاقة المغرب مع الجزائر في تلك الفترة، هي التي تحكمت في وضعية المغاربة المقيمين، حيث كانت تتحسن أو تتدهور حسب هذه العلاقات بين النظامين·
عندما تم اختطافه من اسبانيا، رأى سي عبدالرحمان اليوسفي، الذي كان انذاك مقيما بباريس، ضرورة تجنيد عدد من المحامين الدوليين ومن المغرب العربي، وذلك لمساندة الدفاع بالمغرب الذي كان يتكون من المرحوم عبد الرحيم بوعبيد والمرحوم عبد الكريم بن جلون والأستاذ محمد الصديقي في محاكمة مراكش 9 مارس 1970وتم إرسال محاميين محمد بناصر عميد المحامين التونسيين ومبروك بن الحسين من العاصمة الجزائر من أجل الدفاع عن سعيد وباقي المناضلين، لكن السلطات المغربية نفت وجود سعيد بالسجن ورفضت أي تعامل مع هيئة المحامين المغاربيين·
وبعد تطور الوضعية، واعتراف السلطات المغربية باحتجاز سعيد بونعيلات، بعدما كانت تدعي أن لامعرفة لها بمكان وجوده، زار الجزائر وفد من المحامين المغاربة على رأسهم المرحوم عبد الكريم بن جلون، بمبادرة من المرحوم سي عبد الر حيم بوعبيد بزيارة زوجته وابنتيه بالجزائر، لإخبارهم بجميع المعلومات، و للاطلاع على أحوالهم»·
وقدم الراحل شهادة للتاريخ في حق الشهيد محمد الزقطوني، حيث قال فيه» رغم أنه كان في مقتبل العمر، كان رجلا شجاعا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، شجاعته هذه، وأنا كنت شاهدا على ذلك، وضعت على المحك في مناسبات عديدة· وثبتت أنها شجاعة استثنائية· لكن هناك أيضا جانب آخر من شخصية الزرقطوني لم يسلط عليها الضوء· فرغم الدور الهام الذي كان يقوم به، كأحد قادة حركة المقاومة المسلحة، كان شديد التواضع، وقد قال لي غير مامرة، إننا نحن المقاومين لايجب أن نُعرف عندما نحصل على الاستقلال وأن نبتعد عن الأضواء· كان لديه اقتناع بأن مانقوم به، يدخل في نطاق الواجب النضالي الذي لايجب التبجح به·
مازلت أذكر المرات العديدة التي كنت أقله عبر السيارة إلى المدينة القديمة ليزور والده، وكيف كنت أنتظره إلى أن يعود، كان قد أصبح ملاحقا من طرف أجهزة الاستعمار منذ مدة طويلة، لكنه كان يجيد التخفي· وتمكن من تزوير بطاقة هوية، وله عدة أسماء يموه بها رجال البوليس الذين يتعقبوه، أما اسمه الحركي، فكان «علال»، وكنت أنا أناديه «السي محمد»، عندما أصبحت ملاحقا بدوري، كثيرا ما كنت أقضي الليل في منزله، ورغم اشتداد الخناق على المقاومين، كان مرحا ويرفع من معنويات رفاقه· ذات ليلة، استضافني في منزله، وكان أنذاك يقطن في منزل متواضع بحي «اسباتة».
لم يكن المنزل مزودا بالكهرباء، وكان رحمه لله يستعمل الشموع، زوجته الفاضلة أعدت لنا سلطة، ونظرا لصعوبة الرؤية على ضوء شمعة واحدة، لم ننتبه إلا وأحد الصراصير يخرج من وسط الصحن، تركنا الأكل ونحن نضحك· كذلك أذكر أني مرات عديدة كنت أقضي معه الليالي، مختبئين في المناطق الخالية المحاذية لعين الشق، داخل الماسورات الكبيرة، وذلك بعد أن اشتد علينا الخناق، (يواصل بتأثر) لقد كان الشهيد أحد الركائز الأساسية التي يقف عليها تنظيم المقاومة المسلحة، كان بطلا جسورا، مثله مثل محمد منصور، حين يحكي مناضل عن مناضل أو حين نعرف بوضياف الرئيس الجزائر السابق، يقول عنه أفتح قوسا، لأذكر بخصال الراحل محمد بوضياف، الذي قضيت معه وقتا غير قصير· فمن النادر العثور على رجل يضاهيه في سمو الأخلاق ونظافة ذات اليد· كان يعيش على الكفاف، لا يملك إلا الثياب التي على ظهره· وإذا قام بتصبين قميصه، يظل ينتظر حتى يجف ليلبسه، دون أن تمتد يده إلى أموال الثورة، كانت مواقفه متميزة، يرفض المؤامرات والدسائس، ومستعد طوال الوقت لأداء واجبه بتفان وقد ظلت علاقاتنا منذ ذلك الوقت متينة، وكانت الاتصالات بيننا متواصلة منذ أن غادرت السجن، حيث كان يقطن في مدينة القنيطرة قبل أن ينتقل إلى الجزائر لتولي منصب رئاسة الجمهورية، ليلقى حتفه هناك في عملية اغتيال كما هو معروف·
حكايات كثيرة من زمن المقاومة والكفاح الوطني، لكن القامات تظل راسخة في الوعي الشعبي ولدى المغاربة والعالم ،ستظل مسارات الرجل راسخة في الأذهان والعقول، وستظل الأجيال القادمة ،تحكي عنه وتتعلم منه ، وتعلم الآخرين أن هذا الوطن بني بعرق ونضال أبنائه وبناته.
الخميس 5 صفر 1439 هجرية / 26 أكتوبر 2017.