لا شيء خلال تلك الأيام المفصلية التي اعقبت الانتخابات التشريعية لسنة 2002 كان يحمل ما يشير الى ان الاتحاد الاشتراكي سيعرف تدهورا كبيرا و متلاحقا وماساويا في وضعيته، سواء من حيث نفوذه السياسي الجماهيري او جهة وضعه التنظيمي وتماسكه الداخلي او من حيث وزنه الانتخابي وفعاليته الميدانية .
ولسنا هنا بصدد استعراض وقائع على نمط الـ second hand اي وقائع مستخرجة من مراجع او وثائق لمؤرخين او كتاب دوريات ،بل هي وقائع عشناها بفصولها ودقائقها وبالحي المباشرlive وكانت اخر حلقاتها قبل ان يسدل الستار على سنوات المجد، هو ذلك الاجتماع الماراطوني للجنة الادارية للحزب ،الذي احتضنته قاعة الأشغال العمومية بحي الرياض بالرباط ،حيث كان المطروح على جدول الاعمال الحسم ، من طرف اعلى جهاز تقريري للحزب، في مستتبعات الإعلان من طرف قيادة الحزب وقتها عن الموقف الشهير ،موقف ضرورة احترام المنهجية الديمقراطية عند تشكيل الحكومة الجديدة وفقا لنتاءج الاقتراع . وهذه هي المعطيات الاساسية التي كانت حاضرة بقوة في خلفية المناقشة في الجلسة العامة،والتي شاركت فيها الاغلبية المطلقة لاعضاء وعضوات اللجنة المركزية الحاضرين بكثافة خلال ذلك الاجتماع المشهود .
– كان الاتحاد قد حصل على الرتبة الاولى في حساب الأصوات والنتائج في انتخابات 2002رغم البلقنة والتشتيت في الخريطة السياسية ،ررغم المناوشات التي لم تتوقف لحظة واحدة خلال الخمس سنوات من عمر تلك التجربة من طرف من كان عبد الرحمن اليوسفي يدعوهم بجيوب المقاومة ورغم سنتين متلاحقتين من جفاف قاس اثر على معدل النمو ورغم ثقل الحصيلة التي واجهتها الحكومة بعد توليها المسؤولية في كافة القطاعات ،ورغم صعوبة التوفيق بين طرفي المعادلة التي اختارت حكومة التناوب التشبث بها اي المزاوجة بين الإصلاحات الهيكلية والاستجابة للحاجيات الظرفية الضاغطة ،ورغم محدودية الصلاحيات الدستورية للوزير الاول قياسا الى ما جاء من إصلاحات فيما بعد (تذكروا كيف وجد اليوسفي صعوبة حتى في عقد لقاء مع عمال الأقاليم وهو اسميا رئيس الجهاز التنفيذي ) وأخيرا رغم وضعية الفريق الخارج من تجربة حيث يسهل النقد-بل والهدم والردم بالكلام -لمن يرغب في احتلال الصفوف الأولى وإزاحة من كان في المسؤولية .
-رأي عام داعم ومساند كان يريد للتجربة ان تستمر ،رأي عام تفهم الحدود والإكراهات واستوعب صحة الاختيارات والقطيعة الحاسمة التي احدثتها التجربة في النظر مجددا الى السياسة والفعل العمومي ،رأي عام كان ميالا بوضوح الى ان تستمر التجربة وان يتاح للاتحاد وحلفاءه في الصف الحكومي فرصة اخرى -تبررها النتائج على كل حال -لاستكمال مسلسل الإصلاحات خاصة بعد ان تمكن اليوسفي من من إنجاز طفرة مهمة على مستوى اعادة تشكل refonte المشهد السياسي (لنتذكر لقاء المعمورة لمكونات التحالف في منتصف الولاية ) بما يقوي الصف العامل من اجل التطور والإصلاح ويعزل القوى المناهضة للتغيير.
كانت هذه هي المعطيات الموضوعية في خلفية المناقشة التي دارت في قاعة الأشغال العمومية بحي الرياض ذلك اليوم ،معطيات وجهت التحليلات وأملت الحجج والمواقف وهيكلت نظرة الاتحاديين والاتحاديات لما يجب اتخاذه من مواقف انسجاما مع المنهجية الديمقراطية .
اذكر ذلك وكأنه وقائع طرية حصلت بالامس القريب :
خطاب اليوسفي خلال الاجتماع :
خطاب اليوسفي الذي اطر للمناقشة لم يكن بالتصريح الواضح لما يجب اتخاذه من مواقف ،وكان هذا شيءا طبيعيا لان اتخاذ الموقف موكول للجنة المركزية بعد المناقشة ولكن هذا الخطاب -خلافا لبعض التفسيرات المغرضة من طرف بعض قادة الحزب لاحقا -لم يحمل اية تعبيرات او منطوقات تفيد اي تناقض مع موقف المنهجية الديمقراطية الذي أعلن عنه هو نفسه اياما قبل ذلك . .صحيح ان الخطاب لم يكن بالقطعية والوضوح الذي ظهر به الرجل في محاضرة بروكسيل شهورا بعد ذلك ،ولكنه لم يكن في الجملة او في التفاصيل نفيا وتجاوزا لمقولة المنهجية الديمقراطية .
تدخلات أعضاء اللجنة المركزية
من بين ازيد من ستين 60 متدخلا ومتدخلة لم يدافع متدخل او متدخلة واحدة عن موقف يقضي بالتراجع عن موقف المنهجية الديمقراطية .كان موقف الجميع وكانت قناعة الجميع انه اذا ظهرت النية في القفز على المنهجية الديمقراطية فان الموقف السياسي المناسب والمنسجم مع المرجعية الديمقراطية هو ان يعود الحزب الى المعارضة وان يستأنف مساره السياسي والنضالي من هذا الموقع دون لف او دوران .،ولم يخطر في بال احد ان التشبث بهذا الموقف فيه اي خروج عن قواعد اللياقة او الأدب السياسي المفروض التحلي بهما من طرف حزب مسؤول .
كان هذا هو رأي المناضلين والمناضلات ولكن بدا من خلال تطورات الأحداث ان هناك من قيادة الحزب ،وخاصة ممن كانوا في مواقع المسؤولية الحكومية من كان يريد ان يغرق السمكة في الماء (كما يقال ) ، وكانت الاشارة الاولى هي الدعوة الى تخويل المكتب السياسي ادارة المرحلة بتنسيق مع الحلفاء ،
ورغم انه لم يكن في الامر في الحقيقة ما يدعو الى تعليق القرار الى اجل لاحق اعتبارا لان الامرلم يكن يتعلق بخلاف او صراع او تنافس بين موقفين يستوجب مزيدا من التمحيص والتروي فقد خرج أعضاء اللجنة المركزية في ختام جلسة ماراثونية متعبة متيقنين ان اي موقف يتخذه المكتب السياسي لن يخرج عن روح الاجماع الذي الذي تم التعبير عنه بكل مسؤولية .
غادر المناضلون قاعة الاجتماع وعادوا الى مدنهم وقراهم وهم مطمئنون الى سلامة الموقف وحسن الطوية لكن الآلة الأيديولوجية الصغيرة لبعض القادة تحركت بسرعة لنسف الموقف المتخذ وبدات ،ومداد حروف مقالات تغطية حدث اللجنة المركزية في صحافة الحزب لم يجف بعد ،تؤسس وتروج لموقف بديل يقول بانه علينا ان نستمر لمواصلة الأوراش التي بدأناها وانه لا باس من المشاركة ولو بدون إسناد مسؤولية الوزير الاول لليوسفي مجددا مادام الوزير الاول أيا كان سيستمر في نفس الأوراش التي بدأناها. وتضخم منسوب الكلام حول هذا الموقف المهزوز لدرجة الرغبة في إيهام الناس بان لا فرق بين ان تشارك من موقعك او ان تشارك من موقع يكون فيه للآخرين الريادة والرئاسة .المهم ان تشارك وتحرص على استمرار الأوراش .
فريق اخر من الناسفين لموقف المنهجية الديمقراطية استجلب الى ساحة النقاش المغشوش فكرة ان الدستور -وقتها -لا ينص بالضرورة على تعيين الوزير الاول الاول من الحزب الذي احتل الرتبة الاولى متناسيا -هذا الفريق- بالقصد او اللهفة على المشاركة او بخداع العقول والأبصار ،ان المنهجية الديمقراطية هي ثقافة ومتن فكري قبل ان تكون نصوصا او فقرات في كراس او كتاب .
فريق اخر استبد به هلع السلطة وإغراءات المفازة فراح ينظر لأطروحة اخرى مفادها ان الخروج من الحكومة في تلك الفترة والعهد الجديد في بدايته قد يقرا على انه نوع من شد الحبل يعيد عقارب الساعة الى الوراء ويذكر بازمة الانسحاب من البرلمان سنة 1981 على اثر الاستفتاء .!!
وكان ذلك تجنيا مفضوحًا على الحقيقة او على الحقائق وكان تعويمها ا وتعتيما اريد بهما خلق حالة من الشرود السياسي تسهيلا لنسف الموقف المتخذ بكامل المسؤولية في اجتماع اللجنة المركزية ،ذلك ان العهد الجديد كان في حاجة الى احزاب قوية سواء في المعارضة او في الحكومة ،ترافق التحول وتضمن الانتقال وتعطي للعمل السياسي معنى وقيمة ومعقولية في نظر الراي العام .وليس الى احزاب تقبل بأية تسويات لقاء المحافظة على المواقع .
والحاصل ان اي قراءة في التدهور المريع في وضعية الحزب تباعا منذ تلك الفترة لا يمكنه الا ان يرى بوضوح العلاقة السببية (بلغة رجال القانون )او رابطة التعالق (بلغة السياسيين ) بين التراجع عن موقف المنهجية الديمقراطية ومسلسل التراجعات التي عرفها بصفة متلاحقة والذي اوصلته الى ما وصل اليه اليوم من وضع مأساوي فقد فيه كل شيء تقريبا .
نعم من قبول التراجع عن المنهجية الديمقراطية والعمل تحت مظلة وزير اول تكنوقراطي باسم استمرارية الأوراش جرى القبول بمشاركة هامشية في الحكومات اللاحقة ثم انتهى الامر الى قبول المشاركة المهينة بانصاف وزارات في حكومة العثماني .
وكان المناضلون ينظرون مشدوهين وكان الراي العام يتابع ما يجري متسائلا أين غاب الاتحاد الذي عرفوه .
والغريب ان جزءا من عناصر القيادة التي كانت ضالعة في موقف التراجع عن المنهجية الديمقراطية ومضغت مطولا كلام الأوراش لهفة على مواقع الاستوزار سنة 2002 وجدناها تتباكى على سوء حال الاتحاد سنوات بعد ذلك وكأنها كانت تنتظر نتاءج صحيحة من مقدمات كان واضحا لكل من له عيون يرى بها انها كانت خاطئة .
الاتحاد الاشتراكي في انتخابات 2002لم ينهزم ولكن قيادة الحزب التي تراجعت عن موقف المنهجية جعلته يقبل وضعية المهزوم ويتصرف كالمهزوم .
والآن نجد أنفسنا في هذه الوضعية :
لا احد تمكن حقا من أخذ المكان الذي كان يشغله الاتحاد الاشتراكي في الحقل السياسي طيلة عقود.
والاتحاد يوجد اليوم في وضعية الضعف والغياب والتيه والعطالة .
والاغلبية الساحقة من الاتحاديين والاتحاديات انسحبوا الى الوراء يتابعون ما يجري بالم وحسرة .
والذين جربوا -حتى صاقين -استمرار الاتحاد في بيوت تنظيمية اخرى وصلوا الى الباب المسدود .
والحقيقة الوحيدة الواضحة ان الاتحاد الاشتراكي اليوم يؤدي باهظا ثمن التراجع عن موقف المنهجية الديمقراطية .