حسب تقرير صادر مؤخراً عن المنظمة العالمية للشغل لا يزال أربعون مليون شخص في العالم يعيشون في ذُل العبودية ، بل إن 89 مليون فرد يعانون جزئياً من أحد أشكال الرّق بمعانيه المعاصرة التي تختلف عن الشكل التقليدي الذي مرت به مختلف المجتمعات البشرية.
لن نتحدث هنا عن بعض المظاهر الجديدة من العبودية المعروفة مثل تشغيل الأطفال والدعارة القسرية والعمالة السرية غير المعوضة، وإنما عن خطر إشكالية العبودية الجديدة لأنه مرتبط بطبيعة الثورة التقنية الجديدة.
قبل سنتين أصدر ألف عالم من كبار علماء الطبيعة في العالم يتقدمهم العالم الفيزيائي الأشهر «ستيفان هوكينغ» رسالة مفتوحة حذروا فيها من إنتاج «الإنسان الآلي المقاتل» الذي أصبح حقيقة فعلية، معتبرين أنه قد يعرض مستقبل البشرية بكامله للخطر، ويلغي كل الأبعاد الإنسانية في الحرب. الاكتشاف التقني المذكور ليس سوى امتداد للتوسع في الاتجاه إلى تعويض الوظائف البشرية التقليدية بالآلة، وهو اتجاه انطلق في بدايته من هدف تحرير الإنسان من التبعية للطبيعة وفق المبدأ الذي صاغه الفيلسوف «ديكارت» في تصوره للعلم التجريبي الحديث الذي من شأنه أن بجعل الإنسان «سيداً ومالكاً للطبيعة».
بيد أن الثورة التقنية الثانية القائمة على الذكاء الصناعي والتصرف الجيني والاتصال السريع غيرت جوهرياً طبيعة علاقة الإنسان بالآلة إلى حد أن البعض بدأ يطرح احتمال عبودية الإنسان لمنتجه التقني الذي بدأ يخرج عن سيطرته الفعلية.
والحديث الذي بدأ في روايات وأفلام الخيال العلمي منذ عقود أصبح اليوم شغل الفلاسفة والعلماء منذ اتساع الحديث عن «النزعة ما بعد الإنسانية» التي لها دعاتها الكثر وشبكاتها الدعائية وقنواتها التمويلية الهائلة. والفكرة العامة التي تقوم عليها هذه النزعة هي أن من شأن العلوم والتقنيات أن تحقق الطموحات القصوى للنوع البشري بما فيها القضاء الكلي على المرض والموت من خلال التدخل في أنسجته الحية وخلاياه الوراثية واختراع ماكينة فعالة قادرة على تعويض الوظائف الجسمية المعطلة وتحسينها.
في كتابه «الثورة ما بعد الإنسانية»، يجمل الفيلسوف الفرنسي «لوك فيري» الخصائص المميزة لهذه الثورة في ثلاث سمات هي:
– الانتقال من نمط الطب العلاجي الذي كان سائداً إلى نمط آخر من الطب يسعى إلى تقوية الإمكانات والوظائف الجسمية وليس مجرد إصلاح اختلالاتها.
– الانتقال إلى نمط جديد من «تحسين النوع» بالتدخل في الرصيد الجيني بحيث يتم التحكم فيه من خلال الهندسة الجينية الدقيقة.
– زيادة سنوات العيش بالقضاء على الشيخوخة.
والمدافعون عن هذه الثورة ما بعد الإنسانية ينطلقون من الفكرة الفلسفية الأساسية التي انطلقت منها الحداثة العلمية والتقنية بخلفياتها الفكرية والأيديولوجية، وهي أن الإنسان ليس تابعاً للطبيعة، وإنما هو كائن حر ومبدع قادر على التحسن والتطور وليس أفُقه محصوراً في تحقيق أحسن إمكاناته الطبيعية الذاتية كما كان مفكرو اليونان يرون. ومن هنا، فإن الثورات التقنية التي عرفها العالم في العصور الحديثة هي التي حررت الإنسان من الحاجة والفقر والمرض ومشاق العمل اليدوي، وليست الثورة الراهنة سوى طور جديد من هذا التطور التقني.
ومن المدافعين عن هذه الرؤية الفيلسوف «ميشل سير» الذي لا يرى في الثورة ما بعد الإنسانية في ربطها بين التقنيات الجديدة والطفرة المعلوماتية سوى استمرار للتقنيات الثقافية الأساسية التي مكنت الإنسان من اختصار أفقه الزمني وترشيد قدراته الذاتية، فهي مثل الكتابة التي كانت أول تقنية رمزية جوهرية في تاريخ البشرية. وبالنسية لـ«سير»، من الأصح أن نقول إن الثورة التقنية الراهنة أعادتنا إلى التعريف اليوناني القديم للعبودية، أي اعتبار أن العبد ليس إنساناً بل هو آلة لا إحساس لها ولا روح، بما يعني أن الإنسانية المعاصرة التي ألغت العبودية من خلال فكرة المساواة بين البشر حصرت العبودية الشرعية في الآلة التي ينتجها الإنسان ويسخّرها لمصلحته.
بيد أن الإشكال الكبير يطرحه تحدي التدخل الجيني الذي يلغي معاني السيولة والاحتمال والعشوائية في الوجود الإنساني التي هي دلالة حريته الفعلية، فماذا يبقى للإنسان من إرادة حرة حقيقية إذا كان كائناً منتَجاً وفق معايير وأهداف مسبقة تسخر لها التقنيات الجينية ولو من أجل تحسين قدراته الطبيعية والذهنية؟
إن هذا الإشكال الأخلاقي الجوهري يتجاوز السياق القيمي الضيق، ويطرح أسئلة وجودية عميقة حول تعريف الإنسان وعلاقته بالطبيعة والمجتمع، وهي أسئلة لها أبعادها الدينية والمعرفية التي يتعين الاستعداد لها.