حين نتحدث عن الدين، نتحدث عن منظومة تعاليم عقائدية أو تشريعية (أو هما معاً)، كتابية أو غير كتابية، موجَّهة إلى الناس؛ لغرض بيان الحقائق التي لا سبيل لديهم إلى إدراكها إلّا بالدين ؛ ولغرض بيان أقوم المسالك إلى الخلاص، مع ما يقترن به سلوكُها من التزامِ المؤمنين بمنظومة التشريعات، التي تفرضها تعاليم الدين عليهم، التي يهتدون بها في سلوكِ ما تشدِّد الأديانُ على أنه الطريق القويم. في الأديان التوحيدية اللهُ هو مصدرُ التعاليم تلك، بينما هذه تعود إلى أنبياء مصلحين، ليسوا من ذوي رسالة ولا هي (تعاليم) ناجمة من وحي، كما في أديان آسيوية كبرى، مثل: البوذية، والهندوسية، والكونفوشيوسية.. إلخ. وبما أن الله، في الأديان الكتابية التوحيدية، متعالٍ ولا مماسَّة مباشرة له مع العالم الماديّ، فلا يظهر ولا يُرَى للعيان ولا يخاطِب مخلوقات خطاباً مباشراً؛ بل إنّ تجريدَه وتنزيهَه عن مشابهة أشياء العالم الماديّ بلغت ذروتَها في القرآن مثلما بلغت ذروتها، في الفكر، في مدرسة الاعتزال الكلامية، فإنّ التعالي والتجريد الإلهيَّين اقتضى أمرُهُما أن تكون الرسالةُ الإلهية إلى الناس عبر وسطاء، يبدأون برسول الوحي (جبريل، جبرائيل)، ويُخْتَتَمون بالأنبياء والرُّسل، الذين يُصْطَفون من بني قومهم؛ لتبليغ الرسالة إلى الناس.
لذلك يحتل الرسول، في المقام الأول، والنبيّ، في المقام التالي، مركزاً محوريّاً في نظام الرسالة: ليس فقط لأنه يبلّغها للناس، وحيث لا سبيل لهم إلى تبلُّغِها إلاّ عبره؛ ولكن لأنه أيضًا الضامن الوحيد لصدق الرسالة ولمصدريتها المتعالية؛ إذ لا أحد غيره تَلَقّى الوحي. ولذلك فإن الرسالة الدينية، بما هي خطابٌ متعالٍ موجَّهٌ إلى الناس، ليلتزموا أحكام الوحي للظفر بالنجاة، هي دعوة، وهذه لا ينهض بأمرها أحدٌ إلاّ من اصْطُفي لأداء التكليف، وهو الرسول أو النبيّ وليس ثمة، بالتالي، من وجه مشروعيةٍ لأيّ دعوةٍ يدّعيها أحدٌ لنفسه، باسم الدين، غير دعوة الرُّسل والأنبياء.
علينا أن نعترف أنّ هذا المعنى للرسالة والدعوة والنبوّة إنما هو مستقى من الكتب المقدَّسة، لا من التقليد الدينيّ أو من التاريخ الدينيّ؛ حيث وُجِد مِن المسلمين- وقبلهم من المسيحيين واليهود- من حَمَلوا المسألةَ على مَحْمَلٍ آخر، فافترضوا أن أنبياءَهم ورسلَهم أوكلوا إليهم مهمةَ استئناف تبليغ الرسالة ونشْر الدعوة. هكذا ظلّ الحاخامات يكِلون إلى أنفسهم الأدوار التي نهض بها موسى والأنبياء، وظلّ قسمٌ عَظيم من المسيحيين يُبجِّلون الأدوار «الرسولية» لبولس وبطرس، ويَصِفون صرح «نواب» «الرُّسل» (البابوات) ب «الكرسي الرسولي»، ثم هكذا جنح قسمٌ من المسلمين لتحميل الإمامة (من المذهب الإمامي والإسماعيلي الشيعي) وظائف النبوّة، منظوراً إليها بوصفها مستأنَفَة؛ بل هكذا انْجرَّت قطاعاتٌ عريضة من «أهل السنّة والجماعة» إلى الاعتقاد أنّ الدعوةَ لم تنقطع بانقطاع النبوّة، وأنها تستمر من خلال عمل الجماعة والأمّة وفقهائها! والأدهى أنّ مثل ذلك يُقالُ، ويُعْمَل به، في عقيدةٍ تصرِّح نصوصُها، بأشدّ العبارات وضوحاً، بختْم النبوّة واختتام الرسالات برسالة الإسلام! لا تعني هذه الأُزعومة – باستمرار الدعوة والرسالة في حقبة ما بعد النبوّة- سوى إرادة السطو على وظائف دينية لا تعود إلى أحدٍ من الناس غير الأنبياء والرسل، واستثماره (السطو) لأغراضٍ محض دنيوية ليس الدين فيها غير تعلَّةٍ ومبدأ تسويغ! وإذا كان ذلك يعني شيئاً، من وجهة نظر المعرفة، فهو الخلط الفادح-وأحياناً المقصود – بين الإلهيّ والنبويّ والبشري، الخلط الذي تكمن فيه جراثيمُ كلِّ أشكال التلاعبات الاجتماعية والسياسية بالدين!
وهكذا، فكما أنّ الدين ما أتى إلاّ لمصلحة الناس، كما تقرِّرُ ذلك الأديانُ جميعُها، ومن أجْل هدْيهم إلى الطريق القويم المفضي إلى الخلاص، من تبعات الخطيئة الأصل التي أخرجتْ آدم وذرّيته من النعيم (كما تنصّ التوراة والأناجيل والقرآن)، فإنّ أوّلَ الهدْي يبدأ من تمكين الناس من معرفة حقائق الدين الكبرى العَقَدية: أنّ وراء وجود العالم إلهاً خالقاً واحداً، وأن الملائكة رُسُلُه إلى الأنبياء، وأن مصيرَ الخَلْق إلى يوم الحساب في الدار الآخرة؛ حيث يُبْعثون من جديد، ويُسْألون عمّا أتوا من أعمال. والحقائق الثلاث هذه (وجود الله، والملائكة، واليوم الآخر) – وهي أمّ الحقائق في الدين- ممّا لا سبيل إلى معرفته إلاّ من طريق الوحي، فهي ليست في جملة ما يمكن إدراكُهُ بالعقل و، بالتالي، لا تنتمي إلى المعرفة الإنسانية – أو إلى الإمكان المعرفي الإنسانيّ – وإنما إلى الحقائق المتعالية.
على أنّ سلطة الدين المعرفية، المتجلّية في تبليغ الناس حقائِق لا قِبَل لهم بمعرفتها بإمكاناتهم الذاتية، لا تُعَطِّل إمكاناتٍ للمعرفةِ أخرى يقْوى الناسُ عليها بعقولهم، وإنما تسلم لهم بها؛ بل إن الأديان التوحيدية-والإسلام بخاصة-كرّسوا العقل سلطاناً معرفياً، وحثَّوا على إعماله في ما يجوز له النظرُ فيه وعلمه. حتى النصّ الدينيّ نفسه، الذي يُفْتَرض أنه يقرِّر حكم الدين في هذه أو تلك من المسائل، حضَّتِ الأديان على تبيُّنِهِ بوساطة العقل والتدبُّر العقليّ؛ ذلك أنّ النصّ الديني يعْتاص على الإدراك دون بيانٍ من العقل، أي دون اجتهادٍ في فهم مقاصِدِهِ كما يقول علماء الإسلام الأوائل؛ ولذلك، ما كان غريباً أن تُرْفَع سلطةُ العقل في الفكر الديني-والفكر الإسلامي خاصةً-إلى مرتبةٍ ثانيةٍ بعد سلطة النصّ (القرآن والحديث)، وأن يتنزّل من التشريع منزلةَ مصدرٍ أساسي من مصادره، بقطع النظر عمّا إذا كان الفعل العقلي مشدوداً -من الناحية الإيبيستيمية- إلى النصّ، أو أنّ حريته محدودة بحدود المعطى النصّي ومسلّماته المعلنَة والمضمَرة. والأهمّ في الموضوع كلِّه أنّ الحاجة إلى تدخُّل سلطة العقل تزيد كلما اتّسع نطاق الفراغ النصّي التشريعي؛ إذ يصبح على العقل، في مثل هذه الحال، أن يملأ الفراغ ذاك بالركون إلى قواعده، إنْ كانتِ المسألة نظرية، أو إلى المصالح العامة، إن كانت المسائل عملية. وكم من مسألةٍ سكت عنها الشرع فلم يضع لها تشريعاً، وتُرِكت للعقل والاجتهاد ومراعاة المصالح، ومسائل السياسة والسلطة وإدارة الحكم من هاتيك المسائل التي تُرِكت للعقل والاجتهاد يلتمسان لها إجابات تُناسِب مصالح الجماعة والأمّة.