غدير أبو سنينة
ماناغوا/ نيكاراغوا- في الحادي والعشرين من سبتمبر-أيلول عام 1956، تمكّن الشاعر والموسيقي النيكاراغوي ريغوبيرتو لوبيس بيريس من التسلّل إلى حفل انتخابي مفبرك رشح خلاله الديكتاتور سوموسا لولايةٍ ثانية في كاسا دل أوبريرو بمدينة ليون التّاريخيّة، وبينما كانت الأروكسترا تعزف الجاز، كان الشّاعر الّذي ارتدى قميصاً أبيضَ وسروالاً أزرق هما لونا العلم النيكاراغوي، يطلق نحوه خمس طلقات أردته صريعا. واليوم يعتبر بيريس أيقونة شعبية لاتينية، وينهض في وسط ساحة عامة بماناغوا نصب تذكاري عملاق للشاعر.
يعتبر بيريس واحدا من أشهر شعراء أميركا اللاتينية، في أشعاره نتعرف على شخصية رقيقة، وخيال خصب وروح ثائرة، وتكشف قصائده عن نزعة قوية للبحث عن الذات في عالم هدد سلامها الداخلي، الذي ضاع بِضياع الحريّة الّتي أنشدتها قصائده وأشعاره، مُبدياً حبّا متفانياً للوطن وكرهاً لمن ظلم أبناءه. لم يكن الشّاعر يعلم أنّ أشعاره سيقرؤها من بعده محبو الحريّة في بلده عندما تساءل عام 1946، أي قبل عشر سنواتٍ من قيامه باغتيال الديكتاتور أناستاسيو سوموسا غارسيّا، “من سيقرأ قصائدي، عندما أرحل في القارب الجنائزي؟”.
فما الذي حمل هذا الشاعر على التفكير في وضع حد لحياة طاغية نيكاراغوا؟ لم يكن ريغوبيرتو شخصا مختلفا عن غيره، فقد نشأ، ككثير من أقرانه، في بيئة متواضعة في أحد أحياء مدينة ليون في يوم ماطر من مايو عام 1929. درس صغيراً في مؤسسة سان خوان الدّينيَّة وهناك تعرّف على عرّابه الكاهن أغوستين إرناندس. في تلك المؤسسة درس الخياطة ثم درس التِّجارة في معهد سيلفيانو ماتاموروس.
وكحال أي شاب يتمتّع بإحساس مرهف، فقد وقع في الحب سريعا عندما تعرف إلى صديقته أمبرو سيلايا كاسترو، التي كان يزورها باستمرار في العاصمة مناغوا. لقد كانت مناغوا في ذلك الوقت تشهد حراكاً سياسيّاً ضد الديكتاتور سوموسا ممثلا بالحزب الليبرالي المستقل الذي أسسه أعضاء منشقون عن الحزب الليبرالي الحاكم بزعامة عائلة سوموسا. ولم يجد الشاعر المرهف الحس مفرّاً من الانخراط في ذلك الحراك، بل وأصبح فيما بعد واحداً من أبطال الثورة الذين سيغيرون تاريخ نيكاراغوا الحديث.
ونتيجة لنشاطه فقد كان عليه أن يغادر نيكارغوا لأسباب أمنيّة ما بين الأعوام 1951 و1956، إلا أنه كان يزورها ما بين الحين والآخر لأسباب عائليّة وعاطفيّة، في الوقت نفسه، كان يمارس نشاطاته السياسية الدَّاخليَّة دون الابتعاد عن الشعر والموسيقى، وقد عرف عنه علاقاته الطيبة مع باقي شعراء بلاده وموسيقييها كصداقته مع الشاعرالنيكاراغوي السلفادوري خوان فيليب تورونيو.
على إيقاع الجاز
بيت ريغوبيرتو لوبيس بيريس
كانت أفعال الطاغية سوموسا من قتل وتعذيب ووضع بلد بأكمله في القيود كفيلة بأن تثير غضبا شعبيا عارما وتجعل الشاعر ريغوبيرتو رودريغس لوبيس يفكر جديا في وضع حدّ لكل هذا الطغيان. ففي الرابع من أبريل 1954، اغتال الحرس القومي إثنين من أصدقائه مع غيرهما من العسكريين والمدنيين المتمردين الذين كانوا يعدّون كميناً للديكتاتور، كما أن قرار سوموسا بتمديد ولاية ثانية للحكم رغم أنف الشعب الذي بدأ يضيق ذرعا بحكمه الاستبدادي، شكّل دافعا مباشرا للشاعر كي يتحرّك، من منظوره الشخصي، لتخليص بلاده من ذلك البلاء.
في الحادي والعشرين من سبتمبر -أيلول عام 1956، تمكّن الشاعر من التسلّل إلى الحفل الّذي كان مُقرّراً أن يجري فيه إعلان ترشيح الديكتاتور لولايةٍ جديدة في كاسا دل أوبريرو في مدينة ليون التّاريخيّة، وبينما كانت الأروكسترا تعزف الجاز، أطلق بيريس خمس طلقات من مسدس، كانت كفيلة بأن تضع حدا لطغيان الديكتاتور الذي تُوُفِّيَ بعد عدّة أيّام متأثراً بجراحه في أحد مستشفيات بنما، حيث أرسل له الرّئيس الأميركي آيزنهاور طائرةً خاصّة كي تؤمّن نقله. أمّا بيريس الّذي وصفه آيزنهاور بـ” قاتل صديقِ الولايات المتحدة”، فقد أصبح رمزًا قوميًّا للشّعب النّيكاراغوي الّذي حكمه سوموسا بالدّم والنّار.
الشعر المسلح
لم تُمثّل نهاية الشّاعر الّذي أطلق عليه الحرس القومي النّار مباشرةً سوى فصل آخر من فصول الحكم التّعسُّفي، فكانت الأوامر أن يمُثَّل بجثّته وأن تُقَطَّع أعضاؤه التّناسليّة. كانت القصيدة عنده بندقية والكلمات رصاص، وهو، على الأرجح، كان قد أطلق النّار على الدّيكتاتور في أشعاره قبل أن يُنفّذ ذلك فعليّا:
“ستذوي زهور حديقتي
حينما تتدفق الدماء من عروق الطّاغية البائس″.
ونراه يرثي نفسه في أشعاره متنبِّئاً بموته، كما في قصيدة “اعتراف جندي” التي كتبها عام 1947 عن سبعة عشر عاماً”: “رصاصةٌ تخترقني
فأسقطُ وسط الصلوات على البلاط وأعترف
نيكاراغوا وطني الحبيب وأمتي العظيمة
من أجلها ستنزف جراحي ويهلك قلبي
قواي تخذلني
وداعاً أيّها الوطن
ضُمَّني إلى صدرك
ولتدفّئ شمسك قبري البارد”.
يرى كثيرٌ من النّقّاد أنَّ أهمّيّةَ شعره لا تنبع من قيمته الفنّيّة فحسب، بل من انسجامه مع أفعاله ما يُضفي عليه صفة الصّدق. ويؤكّدون أنّ أجمل قصائده على الإطلاق كانت تلك الّتي خطّها بدمه يوم مصرع الديكتاتور.
ويعرف كثير من النيكاراغويين الشّاعر بوصفه بطلاً استثنائيّا. فالشّاب الذي لم يكن استثنائيّاً في حياته كان كذلك في موته، إذ لم يُعرف عنه انتماؤه إلى أي حزب سياسي بل وصفه كثير من المقرّبين بأنه “شخصٌ رومانسي لطيف ومثقّف، يلعب كرة القدم في الإجازات ثم يعتزل في غرفته كي ينكبّ على قراءة الكتب والشعر وخصوصاً أشعار داريّو أو سماع موسيقى بيتهوفن”، وإضافةٍ إلى كونه شاعراً فقد كان موسيقيّا وصحفيّاً وعازف كمانٍ ومُلحناً.
رسالته إلى أمه
ملصق للشاعر في مسقط رأسه
“إذا زال هذا الطاغية فتلك هي الوسيلة، هكذا رأى بيريس، في اغتيال سوموسا أفضل الطرق لتخليص بلاده نيكاراغوا. في رسالته التي كتبها لأمه قبل تنفيذه حكم الإعدام في سوموسا يتجلّى ذلك الحب والتقديس للوطن الذي نذر حياته دفاعا عنه.
وهنا نص رسالته:
“أمي الحبيبة، بالرغم من أنك لم تعلمي بذلك أبدا، إلا أنني لطالما شاركت في كل ما له علاقة بمعارضتي لنظام بلادنا السيء. وبما أن كل الجهود التي وجبت أن تبذل لأجل نهضة نيكاراغوا (أي أن تكون حرة للمرة الأولى دون ذلّ أو دنس) باءت بالفشل، فقد أردت أن أكون أنا بدايةً النهاية لهذا الطاغية، مع أن رفقائي لم يكونوا ليقبلوا بهذا. أماه، آمل أن تتقبّلي الأمر بصدر رحب، عليك أن تؤمني أنني لم أفعل سوى واجبي، بل ما كان يترتّب على كلّ نيكاراغويّ فعله منذ زمن. بالنسبة إلي فإنني لا أعتبر ما فعلته تضحية وإنما هو واجب آمل أنني أتممته. فإن أخذت الأمر بهدوء كما أرغب، فإنني سأكون غاية في السعادة، ليس هناك من داعٍ للحزن، فالواجب الذي نقدمه للوطن هو ما يرضي رجلا مثلي لطالما حاول فعله.
وإن أخذت الأمور بجدية وباعتقاد مطلق بأنني قمت بواجبي على أكمل وجه، فسأكون ممتنا لكرمك.
ابنك الذي أحبك دائما
ريغوبيرتو”.
في عيني سيرهيو راميرس:
في رائعته “مارجريتا، كم هو جميل البحر”، يُركِّز الروائي النيكاراغوي سيرهيو راميرس على أحداث تتعلق بشاعرين أشعارهما علقت بأذهان النيكاراغويين هما روبن داريو وريغوبيرتو لوبيس بيريس وهو يقارن بينهما، فكلاهما كان شاعراً زاول مهنة الصّحافة ليتمكن من العيش حياة متواضعة. وفي حين كان داريو يبحث عن مساعدة ليجد له عملاً في أسبانيا، يساعده في تحقيق آماله. كان ريغوبيرتو يقدم خدماته لأحد مساعدي الديكتاتور بهدف الحصول على عمل يستطيع من خلاله دخول القاعة التي سيتم بها إعلان تمديد ولاية سوموسا.
لا أحد يعرف، إلى اليوم، أين دفن دماغ روبن داريو، إذ سُرعان ما انتزعه أحد الأطباء بعد موته، ظنّاً منه أنه سيكون مختلفاً عن البشر، لما عُرف عنه من تميّز وإبداع، أما ريغوبيرتو فقد تم اقتطاع خصيتيه ودفنهما في مكان مجهول، لأنَّهما ـ وحسب العقلية الديكتاتوريةـ ترمزان إلى الشجاعة والرّجولة. ويمكن لنا القول إن راميرس اختصر في روايته لتاريخ نيكاراغوا بين عقل شاعرٍ وخصيتي آخر
عن موقع صحيفة العرب