تكتسي الدراسات الجامعية المنجزة من طرف أكاديميين جزائريين، حول ظاهرة الكفاح التحريري المشترك، بين أقطار المغرب الكبير )المغرب/الجزائر/ تونس(، خلال الحقبة التحريرية الحرجة، الممتدة بين سنتي 1954 و1962، أهمية معرفية لا يستهان بها في مجال توثيق وترصيد المعطيات التاريخية الضرورية ، لكتابة تاريخ هذه الحقبة المفصلية في التاريخ المعاصر لمنطقة المغرب العربي1 .
ولعل أهم ما يميز المقاربة المعتمدة في صياغة هذه الدراسات، أنها مقاربات جادة لا تخضع بالمطلق لمنطق التناقضات الظرفية، والصراعات السياسية التي نشبت بين أنظمة الحكم الوطنية التي قامت على أنقاض الأنظمة الاستعمارية البائدة. ونعني بها الصراعات التي فرضت، منذ عام 1963، سلطانها على الرؤية التاريخية، والمقاربة الموضوعية لوقائع وأحداث هذه الحقبة التاريخية من تاريخ المنطقة المغاربية.
ويحمل هذا المنظور الفكري الحميد الذي يروم تخليص المنظور التاريخي في مجال كتابة التاريخ المغاربي المعاصر، من براثين المنطق السياسوي تباشير مزدوجة الدلالة: تباشير الحضور الوازن للمقاربة الأكاديمية في التعاطي مع ماضي المغرب العربي القريب من جانب، و تباشير تحرر العقل التاريخي، لدى كتابة تاريخ المنطقة المغاربية ، من هيمنة الهاجس السياسوي من جانب آخر .
وفي سياق هذا الوعي المتنامي بضرورة و أهمية الأخذ بالية وقواعد المقاربة الموضوعية في قراءة الماضي التحرري للمغرب الكبير ، يتعين الاستناد إلى الإشكالية المحورية، الجديرة بتاطير هذه القراءة، بل بإرسائها على أسس موضوعية سليمة .
1- في الإشكالية المحورية المؤطرة لحركات التحرير المغاربية :
وتستند هذه الإشكالية المحورية، المؤطرة لأحداث ووقائع الحقبة التحريرية المغاربية، إلى محددات أساسية ومعطيات حاكمة :
أولها، واقع التباين الهيكلي الذي كان متحكماً في السياسات الاستعمارية إزاء أقطار المغرب العربي بصفة عامة، و في استراتيجيات قمع و محاربة حركات التحرر المغاربية بصفة خاصة .
وغني عن البيان أن النظام الاستعماري الذي خضعت له الجزائر الشقيقة منذ عام 1830، كان نظاماً استعمارياً إلحاقياً، استيعابياً إلى /في كيان الدولة المستعمرة. ولذلك أطلق على الجزائر المسلمة المحتلة اسم “الجزائر الفرنسية”، كناية عن الإلحاق “القانوني” ، المؤسساتي للأمة الجزائرية بكيان الدولة الفرنسية”.
في حين، فان الوجود الاستعماري الفرنسي بكل من المغرب وتونس، كان محكوماً بنظام ” الحماية”1 وهو نظام تعاقدي تحكمه اتفاقية “الحماية”، وهي الاتفاقية التي تعترف بـ “سيادة الدولة المحتلة”، وإن كانت “سيادة صورية”، لم تحل دون بسط سلطات “الحماية” لاخطبوط استعمارها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي .
ثانيها، اختلاف الشروط الموضوعية، التاريخية والسياسية، التي تحكمت في مسارات الحركة الوطنية التحريرية في كل من المغرب والجزائر .
ذلك أن الحركة الوطنية المغربية التي قادت معركة التحرير والاستقلال، منذ أربعينيات القرن الماضي بصفة خاصة، كانت بقيادة جلالة السلطان محمد بن يوسف الذي ظل رمزاً للسيادة المغربية، بالرغم من هيمنة سلطات “الحماية” على مقدرات البلاد المادية والمعنوية .
كما أن مقاومة جلالة الملك محمد الخامس للسياسة الاستعمارية الرامية إلى تكريس مبدأ “السيادة المشتركة”(co-souveraineté) ، ضداً على مقتضيات عقد “الحماية”، وكذا تصدره للمطالبة بالاستقلال والسيادة، في تناغم وتفاعل تامين مع الشعب وقواه الوطنية المقاومة – قد عززا المشروعية التاريخية للمؤسسة الملكية بالمشروعية الوطنية، وبالمشروعية الكفاحية، فأصبح مطلب: “عودة الملك من منفاه إلى عرشه”، مرادفاً لمطلب الاستقلال .
وهكذا فان الحركة الوطنية المغربية نمت وترعرعت في شروط تاريخية وسياسية، جعلت منها حركة شعبية واسعة القاعدة ، متعددة المكونات المجتمعية، متنوعة الفعاليات الحزبية و النخبوية .
في حين فإن مسار الحركة الوطنية الجزائرية، انطلاقاً من تجربة “حزب الشعب” إلى ميلاد “جبهة التحرير الوطني”، مروراً بكفاح “حركة انتصار الحريات الديمقراطية”، و”المنظمة السرية”، اتسم بغلبة الطابع النخبوي في بنيته المجتمعية، وبخياره العسكري في كفاحه التحريري، فكانت ثورة الفاتح من نونبر 1954 محصلة منطقية، طبيعية لمسلسل النضال الوطني، التحرري بهذا البلد الشقيق .
ثالثها، أن قيــادة الحركــة الوطنيــة المغربيــة بمختلف مكونــاتها: المقاومــة الشعبيــة، الحــزبية والسلطانيـــة )1930-1952)، والمقاومة الفدائية المسلحة )1953-1956) ومقاومة جيش التحرير (1955-1958(، ظلت قيادة سياسية، مدنية موحدة، بالرغم مما واجهته من تباينات في الرؤية و المقاربة في بعض محطات مسار الكفاح. لقد ظلت هذه القيادة ممسكة بزمام المبادرة السياسية و الميدانية، ساهرة على تماسك التعبئة الوطنية، في اتجاه تحقيق الهدف الاستراتيجي لمعركة التحرير .
وبالمقابل، فإن الشروط التاريخية لمسار الحركة الوطنية الجزائرية من جهة، والظروف الموضوعية لتجربة “جبهة التحرير الوطني”، وهي الجبهة التي قادت الكفاح المسلح بالجزائر، على مدى تسع سنوات (1954-1962) من جهة أخرى، قد أفضت إلى بروز قيادة وطنية ثنائية التشكل، عسكرية – سياسية، يحتل فيها الشق العسكري موقعاً محورياً حاسماً على مستوى المبادرة والقرار.
ولسوف يتحكم هذا التباين الموصوف في بنية وذهنية ورؤية كل من قيادتي معركة التحرير، المغربية والجزائرية، في طبيعة ومسار العلاقة بين القيادتين الوطنيتين، سواء في مرحلة التحرير أو في مرحلة ما بعد التحرير.
2- في مونوغرافية العلاقات المغربية-الجزائرية :
واستناداً إلى هذه المعطيات الموضوعية للعلاقات المغاربية عموما، وللعلاقات الجزائرية –المغربية خصوصاً ، يتعين النظر في عدد من الأطروحات الخاطئة، المتداولة حول قضايا وأحداث هامة في مسار هذه العلاقات.
أولى هذه الاطروحات ما يتردد في أدب “المذكرات” الجزائرية بصفة خاصة من كون الحركة التحريرية المغربية قد “استبعدت” خيار الكفاح المسلح، وفقاً لما كان يجري التداول بشأنه في حظيرة “لجنة تحرير المغرب العربي”، وهي اللجنة التي كانت تحت رئاسة المقاوم المغربي الكبير امحمد بن عبد الكريم الخطابي1.
وتستند هذه الأطروحة إلى تأويل غير دقيق لموقف و تقدير قادة الحركة الوطنية المغربية لشروط الكفاح التحريري المغربي، في منعطف الأربعينيات من القرن الماضي (1948-1952)، وهي الشروط التي لم تكن ناضجة بما فيه الكفاية للانتقال من الكفاح السياسي، الشعبي إلى الكفاح المسلح.
لكن عندما نضجت شروط الكفاح المسلح، غداة إقدام سلطات “الحماية” الفرنسية على عزل ونفي جلالة “السلطان” محمد بن يوسف، في 20 غشت 1953، لم تتردد قيادة الحركة الوطنية في تصعيد الكفاح الوطني، بما فيه الكفاح المسلح. ولقد كان “نداء القاهرة” الذي أطلقه الزعيم الوطني المغربي، علال الفاسي، نداءً مدوياً بتصعيد كل أشكال المقاومة، بما فيها المقاومة المسلحة2.
فكيف إذن تستقيم أطروحة عزوف الحركة الوطنية المغربية عن ممارسة خيار الكفاح المسلح في مقاومة الاستعمار، في الوقت الذي يدعو فيه الزعيم المغربي – الذي ينسب إليه موقف العزوف هذا – إلى خوض غمار المقاومة المسلحة ؟
الأطروحة الثانية، تزعم أن قيادة حركة التحرير الوطني المغربي قد “تنكرت” لـ “عهدة” مواصلة الكفاح المسلح على صعيد المغرب العربي، حتى تحرير أقطاره الثلاث، وفق منظور وتوجيه “لجنة تحرير المغرب العربي”.
وتستند هذه الأطروحة التي تعيب على المغرب الدخول في مفاوضات سنة 1955-1956 مع سلطات “الحماية”، في غمرة تشكل جيش التحرير المغربي وتحقيقه لانجازات عسكرية مدوية في مناطق متعددة من المغرب–إلى تأويل خاطئ لدور وعمل “لجنة تحرير المغرب العربي” التي أسستها الأحزاب الوطنية الممثلة لحركات التحرير بالأقطار المغاربية الثلاث : الجزائر وتونس والمغرب ” .
ذلك أن ما هو معروف من شهادات قادة هذه “اللجنة”، أن انشغالها ودورها كانا منصبين على تنسيق وتدعيم الكفاح التحريري، بمختلف أبعاده السياسية و الميدانية و العسكرية من جهة ، وعلى توسيع حركة التضامن معها على المستويات كافة ، الإقليمية و الأممية والدولية، من جهة أخرى .
ولم يكن وارداً في تفكير وعمل هذه “اللجنة ” على الإطلاق، أن تحل محل القيادات الميدانية في كل ساحة من ساحات الكفاح المغاربي، أو أن تعلن، من القاهرة، عن قرارات تفصيلية، حول شروط ومتطلبات واليات الكفاح التحريري، على كل حركة من حركات التحرير المغاربية .
ومن تم فإن القول بان الحركة الوطنية التحريرية المغربية، حينما فرضت على السلطات الاستعمارية الرضوخ إلى مطالبها المشروعة: عودة محمد الخامس من منفاه، وإنهاء ” الحماية” وإعلان استقلال المملكة المغربية، قد أخلت بالتزام تعاقدي مع “جبهة التحرير الوطني الجزائرية” حول مواصلة الكفاح المسلح حتى تحرير البلدين معاً، هو في الحقيقة قول مجانب للحقيقة التاريخية، إنه تأويل يندرج في سياق الأطروحات المتحاملة على المغرب في شروط الاحتقان السياسي الذي يطبع مرحلة ما بعد التحرير الوطني لأقطار المغرب العربي .
الأطروحة الثالثة، وهي لا تقل استخفافاً بالذاكرة المغاربية، تزعم أن استقلال المغرب وتونس ) 1956( قد ألحق ضرراً بالثورة الجزائرية التي وجدت نفسها “معزولة ” في ساحة الكفاح التحريري المغاربي… وتشي هذه الأطروحة بتبخيس الانجاز التحرري الذي تحقق في كل من المغرب وتونس من جانب، والى تغييب حصيلة الدعم، وتجاهل آليات التضامن التي أحاط بها البلدان الشقيقان، المغاربيان، الحديثا العهد بالاستقلال، الثورة الجزائرية من جانب آخر .
وبالفعل، فقد أضحى هذان البلدان، غداة استقلالهما، قاعدتين خلفيتين للثورة الجزائرية، توفران لها وسائل الدعم اللوجستيكي، من تدريب وتسليح وتموين، وتحتضنان الآلاف من المقاومين الجزائريين، ناهيك عن المؤازرة السياسية و المعنوية غير المحدودة…
وغني عن الإشارة أن معسكرات الثورة الجزائرية التي أقيمت في شرق المغرب، في مناطق التماس بين التخوم الشرقية للمغرب، و”الحدود” الغربية للجزائر قد شكلت، على مدى سنوات 1956-1962، قوام الجيش الشعبي الجزائري، بقيادة الراحل الهواري بومدين، وهو القوام العسكري الذي دعم وحمى جانب الرئيس احمد بن بلة، أحد قادة الثورة، وأول رئس للجهورية الجزائرية، لدى دخوله الجزائر، في غضون توقيع “اتفاقيات ايفيان” (1962) التي بمقتضاها اعترفت فرنسا باستقلال الجزائر .
كما تحفل الذاكرة المغاربية – التي ما تزال حية شاهدة – بحملات المؤازرة المعنوية، واليات التضامن السياسي التي رفع لوائها المغرب، ملكاً وحكومةً وشعباً، للثورة الجزائرية، وهو البلد الذي كان وقتها ما يزال منهمكا في إعادة بناء دولته الوطنية المستقلة .
وتؤكد الدراسات المونوغرافية التي أنجزها أكاديميون جزائريون مؤخراً، أهمية وحيوية الدور الذي قام به المغرب الأقصى في مؤازرة ودعم الثورة الجزائرية . فقد “أعلن المغرب تأييده للقضية الجزائرية ونسق تعاونه السياسي مع جبهة التحرير الوطني، وسمح باحتضان قواعد خلفية بأراضيه، كما احتضن جميع اللاجئين الجزائريين”. وبهذا مارس المغرب دوراً هاماً في دعم الثورة الجزائرية وخدمة قضاياها، ومسايرة تطورها، كما سطر ذلك باحثان جامعيان جزائريان في مقدمة دراستهما حول دور الإعلام المغربي في مؤازرة الثورة الجزائرية1.
بل إن جريدة “المجاهد” الناطقة باسم الثورة الجزائرية، كتبت في دجنبر 1957 تقول :” اعتبرت جبهة التحرير الوطني أن المغرب ودبلوماسيته خير من يعبر عن القضية الجزائرية، و أهم مدافع عنها، ويدل على ذلك المجهود الذي قام به المغرب في دورات الأمم المتحدة. ففي دورة ديسمبر 1957، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة مشروع توصية لتبني مشروع الوساطة المغربية–التونسية، كحل للمشكل الجزائري، وأُلقي خطاب لجلالة الملك محمد الخامس، خلال هذه الدورة، يؤكد فيه جلالته حق الشعب الجزائري في تقرير المصير، وداعياً فيه طرفي النزاع لإجراء مفاوضات تضع حداً للمشكل الجزائري”2، كما طالب أحمد العراقي، ممثل المغرب في الأمم المتحدة آنئذ، “تطبيق الإطار القانوني الذي تدعيه فرنسا بخصوص الجزائر”، مبينا أن: “القضية الجزائرية لا تتطلب إصلاحات، بل هو حل مشكل سياسي لن يحله إلا الاعتراف بالشعب الجزائري بحق تقرير مصيره بنفسه”3.
ويعكس هذا الانخراط المغربي الحازم، الواسع في دعم الثورة الجزائرية ما سبق أن قررته قيادة الحركة الوطنية التحريرية المغربية، بشقيها السياسي والعسكري، في اجتماعها الحاسم في مدريد ) مارس 1956( من التزام تضامني إزاء الثورة الجزائرية، وهو الالتزام الذي أكد : ” أن المغرب المستقل سيقدم للجزائريين دعماً أكبر من الذي كانت تقدمه المقاومة”4.
3- في المسار المعوق للوحدة المغاربية :
ومما لا ريب فيه، فإن التأويلات الخاطئة لمسارات الكفاح والتحرير في أقطار المغرب العربي، التي انتعشت في شروط الاحتقان السياسي المغربي–الجزائري، في حقبة ما بعد استقلال الجزائر، قد أفضت إلى تلغيم مشروع الوحدة المغاربية، وبالتالي إلى إحباط حلم الاندماج المغاربي وهو الحلم الذي شكل رافعة قوية لدينامية الكفاح المتضامن في سبيل الانعتاق من قبضة الاستعمار بشكليه “الاحتلالي ” )للجزائر(، “الحمايتي” )للمغرب وتونس ( .
وبالفعل فقد رسخ الفعل التضامني المغاربي الذي تساوق مع نهوض حركات التحرر الوطني في الأقطار المغاربية، في ثلاثينيات القرن الماضي، فكرة الوحدة المغاربية، لا باعتبارها تجسيداً حياً للوحدة الجغرافية والتاريخية والثقافية وحسب، بل باعتبارها كذلك إطاراً للمصير المشترك، ورافعة لبناء المستقبل المنشود…
ولئن نشأت فكرة الوحدة المغاربية في مجتمع النخبة الطلابية المغاربية في إطار “جمعية طلبة كشمال إفريقيا المسلمين”، واختمرت في حمأة النضال الوطني، القطري، من أجل الاستقلال –فإنها حققت طفرة حاسمة في منعطف الأربعينيات من القرن الماضي، غداة انعقاد “مؤتمر المغرب العربي” ) فبراير 1947(، وتأسيس “مكتب المغرب العربي”، ثم ” لجنة تحرير المغرب العربي” )يناير 1948(. كما شكل تأسيس “لجنة تنسيق جيش التحرير المغاربي” )يوليوز 1955 (، ذروة العمل التضامني الموحد .
ولقد ترجم البيان الذي ألقاه الزعيم الوطني المغربي، المرحوم علال الفاسي، باسم “لجنة تحرير المغرب العربي” )أكتوبر 1955)، خطوة جبارة في مجال تنسيق، بل توحيد الكفاح المسلح بين حركتي المقاومة بالمغرب والجزائر، وذلك بالمضي قدماً نحو إنشاء قيادة موحدة للحركتين، تتولى الإشراف على مسلسل التحرير في كلا القطرين. غير أن مفاعيل الشروط الموضوعية المؤطرة لكل مسار من مساري الكفاح التحرري، المغربي والجزائري، قد فرضت تباينات في المقاربة التكتيكية لكل من الحركتين التحريريتين، المغربية والجزائرية، لكن في كنف التوجه الاستراتيجي الموحد: توجه التحرير والاستقلال .
ولعل من محددات التباين في المقاربة التكتيكية لكل من المقاومتين المغربية و الجزائرية ثلاث:
أولها، الانطلاق المبكر لحركة المقاومة المسلحة بالمغرب )غشت 1953)، بفعل تصعيد سلطات “الحماية” لسياستها القمعية وإقدامها على عزل ونفي الملك محمد الخامس، رمز المقاومة المغربية للنظام الاستعماري، فكان ذلك إيذاناً بانطلاق “ثورة الملك و الشعب”.
وقد أخذت المقاومة المسلحة بالمغرب بعداً تحريرياً وطنياً أكثر قوة وفاعلية، بانطلاق “جيش التحرير المغربي” في عملياته التحريرية، في أكتوبر 1955، وهو التطور “الدراماتيكي” الذي فرض على سلطات “الحماية الفرنسية” الرضوخ إلى مطالب الحركة الوطنية والمقاومة المسلحة: عودة الملك من منفاه، وإعلان استقلال المغرب .
ثانيها، أن قوة الحضور المصري، ونشاط المخابرات المصرية، في محاولة “للتأثير على خط المقاومة المغاربية”، قد خلف “حساسية” وتوجساً لدى قيادة الحركة الوطنية المغربية، خاصة وان هذا الحضور “نجح في “استقطاب” بعض القادة الثوريين وعول عليهم في الدعوة إلى استقلالية وثورية المقاومة ونبذ الحزبية والملكية”1.
ثالثها، إن “لجنة تحرير المغرب العربي” التي كانت تشكل إطاراً للتنسيق بين الحركات الوطنية المغاربية الثلاث، لم تنجح في تحقيق الرهان الذي أنشأت من أجله، وذلك بفعل الخلافات الذاتية و الموضوعية بين مكوناتها، وحالة “التباينات السياسية العميقة بين أعضائها، ففي الوقت الذي كان الأمير ) امحمد الخطابي( يعتبر أن تحقيق المطامح القومية للمغرب العربي تمر بالطريق الثوري وبالكفاح المسلح كأسلوب وحيد للقيادة، كان الزعماء الآخرون يتمسكون بالنضال السياسي ” 2.
بيدا أن هذه التباينات الحاصلة في الخط التكتيكي مابين حركة المقاومة المغربية، و “جبهة التحرير الوطني” الجزائرية، خلال السنوات الحرجة الثلاث )1953-1956( من الحقبة التحريرية، لم تحل أبداً دون استمرارية التنسيق اللوجستيكي والميداني، وتصاعد التآزر السياسي والإعلامي بين الحركتين التحريريتين المغربية والجزائرية3.
وهو ما يؤشر إلى رسوخ فكرة الوحدة المغاربية في عمق الوعي الوطني لدى شعوب الأقطار المغاربية، وانغراسها في رؤيتها الرصينة لمستقبل المنطقة. و آية ذلك أن المؤتمر المغاربي الذي عقد بمدينة طنجة سنة 1958، بمبادرة من قيادة الحركة الوطنية المغربية، وبحضور وازن لـ ” جبهة التحرير الجزائرية”، و”حزب الدستور الجديد” التونسي ومندوبين عن ليبيا الشقيقة، قد وضع الحجر الأساس لمسلسل بناء المغرب العربي، في ظل مكتسبات عهد الاستقلال في كل من المغرب و تونس من جهة، كما وضع من جهة أخرى إطار التعبئة المغاربية الشاملة لدعم الثورة الجزائرية، وتحقيق استقلال الجزائر ، استكمالاً لحلقات التحرر والوحدة المغاربية .
ولئن كان انعقاد المؤتمر الأول لـ ” المغرب العربي” في فبراير 1947، قد سطر برنامجاً سياسياً لمواجهة الوضع الاستعماري بأقطار المغرب العربي، فإن المؤتمر الثاني لحركات التحرر المغاربي، المنعقد في أبريل سنة 1958 بطنجة (المغرب)، قد سطر برنامجاً تعبوياً شاملاً، داعما لكفاح “جبهة التحرير الوطني”، في أفق تحرير الجزائر واستكمال شروط الاندماج المغاربي المنشود .
وإذا كانت أهداف وتطلعات هاذين المؤتمرين المغاربيين، التاريخيين، قد وجدت صداها القوي في المؤتمر التأسيسي لـ “اتحاد المغرب العربي”، المنعقد بمدينة مراكش، في فبراير 1989، بحضور قادة الدول المغاربية الخمس )الجزائر / تونس / ليبيا / موريتانيا / المغرب(، فإن منازعة نظام الحكم الجزائري للوحدة الترابية للمملكة المغربية، على حساب مشروع الوحدة المغاربية، قد أحبط من جديد تطلع شعوب المغرب الكبير إلى تحقيق رؤية وحلم جيل الوطنية والمقاومة والتحرير وفي توفير شروط التنمية والنهوض والازدهار لأقطار المغرب العربي في المستقبل القريب والبعيد .
ذلك ما سجلته، وتسجله الذاكرة الجمعية المغاربية، وذلك ما ينبغي أن يتمثله وعي الأجيال المغاربية الصاعدة، وتستوعبه إرادتهم الخلاقة في بناء مستقبل، مستقر، متضامن ومزدهر لشعوب المغرب العربي.