يُسْعفنا التمييزُ النظري بين الدين والتديُّن، وما يُلقيه التمييز ذاك من ضوءٍ كاشف على واقع التعقُّد (التركيب) الذي تنطوي عليه الظاهرة الدينية، وفي جملته ما يَسِمُ الصلةَ الإنسانية بالدين من تعدُّدٍ في أشكال الإفصاح عنها ، لدى الأفراد والجماعات، (يسعفنا) بأدواتٍ مناسِبة لتبديد كثيرٍ من الاستخدامات المفهومية المتداولة، على نحوٍ من الالتباس شديد، في الحديث عن الدين (الإسلام في حالتنا)، وخاصة في تعيين اجتماعٍ إنساني به تعييناً يَكُون منه بمنزلة الماهية. ومن ذلك، مثلاً، تسمية المجتمعات التي تعتنق شعوبُها الإسلام بالمجتمعات الإسلامية أو -أحياناً- المجتمعات المسلمة؛ وإذْ يُبْتَدَهُ في مثل هذه التسميات ما ليس بديهياً أو، قُل، ما يحتاج إلى البيّنة؛ ليستقيم معناه، يَحْجُب فعْلُ الابتداه المعرفةَ بالحدّيْن الموصولِ بينهما: المجتمعات والإسلام، وبنصابِ كلٍّ منهما فيقِرّ فيه -وبه- معنى واحد: المماهاة بين المتعدّد التاريخي والاجتماعي والواحد العَقَدي مماهاةً تولِّدُها آليةٌ من الاختزال المزدوج: اختزال الاجتماعيِّ في الديني، واختزال الدين التاريخي (الإسلام التاريخي) في الدين المعياري. ومع أنّ مثل هذه الاستخدامات المبهَمة لا تنحصر في الدائرة الإسلامية، وإنما هو من المألوف حتى في الفكر المسيحي والغربي الحديث، الذي استمر في استعمال تعبيرات نظير من قبيل «المجتمعات المسيحية»، إلاّ أن استفحالها في الحالة الإسلامية أشدّ -أو هو هكذا بات اليوم في عصر صعود الفكرة الأصولية- وتبِعات ذلك الاستفحال على الوعي أسوأ.
تخفي عبارة «المجتمعات الإسلامية» كميةً هائلة من حقائق التمايز الاجتماعي والثقافي واللغوي والقومي بين المجتمعات تلك، على نحوٍ لا يجوز معه جمعُها تحت عنوانٍ تجريديٍّ جامع هو الإسلام. إذا كان من تحصيل الحاصل أنَّ مشتركاً كبيراً بين المجتمعات تلك -هو الإسلام- يشكّل حقيقةً روحية لا مجال لإنكارها، فإن إسلام المجتمعات هذه ليس واحداً للأسباب عينِها التي دعتنا إلى تعريف التديُّن بوصفه، أيضاً، فعلاً إيمانياً متعدِّداً. لا تملك مقولة المجتمعات الإسلامية، بهذا المعنى، أن تطمس الفارق بين إسلامٍ عربي مثلاً، أو إسلام المجتمعات العربية، وإسلام إيراني أو إسلام تركي أو هندي (وباكستاني) وإندونيسي وأفغاني وإفريقي.. إلخ؛ إذِ المعطيات التاريخية والثقافية -بما فيها اللغوية- والأنثروبولوجية ليست سواء. يكفي، بياناً، للفروق والتمايُزات أن أكثر تراث الإسلام، مثلاً، مكتوب باللسان العربي، وأن مجتمعات كثيرة من عالم الإسلام لا تمتلكه، ما خلا نخبة صغيرة من علماء الدين فيها، وبالتالي، فإنّ نوع تلقّيها للمعارف المرتبطة بالنصّ الديني؛ بل وتلقّيها للنصّ الديني نفسِه-تختلف عن نظيرتها في البلاد العربية.
وليس الأمر تفصيلاً لدى مَن يعرف مركز اللغة العربية في الإسلام وتراثه التاريخي، وحاجة علوم الإسلام إليها: من تفسيرٍ وفقهٍ وكلام وسوى ذلك. والحقيقةُ هذه كانت قد أُدركت في الماضي، على نحوٍ حادّ، من قِبَل المسلمين غير العرب الذين أقبلوا على تعلُّم اللسان العربي، وأحسنوا التعلم، فألَّفوا به وساهموا في تنمية تراث الإسلام، وكان تعرُّبُهم المدخل إلى اندماجهم في عالم العروبة نفسه.
على أنّ التمايز بين إسلام وإسلام لم يقع على حدود التمايُز القومي واللغوي (الفارسي، الطوراني، الهندي..) فحسب، وإنما هو وقَع داخل إسلام كلِّ أمّة قومية من أمم الإسلام. وهكذا لم يكن إسلام المجتمعات العربية واحداً، ولا كان إسلام إيران أو أفغانستان أو الهند أو تركيا أو نيجريا.. واحداً، ظل الفارق ملحوظاً ومستمراً بين إسلام عالِم وإسلام شعبي وإسلامِ جماعةٍ مذهبية وإسلام جماعة مذهبية أخرى مخالفة. وما كان التمايُز هذا خاصيةً إسلاميةً صرفاً، وإنما هو ممّا كان له كثيرُ نظائر في أديان أخرى كالمسيحية واليهودية. بل نحن نلْحظ الظاهرةَ عينَها حتى في الأديان الآسيوية – غير الكتابية – العابرة للقوميات، مثل: البوذية والكونفوشيوسية وسواها.
وكما أنّ وصف مجتمعاتٍ، مثل مجتمعات أوروبا وأمريكا، بأنها مجتمعات مسيحية وصفٌ يُجانب الدقة؛ لأسباب عدّة أهمّها أنّ المسيحية لم تعد نظاماً للدولة والمجتمع في الغرب، منذ فُكَّتِ الصلةُ بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، ومنذ أصبحت الرابطةُ القومية -لا الرابطةُ الدينية- أساس المواطنة والانتماء، كذلك يَعْسُر وصف المجتمعات التي تعتنق شعوبُها (أو أكثرياتُها) الإسلامَ بالمجتمعات الإسلامية أو المسلمة، ليس لأن شعوبها غير مسلمة؛ ولكن لأن أنظمتها قائمة على مبدأ الشخصية القومية أو الوطنية. ومع أن دول العالم الإسلامي لا تعتنق العلمانية عقيدةً سياسية، أو لا تُجاهر بذلك -ما خلا في حالة تركيا- إلاّ أنّ النُّظم والتشريعات والقوانين السائدة فيها، والمنظِّمة للعلاقات السياسية والاقتصادية والمالية والتجارية وللنظم الجبائية والقضائية والتعليمية، تشريعات ونظمٌ وضعية، أما التشريعات المستوحاة من الشريعة فمطبّقة، أساساً، في ميدان الأحوال الشخصية. وعلى ذلك، لا يكفي أن تكون شعوب المجتمعات تلك معتنقةً للإسلام لتسميتها مجتمعات إسلامية؛ لأنّ قيامها -كأي مجتمعات أخرى في العالم- ليس على الدين وإنما على روابط الانتماء الوطني التي تجمع المسلمين فيها بغير المسلمين من مواطنيها، وهي عينُها الروابط التي تجمع المسيحيين، في مجتمعات الغرب، بمواطنيهم المسلمين واليهود والبوذيين والهندوسيين والوثنيين وغيرِ المعتنقين ديناً من الأديان.
وليس من التحديد العلمي في شيء أن يُرَدَّ اجتماعٌ إنساني (وطني، قومي)، مركَّبٌ من أبعاد وعناصر متعدّدة، إلى عاملٍ تأسيسيّ واحد يكون منه بمثابة الماهية. إنها، شأنها شأن غيرها من التسميات المبهمة الرائجة، لغْوٌ أيديولوجي مبناهُ على كلياتٍ مغلقة لا وجود لها إلاّ في وعيٍ لا تاريخي، وعيٍ يعاني نقصاً حادّاً في المعرفة بعلاقات التركيب التي تكوِّن الظواهر الاجتماعية. وهي في أحسن أحوال الظنّ بها تعزيةٌ للنفس بوجود كيان كبير افتراضي عابر للكيانات السياسية والاجتماعية المتعيّنة والواقعية.