في زيارته القصيرة لبيروت، كان لنعوم تشومسكي، المفكر والفيلسوف الأميركي الغني عن التعريف، لقاء مع بعض الأفراد السوريين المستقلين، من ناشطين إعلاميين وعاملين في مجال الإغاثة ومشتغلين في الحقل الثقافي والاقتصادي. وقد صارح تشومسكي المجتمعين بأنه جاء ليصغي إليهم، وليستمع إلى وجهات نظرهم المختلفة حول الأوضاع الراهنة في سوريا.

بعد هذا اللقاء، تشرفت بإجراء الحوار التالي معه. ورغم إني فاتحته في بداية الحوار أن حافزي هو دفعه ليكاشف السوريين ويتحدث إليهم مباشرة حول مقاربته للوضع في بلدهم، بعد سلسلة مقابلات معه في بيروت أجرتها صحف لبنانية تقارب الوضع السوري بحسب اهتمامها وانحيازها السياسي. إلا أن المفكر الثمانيني أصرّ بدماثة أنه في موقع التعرف على الوضع عن كثب، أكثر من كونه في موقع إعطاء الاستنتاجات الناجزة. تطرق الحوار إلى مواقف كان تشومسكي قد سجلها في مقابلات سابقة حول رؤيته للوضع المعقد في سوريا، وتدخل حزب الله هناك، وطبيعة الموقفين الأميركي والإسرائيلي من سوريا الثورة، وقضايا أخرى ذات صلة.

عن تدخل حزب الله والسياسات الإيرانية

ما هو رأيك بتدخل حزب الله الصريح على خط الصراع في سوريا دعماً لقوات النظام؟ هناك تصريحات لك تفيد أنك تتفهم هذا التدخل.

هنك فرق بين فهم دوافع التدخل وتبريره. لنكن واضحين، لا شيء يبرر تدخل حزب الله. إذا سألتني ماذا يعتقدون، فسأجاوب عن رأيي فيما يعتقدون هم. ولكن إن سألتني ما هو رأيي بقرارهم، فرأيي البسيط والواضح أنه لم يكن عليهم التدخل. لكني لست أباهم الروحي وهم لم يطلبوا نصيحتي.

بالعودة إلى رأيي فيما يعتقدون هم: إن لم يتدخلوا في القصير، فإنها كانت ستبقى في يد مقاتلي المعارضة، وهذا بالطبع يجسد انحداراً في قوة النظام السوري، وبالتالي حصار الإمدادات الواصلة إليهم من إيران، وبالتالي ضعف قوتهم العسكرية تدريجياً في وجه إسرائيل، وهي ذريعتهم الأساسية للاحتفاظ بالسلاح. مجدداً فإن خياري، والذي من الواضح أنه ليس خيارهم، كان بعدم التدخل في سوريا والعمل على تعزيز دورهم كقوة اقتصادية واجتماعية داخل لبنان، ومقاربة مفهوم قوة الردع بطريقة أخرى، المفهوم الذي برأيي لم يعد قائماً بنفس الطريقة التي يظنها البعض. بصراحة لا يتم الانتباه هنا إلى ما يدور داخل إسرائيل في هذا الصدد، وهذا خطأ كبير. هناك أحاديث أن الإسرائيليين تعلموا من حرب 2006 أن أي حرب قادمة في لبنان لن تقوم على مبدأ خوض معركة برية طويلة مع حزب الله، الذي يملك ترسانة صاروخية كبيرة، وإنما ستكون حرباً خاطفة وسريعة تسعى للتدمير الشامل، ربما تدمير لبنان خلال يومين. وقوة الردع عند حزب الله لن تمنعهم.

هل تعتقد باحتمال حدوث تغيرات ملحوظة على سياسة إيران الخارجية بعد انتخاب السيد روحاني؟

لروحاني خيارات محدودة بسبب سلطة الولي الفقيه. لكن يتوجب القول أن هناك تنويعات حصلت على السياسية الخارجية الإيرانية عبر السنوات الماضية. خلال حقبة خاتمي، كان هناك فرصة للتقارب مع الغرب لو وافق هذا الأخير. بالمناسبة فإن اتفاقاً مماثلاً حول الملف النووي كان ممكناً تحقيقه في العام 2010، لولا رفض الولايات المُتحدة في اللحظات الأخيرة، رغم أن إيران وافقت على اقتراح قدمه أوباما بنفسه ورعته كل من البرازيل وتركيا نصّ على تخزين اليورانيوم الإيراني ضعيف التخصيب في تركيا، مقابل حصولها على وقود نووي عالي التخصيب من أوروبا، مما دفع البرازيل إلى الغضب في حينه. بالعموم أرى أن هناك طرقاً لتخفيف حدة المواجهة بين إيران والغرب، ولكنها دوماً مرهونة بشرطين: موافقة السلطات الروحية في إيران، وموافقة الولايات المُتحدة.

هل تستخدم إيران الوضع السوري كورقة في مفاوضاتها مع الغرب حول الملف النووي؟

لا أعتقد ذلك. أعتقد بالفعل أن الأزمة السورية عبء عليهم. طبعاً هم لا يريدون للنظام أن يسقط، فهو حليفهم الأخير في المنطقة. وللأسف فالمنطقة تتجه نحو مزيد من الاستقطاب الحاد بين الشيعة والسنة، ولذا فإن المرجح أن تستمر إيران بدعم النظام السوري حتى النهاية.

إسرائيل والولايات المتحدة والمواقف من الثورة السورية

ما هو برأيك الموقف الإسرائيلي الحقيقي من الثورة السورية؟

إسرائيل لم تتصرف بأي طريقة تنم أنها تسعى لإسقاط نظام الأسد. هناك اليوم أحاديث متزايدة عن نية الغرب لتزويد المعارضة بالأسلحة، أعتقد أن هذه حقائق مُضللة. في حقيقة الأمر لو كانت الولايات المتحدة ومعها إسرائيل مهتمة بإسقاط النظام السوري، لكان هناك جملة من الإجراءات التي أمكن القيام بها قبل الوصول إلى خيار التسليح، وهي جملة خيارات مُتاحة. منها مثلاً أن تدفع أميركا إسرائيل لحشد قواتها على الجبهة الشمالية وهو أمر لن يترتب عليه أي اعتراض دولي، وكان سيجبر النظام على سحب بعض قواته والتخفيف عن قوات المعارضة في عدد من الجبهات. لكن هذا لم يحدث، ولن يحدث طالما الموقف الأميركي والإسرائيلي غير راغب في رؤية النظام يسقط حقاً. ربما لا يحبون النظام، لكنه نظام اعتاد أن يكون مرناً في الاستجابة لمتطلباتهم، وأي بديل يجهلونه قد يكون أسوأ في هذا الصدد. الأفضل إذن مراقبة السوريين يقتتلون ويدمرون بعضهم البعض.

لديك هذا الخطاب الواضح حول عدم رغبة أميركا وإسرائيل بسقوط النظام السوري، وأن هذه القوى تتحرك على قاعدة «الشر الذي تعرفه خير من الشر الذي تجهله». كيف تفسر رواج خطاب مغاير بين مُحللين ومثقفين، وخاصة في الأوساط اليسارية في أوروبا والولايات المتحدة والعالم العربي، يبني أسسه على فرضية المؤامرة الأميركية / الإسرائيلية / الإمبريالية؟ بالنسبة للبعض، كانت الثورة في سوريا منذ البداية مؤامرة من هذا النوع. بالنسبة لآخرين فقد تم اختطافها لاحقاً لصالح مثل هذه المؤامرة.

لوقت طويل وُجد في العالم العربي، وأماكن أخرى، قصص وأوهام حول القوة الخارقة للولايات المتحدة، عبر التحكم بكل شيء عبر مؤامرات معقدة. وفي هذا السياق كانت كل الأمور تفسر تبعاً لمؤامرات إمبريالية. هذا خطأ. الولايات المتحدة ما زالت قوة عظمى بدون شك، وهي قادرة على التأثير بالأحداث، لكنها ليست دوماً قادرة على تحريك الأمور عبر حبك مؤمرات مُعقدة، هذا حقاً أكبر من طاقتهم. لا شك أنهم يحاولون أحياناً، لكنهم أيضاً يفشلون. ما حدث في سوريا ليس عصياً على التفسير: لقد بدأت حركة احتجاجية شعبية وديمقراطية طالبت بإصلاحات ديمقراطية، لكن، بدل الاستجابة لها بإيجابية بنّاءة، جابهها الأسد بقمع عنيف. وما يتلو هذا عادةً إما النجاح في سحق الاحتجاج، وإما أن يتطور الاحتجاج ويلجأ للتسلح، وهذا ما حدث في سوريا. وعندما تدخل الحركة الاحتجاجية هذه المرحلة، نشهد ديناميكيات جديدة، عادةً ما تفرز تقدم أكثر المكونات تشدداً وضراوة إلى الصفوف الأمامية.

بين خيار تسليح المعارضة وخيار المفاوضات

لديك موقف متحفظ حول ما أثير أخيراً عن نية غربية لتزويد مقاتلي المعارضة بالأسلحة. لماذا؟

يتعلق الأمر بالنظر إلى النتائج. مرة أخرى أرى أن هناك أموراً أبسط يمكن للغرب القيام بها قبل الانتقال للدعم العسكري، منها ما ذكرته سابقاً، ومنها أيضاً تقديم مزيد من المساعدات على المستوى الإنساني. إن كنا جديين يجب علينا النظر إلى نتائج مثل هذا الفعل. ماهي النتائج المترتبة على ذلك على الصعيد الإنساني؟ سؤالي هنا عملي وليس أخلاقياً. جوابي سيكون قريباً من جواب مراقبين آخرين متابعين للوضع السوري عن كثب، مثل باتريك كوبرن الذي قال أن مثل هذه الخطوة ستصعّد المواجهة العسكرية، مع الإبقاء على نفس التوازن العسكري. فحلفاء النظام من روسيا وإيران والعراق سيستمرون في القيام بما يفعلونه أصلاً، وسيدعمون النظام بأسلحة أكثر تطوراً.

هذا التحليل يستند عادةً إلى فرضية تقول أن روسيا ستقوم بتزويد النظام السوري بأسلحة متطورة من شأنها قلب التوازن الحالي –المسكوت عنه– مع إسرائيل. ألا تعتقد أن روسيا وإن كانت داعمة للنظام السوري لكنها لن تقدم على خطوات من شأنها تهديد أمن إسرائيل؟

يمكنهم أن يزودوا النظام بأسلحة متطورة دون أن يصلوا إلى الحد الذي يهدد إسرائيل حقاً. ولا ننسى أن النظام قد يستخدم السلاح الكيماوي، حتى الآن هناك تشويش حول هذا الأمر، ولكنه احتمال لا يمكن نفيه بالمستقبل.

تسجل تحفظك على قرار تسليح المعارضة، بوصف ذلك خطوة ستطيل أمد الصراع الدموي. وترى في المفاوضات المترافقة مع ممارسة ضغوط سياسية ودبلوماسية الوسيلة الأفضل لدفع النظام إلى تقديم التنازلات. لكن هناك اعتقاد رائج لدى السوريين أن نظامهم لن يقدم تنازلات جدية ولن يتفاوض مع المعارضة حتى لو وصل الثوار إلى أبواب القصر الرئاسي، لنا في القذافي مثال من الأمس القريب.

ربما أتفق معك في هذا. ولكن لتجبر النظام على التفاوض، عليك أن تغير الظروف لتدفعه إلى القبول. وإحدى الطرق لتفعل ذلك يكون عبر توفير الظروف لجنيف، عبر توافق بين الدول الكبرى يدفع النظام أو بالأحرى يُجبر النظام -وهم قادرون على ذلك إن أرادوا حقاً- على الذهاب والقبول بتسوية تقوم على وجود فترة انتقالية تمهّد لرحيل الأسد بشكل نهائي.

لكن هناك خشية من أن الاستمرار في عدم تسليح المعارضة بشكل منظم وبأطر واضحة سيعني استمرار تحكم بعض الأفراد والمرجعيات الدينية في الخليج وخارجه في تزويد السلاح بشكل محدود لفرق معينة في صفوف المعارضة المسلحة، تمثل الوجه الأكثر تشدداً. وبذلك يستمر تهميش القطاعات المعتدلة من مقاتلي المعارضة.

سؤالك هنا يحمل خيارات تكتيكة ضيقة جداً. كلنا نريد أن نجبر الأسد على التفاوض ومن ثم التنحي، ولكن السؤال كيف نفعل ذلك؟ الطريقة الأولى لفعل ذلك هي عبر تزويد المعارضة بالسلاح، وهي خطوة ستؤدي على الأرجح إلى تصعيد المواجهة العسكرية وتفتح الباب نحو مزيد من الإمداد العسكري المتطور للنظام، سيؤدي هذا إلى تفاقم الدمار والمراوحة في المكان. الطريقة الثانية هي في الذهاب إلى جنيف بتوافق بين القوى الكبرى، ومن ضمنها روسيا، ودفع النظام إلى قبول التسوية. هذه هي الخيارات التي نملك!

ولكن هل تعتقد أنه بالاعتماد على خيار التفاوض يمكنك دفع النظام إلى قبول التغيير؟

بصراحة وبموضوعية، أعتقد أن لكلا الخيارين فرصة ضعيفة بالنجاح. لكن عليك أن تتخذ خياراً. في أيهما تمضي؟ الخياران ليسا مثاليين، ولكن مرة أخرى عليك أن تفكر بما لديك. في الحقيقة أعتقد أنه يمكنك المضي أولاً في خيار التفاوض، وإذا واجهت الفشل، فسيكون انتقالك إلى الخيار الثاني مقبولاً أكثر.

لكن الوقت يقاس بأرواح السوريين.. نتحدث عن الذهاب إلى جنيف في ظل الوضع الراهن والدخول في مسيرة مفاوضات طويلة.

والفرضية المعاكسة تقول أيضاً أن أرواح سوريين كثر ستزهق أيضاً باتباع الخيار الآخر!

هناك معضلة تتمثل في إقناع قطاعات واسعة من السوريين الذين اضطروا لحمل السلاح، بأن التزود بالسلاح من الخارج سيزيد الأمور سوءاً، في حين يتلقى النظام دعماً سخياً ومتواصلاً من حلفائه. ألا تعتقد أن التحدي الحقيقي لا يكمن في استقبال السلاح، وإنما في تحصين الداخل أمام فرض المزودين بالسلاح لأجنداتهم مقابل الدعم؟

مجدداً، السؤال الذي يقلقني هو ما نتائج هذه الخطوة؟ لا يتعلق الأمر فقط بالحديث عن مزيد من الضحايا والتدمير، وإنما ترسيخ نفس التوازن العسكري الموجود في سوريا اليوم وإنما مع أسلحة أكثر، مع كل ما سيجلبه ذلك على سوريا. أما سؤالك حول الأجندات، فهذا بالطبع شأن آخر. ماذا يمكن التوقع من دولة مثل السعودية مثلاً؟

السلمية والعسكرة، والتضامن العالمي مع السوريين المنتفضين

مازال السوريون اليوم يسمعون بعض اللوم بسبب تصدر المقاومة المُسلحة لمشهد الثورة، بعد أن كانت الاحتجاجات سلمية وبقيت كذلك طوال الشهور الأولى. هل تعتقد أن السوريين امتلكوا خيارات أخرى وفوتوها على أنفسهم؟

لا أعتقد أن السوريين صنعوا الخيار في المقام الأول. حدث هذا بعد الرد القمعي من النظام السوري. كان أمام السوريين إما الاستسلام أو الاتجاه نحو السلاح. اللوم هنا كالقول بأن الفيتناميين أخطئوا باللجوء إلى السلاح عندما قامت الحكومة المدعومة أميركياً بارتكاب المجازر. نعم لقد اختار الفيتناميون الرد المسلح، لكن البديل الآخر كان بالقبول باستمرار المجازر. هذا ليس نقداً جدياً.

هناك شعور بالمرارة لدى السوريين لغياب تضامن فعّال مع حراكهم. لا أتحدث هنا عن الحكومات والسياسيين، أقصد مواطنين عاديين وناشطين ومنظمات مجتمع مدني. لا يتعلق الأمر باليوم فقط، وإنما يعود إلى الفترة الأولى حين كانت الاحتجاجات سلمية بالكامل واستمرت كذلك للشهور العشرة الأولى تقريباً. كيف تفسر هذا؟

في الواقع هذا مخالف لانطباعي، وأنا موجود وسط تحركات الناشطين من الغرب. أعتقد أنه كان هناك تضامن جيد مع السوريين. لكن كيف يتحول التضامن إلى فعل؟ هذا شيء آخر. لنفترض أنك ناشط تعيش في نيويورك، كيف تظهر تضامنك على العلن؟ ماذا تفعل؟

ربما تنظم مظاهرات أسبوعية..

كان هناك مظاهرات، ربما كانت قليلة. لكن المظاهرات في نهاية الأمر لها فعالية محدودة.

لكننا وخلال أيام فقط من الحراك الشعبي في ميدان تقسيم في تركيا، رغم أننا نتحدث عن سياق مختلف تماماً، شهدنا تظاهرات متضامنة حول العالم مع الحراك هناك، كنا في سوريا نتوق لرؤية مثلها.

يعود الأمر برأيي لقدرة الجاليات التركية في الغرب على الحشد والتحرك، وهي قدرة على حد علمي غير متوفرة لجاليات سورية مماثلة. لكني أكرر اعتقادي أن سوريا أيضاً حظيت بتضامن كما حظيت به تونس ومصر من قبل.

بالحديث عن مصر، كان هناك تضامن واسع، مفهوم الدوافع بالطبع، مع محتجي ميدان التحرير. يأتي إحساس السوريين بالمرارة من الشعور بأنهم كانوا مطالبين بإعادة إنتاج ميدان تحرير آخر كي يحظوا بنفس التقدير، علماً أنهم لم يوفروا جهداً في سبيل ذلك، وقد أُزهقت أرواح كثيرة في سبيل هذا الهدف.

نعم فقد منعوا عبر استخدام القوة المفرطة. أتفق معك أن ميدان التحرير حظي باهتمام ملحوظ، يعود ذلك في جزء منه إلى مجموعات من الناشطين عملت بدأب على ربطه بالعالم، فمثلاً تضامن متظاهري التحرير مع نظراء لهم في ويسكونسن الأميركية ترك أثراً كبيراً في الجمهور الأميركي. عموماً فإن التأخر في إظهار التضامن والدعم حدث في كثير من المرات. كينيدي غزا جنوب فيتنام في العام 1961، بدأت طائراته بالقصف في حينه، واستغرق الأمر خمس سنوات لتحدث أول مظاهرة منظمة ضد هذه التدخل.

لكننا نتحدث عن عصر الميديا الجديدة، ووسائل التواصل الحديثة، وتدفق الصور المتاح للجميع.

كان هناك مراسلون وتقارير تصلنا من فيتنام، برأيي لم تكن هذه هي العقبة الأساسية. الأساس أنه لم يكن هناك مزاج شعبي ناضج لهذا الدعم بعد. موضوع الدعم والتضامن الفعّال يتطلب وقتاً وجهداً وتنسيقاً، ربما يكون النقص على هذا الصعيد. انظر إلى فلسطين: لدينا مأساة مستمرة منذ عقود، ولا أعتقد أن حجم التضامن كافٍ. ربما تحسنت الأمور في الآونة الأخيرة وبدأنا نشهد فعالية أكبر في هذا السياق، لكني حتى سنوات خلت كنتُ بحاجة لحماية الشرطة عندما أدعو أو أنظم مبادرة تضامنية مع فلسطين.

مصير بشار الأسد ومستقبل سوريا

ماهو مصير بشار الأسد برأيك؟

مصيره بأن يسقط بطريقة أو بأخرى. لكن لا أخفيك، فإني أرى أن نتائج الأوضاع الراهنة قد تكون بشعة. قد تتفكك سوريا. الأكراد قد يستقلون في بعض مناطقهم عبر علاقة ما مع كردستان العراق، وبالتنسيق مع تركيا ربما. فيما تنقسم بقية الأراضي السورية إلى قسمين، بحيث يسيطر الأسد على جزء فقط. هذا رهيب ومؤلم للشعب السوري ولسوريا، لكن للأسف هذا ما تتجه إليه الأمور الآن.

ولكن هل تعتقد أن دول الجوار سترضى بمثل هذه الخارطة، إن صح التعبير، مع ما قد ينتج عن ذلك من عدم استقرار على حدودها؟

ربما لن يحبذوا ذلك، لكن هل لديهم خيارات أفضل؟ عليك أن تفاضل بين الخيارات التي تملك، وليس التي تتمنى. هذه هي الحقيقة. الولايات المتحدة قد تقبل بذلك، وإسرائيل ستكون سعيدة بذلك أيضاً، فسوريا ستكون مفككة ومشتتة، كما بقية العالم العربي.

ماذا عن هاجس أمن حدودها الشمالية؟

لا تغييرات كبيرة ستحصل. سيبقى الأسد مسيطراً على هذا الجزء. عموماً لن يكون هناك تهديد جدي لأمن إسرائيل، فهي تمتلك تفوقاً عسكرياً كبير على كل جيرانها، أياً كانت الاحتمالات. وهناك تضخيم أحياناً في أولوية الأمن عند إسرائيل. لقد رفضت إسرائيل عروضاً كثيرة لضمان أمنها في مقابل معاهدات سلام مستندة إلى قرارات الأمم المتحدة، لكنها فضلت دوماً التوسع على الأمن، هذه هي سياستها.

هناك ملاحظة مدهشة متعلقة بالثورة السورية. يناصبها العداء أفراد وتيارات تنتمي لأقصى اليسار في أوروبا والمنطقة العربية والعالم عموماً بوصفها جزءاً من مؤامرة أميركية وإمبريالية، وكذلك تفعل تيارات وأحزاب من أقصى اليمين، ترى فيها تهديداً متطرفاً لوجود الأقليات والمسيحيين بشكل خاص. سمعنا تصريحات من اليمين المتطرف في فرنسا، ونيك غريفين –زعيم الحزب القومي اليمني المتطرف في بريطانيا– زار دمشق وهو يدافع عن بشار الأسد… كيف تقرأ هذه الظاهرة؟

تجاهلهم، فهم ليسوا مهمين. هم مجموعات لا يمكننا بصراحة الوصول إليها والتواصل معها، ولا يجب القلق كثيراً حول عدم قدرتك على إقناع مجموعات طرفية من الصعب الوصول إليها أصلاً. هناك أولويات للوصول إلى مجموعات أهم وأكثر حضوراً وتأثيراً في صناعة القرارات.

في الحديث الذي سجلته في الشهور الأولى للثورة، مع الشهيد باسل شحادة، قلتَ في حينها بأنك لا تملك نصائح أو وصفات جاهزة لتقدمها للشعب السوري في مخاضه الصعب، هل تغير الوضع الآن؟

في الحقيقة لم يتغير. السوريون يواجهون ظروفاً صعبة ومعقدة، وبالتأكيد هم يعرفون ما عليهم فعله أكثر مني بكثير. لم أعط نصائح في السابق لمن طلب مني ذلك، لا في فيتنام ولا في نيكاراغوا ولا في أي مكان آخر. لكن ربما أقول أن على السوريين تقييم الخيارات الموجودة بين أيديهم وتقصي النتائج المترتبة عليها. عليهم فعل ذلك عبر قراءة الواقع الموضوعي، وليس البقاء في عالم من صنع مخيلتهم، والقول لا أريد هذا وأرفض ذاك.

جميع الحركات الناجحة التي نشدت التغيير قدمت تنازلات محددة في لحظات محددة، بناء على قراءة الواقع وتقييم ما هي الخيارات الأخرى. حتى الحركة الصهيونية ساومت بقبول تقرير لجنة بيل 37، كأفضل الحلول في حينها. ومن ثم تابعوا من هناك. قبل الفيتناميون مقررات اتفاق جنيف 1954. عملياً قبلوا التقسيم، والبديل كان ربما استخدام السلاح الذري ضدهم أو سحقهم عسكرياً، قبلوا بذلك ليستطيعوا الاستمرار لاحقاً، وبرأيي فقد فعلوا خيراً بقبولهم.

من الصعب التحرك في العالم الحقيقي بدون تقديم تنازلات. لا أملك نصائح، فقط لا تجعلوا أمانيكم تغطي الواقع بالكامل، انتبهوا للحقائق. نعيش في عالم حقيقي بكل بشاعته وعلينا التعامل معه واتخاذ قراراتنا ضمنه.

هل تعتقد أن المساومة قد تصل إلى حد قبول وجود الأسد في سوريا المقبلة، أياً كان الحل؟

الأمل البسيط (وإن كان ضعيفاً) يتمحور في سياق المفاوضات، حيث يقوم داعمو الأسد، روسيا بشكل خاص، بما يقولون أنهم سيفعلونه: أن يدفعوا الأسد للقبول أن يكون جزءاً من حكومة مؤقتة بصلاحيات محدودة، تمهيداً لرحيله. هذا أمل ضعيف ولكنه ليس مستحيلاً. إن سألتني عن احتمالات نجاحه، لا أملك إجابة، لكنه لا يبدو احتمالاً مستحيلاً بالمرة.

[جدلية تعيد نشر المقابلة بالإتفاق مع الكاتب]

***

[*أُجري اللقاء في 16/ 6/2013، في بيروت، لصالح موقع الجمهورية للدراسات، وجريدة لجان التنسيق المحلية «طلعنا على الحرية»، ومؤسسة هاينريش بول. الشكر الجزيل للدكتور فواز طرابلسي على تسهيل هذا اللقاء.]

عن موقع جدلية

‫شاهد أيضًا‬

دراسة نقدية لمجموعة (ولع السباحة في عين الأسد).للقاص (حسن ابراهيم) * د. عدنان عويّد:

التعريف بالقصة القصيرة ودور ومكانة القاص في تشكيل معمارها:      القصة …