في كل العالم يطفئ المحتفل بعيد ميلاده الشموع. و هو تقليد بدأ منذ القدم في اليونان على أساس أن المحتفى به آنذاك يتقرب بنور الشموع المضاءة إلى “آلهة” الحياة بينما عندما يطفئها يطرد بدخانها “الشيطان”. و قد استمر هذا التقليد و انتشر فى كل الدول و بنفس النهج و لكن خروجا على هذه التقاليد المتوارثة ، حل قبل يومين عيد ميلاد أستاذ الصحافة العربية محمد حسنين هيكل الرابع و التسعين و قد رحل عنا قبل سنة و نصف تقريبا بعد أن أضاء لنا خلال الفترة الأخيرة من حياته بحواراته التى أجرها مع الإعلامية لميس الحديدي على شاشة CBC ، شموعا عديدة لا تنطفىء من الفكر و الرأي و المعرفة و التحليل السياسي.
الخامسة و النصف صباحا موعد الاستيقاظ الذي لم يخلفه “الأستاذ” لأكثر من أربعة عقود ، بعد حمام ساخن يجلس على مكتبه يطالع الصحف بداية من “واشنطن بوست” مرورا ب”الأهرام” المصرية و حتى “والت إنفورميشن” الإثيوبية … “الأستاذ” لا يستثنى شيئا ، يساعده في ذلك إتقانه للغات متعددة و قدرته على قراءة ما وراء السطور. ينغمس في القراءة ماسكا قلم الرصاص يضع الخطوط حول بعض الأخبار المهمة. سر حماسه رغم تخطيه سن التسعين؟ أنه لم يلتفت للعمر ، لم ينصت و لو لحظة لمن يقولون له أما آن أن تعتزل؟ استمرت ذاكرته ، إلى أن وافته المنية ، في العمل ، فلم يكن هناك مبررا إذا للتوقف، بل كيف لصحفي من طينة هيكل النادرة أن يتوقف؟
“ليس في حياة الأمة شيء فات ، و شيء لم يفت.. إن الحاضر ابن شرعي للتاريخ ، و الغد استمرار متطور لليوم .. و إذا تركنا بقايا من تجارب سنوات مضت ، تترسب في أعماق شعورنا ، فلسوف تبقى هذه الرواسب دائما حواجز تحجب الرؤية الصافية ، و تعوق التطلع الشفاف إلى المستقبل” (من كتاب: نظرة إلى مشاكلنا الداخلية على ضوء ما يسمونه “أزمة المثقفين” – محمد حسنين هيكل). عبارة تلخص قيمة الرجل ، فقد تمكن “الأستاذ” ببراعة من قراءة التاريخ ، الذي كان شاهدا على نقاط دقيقة في صنعه ، فسر من خلالها أحداث الحاضر ، و فتح الباب واسعا لتوقع دقيق لما سيحدث في المستقبل ، و ليس هذا غريبا عليه ، فكاتبنا الذي ولد قبل 94 عاما في حي “الحسين” بالقاهرة ، صاحب تجربة إنسانية فريدة ، دخل خلالها من بوابة الصحافة إلى عالم السياسة ، و وصل فيها لمكانة لم يصل إليها غيره من الصحفيين ليشارك في صنع القرار في فترة مهمة من تاريخ مصر و الأمة العربية. و قد كان من الطبيعي ألا يتفق الجميع على رؤى “الأستاذ” و أن يكثر الخلاف على ما كان يقوله ، و قد كان هذا فى الواقع دليل على قيمة ما كان يقوله.
بدأ “الأستاذ” مهنة الصحافة قبل 75 سنة و طوال كل تلك السنوات و حتى مماته لم يتخل يوما عنها ، حتى عندما فرض عليه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ان يكون وزيرا (فى سن السابعة والاربعين) ، و عندما قدم استقالته للرئيس الراحل انور السادات من إشرافه على الأهرام (فى الثانية والخمسين) ، و عندما تصور انه يمكن ان ينسحب و يعتزل الكتابة فى سن الثمانين ، فإذا به بعد ان استأذن في الانصراف عن لقاء القارىء على الورق ، يدخل الى بيته من خلال احاديثه و حواراته التليفزيونية الممتعة ، كما سبق الذكر.
عاصر الاستاذ هيكل الملك فاروق و حصل مرتين على جائزة الصحافة التي تحمل اسمه. أسطورته بنيت من خلال قدرته على الالتزام ببرنامج بالغ القسوة تابع فيه آخر إنتاجات المطابع من كتب و مراكز الفكر و الأبحاث من دراسات ، إلى جانب زياراته المهنية المتعددة لمختلف دول العالم التي كان يجدد من خلالها شبكة إتصالاته الواسعة التى لم يملك أي صحفى نظيرا لها. و لمن عاشره عن قرب فقد كان آخر من يعرف الغرور رغم أنه يملك بشدة أسبابه ، لكنه كان رحمه الله شديد الاعتزاز بذاته.
“ليـس فى الموت ما يخيف..أظن أننى اقتربت من الوقت الذى يمكن أن أفكر فيه فى هذا الموضوع ولا أظن أن الفكرة تفزعنى.. لقد كتبت ظرفا مقفولا مع زوجتى وفيه نعيى وراسم فيه جنازتى.. الموت لا يخيفنى.. عندما تعملين فى الحياة وتنظرين خلفك من غير غضب تشعرين بالرضا وتقولين: ماذا صنعت فى حياتى؟ فبقدر ما استطعت جربت وبقدر ما جربت نجحت أو لم أنجح..لكن فى النهاية الحمدلله أنا راض..” (جزء من حوار فى مجلة نصف الدنيا مع الصحفية سناء البيسى قبل سنوات قليلة). “منذ يومين.. كنت أهاتف الدكتور أحمد هيكل ابنه الأوسط ، أطمئن على صحة الأستاذ ، بعد أن حال مرضه الشديد دون أن أزوره فى مكتبه أو بيته ، والتقى به كما اعتدت منذ 5 سنوات مرتين او مرة كل اسبوع. أدركت من كلام الدكتور أحمد أن الأستاذ كما اختار حياته و حدد محطاتها باليوم والساعة ، اختار أيضا نهايته ، فقد نزع أنابيب المحاليل والغسيل الكلوى ، وتوقف عن تناول الدواء ، وكف عن الطعام. وقال لأسرته: لن اتحدى حقائق الطبيعة أكثر مما تحديتها ، وحان وقت الانصراف ” (من مقال ياسر رزق رئيس تحرير الأخبار المصرية بتاريخ 18 فبراير 2016).
هكذا كان إذن أستاذ الصحافة العربية محمد حسنين هيكل ، أشياء كثيرة قد تشعر أمثالي ، ممن كانوا متابعين له ، بغيابه. فقد كان بالنسبة لنا ، من خلال كتاباته و تحاليله ، مصدرا للتفاؤل و بكون الغد سيكون أفضل. من حسن حظ الاجيال الحالية و القادمة تركه لرصيد غني ضامن لاستمرارية فكره لان قدر “الكبار” أمثال هيكل أن لا يغيبوا رغم مماتهم.