في هذه المعركة تظهر قوة الدستور الذي يسند الملكية الديمقراطية البرلمانية، فقد كانت العاصمة قد لجأت إلى تعطيل الاستفتاء بمستند دستوري، عبر المحكمة الدستورية، التي اعتبرت أن الاستفتاء غير دستوري لأنه لم يضم البلاد كلها( ألا يذكرهم هذا بموقف عبد الرحيم بوعبيد الذي طالب باستفتاء في المغرب كله حول الصحراء وليس الأقاليم الجنوبية وحدها )…
لم تتردد مدريد في استعراض كبير للقوى من أجل إرسال رسالة رفض للاستفتاء الذي يعزم الانفصاليون الباسكيون إجراءه، وربما لم تعرف الدولة الملكية البرلمانية الديموقراطية لحظة تعادل الرهان الحالي، إلا في لحظات المحاولة الانقلابية للتراجع عن الديمقراطية..
اسبانيا الانتقال والملكية البرلمانية والدرس الديمقراطي في العالم ما بعد 1975، ووفاة فرانكو، لا تتنازل عن قيمتين من قيمها الأساسية: الوحدة والديمقراطية.
قد يكون البعض رأى في نزول الجيش والعسكرة المفرطة نوعا من إحياء كل شياطينها القديمة، وكل أشباح الفرانكوية، لكن الذي يسند اسبانيا الحديثة في المعركة التي تقودها باسم المؤسسات هو دستورها ووحدة بلادها..
بالنسبة للانفصاليين الكاطالانيين” Ara es l’hora” حان الوقت باللغة المحلية.. لتنظيم الاستفتاء حول الاستقلال .. وهم يبحثون في ثراء بلادهم الاقتصادي والثقافي عن مشروعية دولة في الحلم القديم، حلم ما قبل الديمقراطية والتعددية..
فالبعد الثقافي اللغوي، بتميزه وتمثله الخاص لهويته، كان دوما حاضرا بقوة، غير أن كاطالونيا، تاريخيا، لم تكن أبدا دولة مستقلة، حتى تعيد بالحنين بناء دولتها الغابرة، فهي تراود نفسها اليوم، على قواعد ليست كلها هوياتية وثقافية..
ولعل النقطة التي عززت هذا التوجه جد حديثة ولا تمتد في التاريخ العريق للدولة، والإقليم، إذ كان رفض اسبانيا في 2010 لتعديل جاء به الكاطالونيون بخصوص توسيع دائرة الحكم الذاتي التي تتمتع به كاطالونيا من لدن المحكمة الدستورية… هو الذي ساق النزعة المتطرفة في الاستقلال إلى الواجهة..
وقد أصبح تاريخ العيد الوطني الكاطالاني (لا ضياضا) يوما للتظاهر، منذ ذلك الوقت، من أجل الدفاع عن فكرة كيان مستقل للكاطالانيين..
فكاطالونيا الغنية، أقوى إقليم في اسبانيا بنحو 8 ملايين نسمة، تشارك بما يناهز العشرين في المئة في ثروة البلاد الموحدة.. وهي تسير من طرف برلمان إقليمي خاص بها وحكومة محلية تتولى الملفات الاجتماعية بالأساس.. ويكفي لمعرفة قوتها أن نذكر أن عاصمتها، برشلونة تعد قبلة دولية، كما هي ثاني أكبر مدينة في البلاد.. وقد يرى البعض أن جزءا من الرغبة في الاستقلال مرده إلى الشعور العميق بأن كاطالونيا تعطي للدولة الفدرالية أكثر مما تأخذ، وأن وضعها سيكون أحسن لو أنها تتولى ثروتها كلها عوض نظام المحاصصة في التضامن بين الجهات….
وعلى كل، فإن الدولة الموحدة لا تقبل أي ذريعة اقتصادية في هذا التململ غير المسبوق، وتركز على الدستور في تمتين روابطها الترابية..
البنية الحزبية تبدو في حالة شبه عاجزة: الحزب اليميني له تاريخه الذي لا يتنازل عنه القادة والقاعدة .
الاشتراكيون مع أفق توسيع الحكم الذاتي لكن دون الوصول إلى القطيعة الترابية.
“سويضاضانوس”، الذي حصل على نسبة مهمة من الأصوات في كاطالونيا نفسها يقوم بحملة شرسة ضد الانفصال في حين” ”بوديموس”” يتفهم مطالب الاستقلال، وينزع إلى تسامح أكبر معها..
وفي هذه المعركة تظهر قوة الدستور الذي يسند الملكية الديمقراطية البرلمانية، فقد كانت العاصمة قد لجأت إلى تعطيل الاستفتاء بمستند دستوري، عبر المحكمة الدستورية، التي اعتبرت أن الاستفتاء غير دستوري لأنه لم يضم البلاد كلها( ألا يذكرهم هذا بموقف عبد الرحيم بوعبيد الذي طالب باستفتاء في المغرب كله حول الصحراء وليس الأقاليم الجنوبية وحدها )…
والمادة الثانية من الدستور تنص صراحة على كيفية تنظيم العلاقة بين ”وحدة الوطن والحق في تقرير المصير”، بلا مواربة، وهي القاعدة التي تم على أساسها رفض قرار إجراء الاستفتاء، وهو المبدأ الذي “يعترف بالحق في الحكم الذاتي وليس الانفصال. »
هناك ولا شك رهان قوة واضح بين الانفصاليين، الذين يعرفون بأن الاستفتاء له، في الوقت الراهن، حمولة رمزية أكثر منها مستتبعات لقيام الدولة، لكنه في المقابل سيزيد من التوتر بين الكيانين مما لا تحمد عقباه..